في ظل تطور قطاع المنتجات الفاخرة وتزايد اعتماده على العمل الآلي، تواجه اليوم تقنيات حرفية متوارثة منذ قرون خطر الانقراض. 

 

هذا الشهر، كان من المقرر أن تُشرع أبواب متاجر عدة للبيع بالتجزئة في لندن أمام قلة من المحترفات. فشركة جورج جنسن كانت ستستقدم أحد كبار صائغي الفضة من كوبنهاغن لعرض أسلوبها في صياغة أدوات المائدة والكماليات، فيما شركة سافوار ستسلط الضوء على أولئك الذين يصنعون فُرُشها المريحة. أما شركة تشورشيز، فكانت ستكشف عن مهارات الإسكافيين لديها في إصلاح الأحذية، مستعرضة في سياق ذلك جودة المواد المستخدمة في أحذيتها وتفوّق تقنيات تصنيعها. وبعد أن ينعم الزوار بهذه اللحظات التي تتيح استكشاف خفايا هذه الصناعات، يتواصلون مع عدد من الحرفيين المستقلين ليتعلموا كيف يصوغ المختصون في حبك السلال وصنع القبعات النسائية ابتكاراتهم، وكيف يشقون طريقهم في عام 2020. 

 

 تمارس كيارا فيغو حرفة قديمة تتمثل بغزل حرير البحر. الصفحة المقابلة: بيدرو دا كوستا فيلغويراس يمزج الطلاء مستخدما تقنية عتيقة الطراز.

تمارس كيارا فيغو حرفة قديمة تتمثل بغزل حرير البحر.
الصفحة المقابلة: بيدرو دا كوستا فيلغويراس يمزج الطلاء مستخدما تقنية عتيقة الطراز.

 

تندرج هذه الأنشطة كلها ضمن النسخة السادسة من المهرجان السنوي لأسبوع لندن للحرف. وفي هذا يقول جوناثن بورتون، المدير العام لأسبوع الحرف: «ثمة نظام بيئي قوي للفنون الجميلة يدعمه قطاع صالات العرض الفنية. ولكن لا تتوافر شبكة مماثلة لمساندة الحرف. فكثير ممن ينتجون أعمالاً حرفية رائعة يجاهدون للعثور على سوق لها.» حفزت هذه المهمة الشاقة تأسيس منظمات عدة مختصة بالحفاظ على الحرف التراثية، مثل منظمة Nordic Safeguarding Practices لممارسات صون الحرف في الدول الاسكندنافية، والمجلس الأمريكي للحرف American Craft Council في الولايات المتحدة الأمريكية، وجمعية Heritage Crafts Association (HCA) للحرف التراثية في المملكة المتحدة.

 

 

بل إن بعض المنظمات أصدرت أيضًا «لوائح حمراء» على غرار قوائم الأجناس المهددة بالانقراض لتصنيف الحرف المعرضة للزوال في المناطق التي تنشط فيها. يقول دانيال كاربنتر، مدير البحوث لدى جمعية الحرف التراثية البريطانية، الذي أشرف على نسخة عام 2019 من اللائحة الحمراء للجمعية: «تسمح لنا هذه اللائحة بتسليط الضوء على الحكايات الخاصة بكل حرفة، وعلى الحرفيين ومهاراتهم وسبل عيشهم.» على الرغم من تضافر مثل هذه الجهود، إلا أن عددًا من الحرف بات على وشك الانقراض إذ لم يبقَ سوى قلة من الأفراد القادرين على الاستمرار في ممارسة تقاليد حرفتهم. تسلط مجلة Robb Report في ما يأتي الضوء على عدد من آخر الحرفيين الذين يواصلون أعمالهم في إيطاليا والمملكة المتحدة والصين. تجسد معارف هؤلاء جزءًا من التراث الثقافي المادي في كل من مناطق وجودهم. والمشغولات اليدوية بديعة الصُنع ليست وحدها المهددة بالزوال. فالتهديد يطال أيضًا تقاليد أسهمت في حقبة ما في صياغة حضارة شعب وتاريخ.

 

 

"لا بد لي من صون ما أمتلكه. يجدر بي أن أحذو حذو جدتي وأبقي هذه الحرفة بمنأى عن الاستغلال التجاري."

 

إذا كانت حيلة رامبلستيلتسكين Rumpelstiltskin (إحدى الشخصيات الشهيرة في قصص الأخوين غريم الموجهة للأطفال) في غزل القش ليصبح ذهبًا تثير العجب، فجربوا غزل لعاب المحار لتحويله إلى قطعة من نسيج ذهبي. تواظب كيارا فيغو منذ خمسين عامًا على استخدام إفرازات الرخويات لإنتاج حرير البحر، وهو نسيج قديم فضله ملوك بلاد ما بين النهرين والأباطرة الرومان بسبب لونه البراق وأليافه المتينة على الرغم من خفة وزنه. في كل ليلة من شهر مايو أيار، عندما تبدو الظروف المناخية واعدة ومؤاتية، تمارس فيغو الغوص الحر في مياه البحر الأبيض المتوسط قبالة ساحل موطنها في جزيرة سانت أنتيوكو الإيطالية الصغيرة، فتغوص نحو مئة مرة أو بقدر ما يتطلبه الأمر للعثور على ما يكفي من خصل لعاب المحار المتجمد. يُعتقد أن فيغو هي آخر حرفية في العالم تغزل لعاب المحار لتنسج منه حرير البحر.

مارست النساء في عائلة فيغو هذا التقليد على مر أجيال، وتعلمت الحرفية البالغة من العمر خمسة وستين عامًا أصوله التقنية من جدتها. وفي هذا تقول: «لم يكن الوقت الذي أقضيه في متجرها كافيًا قط. أحببتُ عالمها، ووافقتها الرأي في ما يتعلق بوجوب إنقاذ هذه الحرفة، لذا صقلتُ معارفي في علم الأحياء البحرية.» عملت فيغو في محطة محلية للزراعة المائية، ووضعتها تجربتها هذه على تماس مع الحيوان الذي يتيح إنتاج حرير البحر. إنه محار بينا نوبيليس، الذي يُعرف باسم المحار الصدفي المروحي والذي يمكن أن ينمو ليبلغ أربع أقدام طولاً. تتخذ إفرازات هذا المحار، المعروفة باسم النُسالة، شكل خيوط يستخدمها لتثبيت نفسه إلى قاع البحر. يستطيع وحده خبير متمرس تحويلها إلى حرير. لكن مهمته تبقى بالرغم من ذلك شاقة. تغطس فيغو مئة مرة لتجمع قرابة 300 غرام من المادة الخام، وبعد أن تحصد النُسالة بكثير من الحذر للحؤول دون إيذاء الرخويات، تحفظ الخصل في المياه العذبة التي تغيرها كل ثلاث ساعات على مدى خمسة وعشرين يومًا. تُمشط بعد ذلك العُقد بالفرشاة متأنية في إتمام هذه الخطوة الدقيقة لأن سُمك النُسالة قد يكون أقل من ثلث سُمك شعر الإنسان. تُبرم لاحقًا الخيوط على مغزل من خشب العرعر لتتحول إلى خيوط حرير، وتُنقع في مزيج سري من عصير الليمون والطحالب. تلمع الخيوط بعد ذلك مثل الذهب، وتنسجها فيغو على النول لتصنع منها قطعة قماش. تكرر الحرفية هذه الخطوات مرارًا لأن المحارة الواحدة لا تُفرز عادةً سوى كمية ضئيلة جدًا من النُسالة تكفي بصعوبة لإنتاج خمسة سنتيمترات من الحرير الثمين.

 

فيغو تجلس أمام نولها في جزيرة سانت أنتيوكو الإيطالية.

فيغو تجلس أمام نولها في جزيرة سانت أنتيوكو الإيطالية.

 

على الرغم من العمل المضني الذي تقتضيه المهمة، ترفض فيغو الاستفادة ماليًا من حرفتها. أصرت عليها جدتها لأداء «قسَم البحر» قبل انطلاقها في رحلة الغوص الأولى، ما يحظر عليها بيع أعمالها. عوضًا عن ذلك، تقدم الحرفية نسيج الحرير إلى زوار محترفها ممن ترى أنهم في أمس الحاجة إليه. وفي هذا تقول: «لا بد لي من صون ما أمتلكه. يجدر بي أن أحذو حذو جدتي وأبقي هذه الحرفة بمنأى عن الاستغلال التجاري.» 

لا تُعد حرفة فيغو مهددة بالزوال لأنها آخر شخص يمارسها على كوكب الأرض فحسب، لا سيما وأن ابنتيها لما تمتهنا الصنعة بعد، ولكن لأن المواد المستخدمة فيها عرضة للانقراض أيضًا. منذ عام 2016، تسببت جرثومة في هلاك أعداد كبيرة من المحارات الصدفية المروحية، فأدرجها الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة في شهر ديسمبر كانون الأول على لائحة الأجناس المهددة جديًا بالانقراض. لكن فيغو غير مستعدة للمساومة عندما يتعلق الأمر باختيار المتدرب المناسب. وفي هذا تقول: «لا يمكنني أن أعهد بهذه الحرفة إلى أي شخص يبحث عن عمل. فهي تقتضي أن يكرس لها المرء كامل حياته.» 

 

حرفية لدى أنغرايفز تصنع منضدة تزهو بأطر من الخيزران تتموج مثل طيات القماش.

حرفية لدى أنغرايفز تصنع منضدة تزهو بأطر من الخيزران تتموج مثل طيات القماش.

 

ليست فيغو الوحيدة التي تناضل لتجنيد طالب جدير بحرفتها. فعلى البر الرئيس لإيطاليا، يشعر حرفي آخر بالريبة تجاه مستقبل مهنة مارسها طيلة حياته. أتقن مارينو مينيغاتزو، المتمرس في طَرق الذهب، حرفة تتطلب منه، على ما يشير اسمها، طرق سبائك الذهب لتحويلها إلى صفائح رفيعة جدًا لا يتعدى سُمكها خمسة أجزاء من مليون جزء من السنتيمتر الواحد. إنه آخر شخص في إيطاليا، وعلى الأرجح في كل أوروبا، يواظب على تشكيل أوراق الذهب بيديه (وبالمطرقة). يُعد هذا الواقع مؤلمًا جدًا لمينيغاتزو البالغ من العمر 66 عامًا، إذ إنه عمل طيلة حياته في البندقية، المدينة التي عرفت حرفيي طرق الذهب على مدى تاريخ طويل. ففي القرن السابع عشر مثلاً، عمل فيها أكثر من 300 حرفي في الوقت نفسه، وكانت أوراق الذهب التي يصنعونها يدويًا تملأ قصور المدينة وأعمال الفسيفساء فيها. يمكن أيضًا العثور في المدينة الغارقة على أعمال مينيغاتزو، وأبرزها الذهب المطرق الذي عمل عليه للتمثال الذي يعلو فوق قمة برج الساعة في كاتدرائية القديس مرقس. (تتنوع المشاريع التي أوكلت إلى هذا الحرفي، فيسهل العثور على مشغولاته اليدوية في زينة أقنعة الوجه التجميلية وفي زينة بعض أطباق الطعام من حول العالم.) يستخدم منافسوه اليوم الآلات عوضًا عن العمل اليدوي لكبس سبائك الذهب وتحويلها إلى صفائح، لكنه طريق مختصر لا يبدي مينيغاتزو وأفراد عائلته أي استعداد للمضي فيه.  

 

 

"يشكل المتدرج في مرحلة البدايات على الأقل خسارة مالية، الأمر الذي يفرض خطرا جديا على المشاريع الصغيرة."

 

تقول ابنته إليونورا التي تساعد في مهام التغليف والمبيعات: «افتتح جدي مختبره هذا عام 1926. إن ما يصنعه والدي لا يشبه غيره من الذهب. فهنا يبتاع الزبون عاطفة وروحًا، وليس صفيحة معدنية فحسب.» تتولى إليونورا وتوأمتها وأمهما بعض المهام في المحترف، لكنهن لا يمتلكن الرغبة في طرق الذهب أو الخبرة اللازمة لذلك. وفي هذا تقول:» حاولنا لسنوات عدة العثور على شخص يمكنه تعلم هذه الحرفة، إلا أنها صعبة جدًا. إنها تقتضي التحلي بالقوة وتناسق الحركة وحِدَّة الذاكرة والشغف. إن لم يحبها المرء، فإنه لن يستطيع ممارستها. إنه أمر مستحيل.»

لا تذكر إليونورا القوة على سبيل المزاح. فتشكيل ورقة من الذهب يقتضي العمل بالتناوب على أربع مطارق ثقيلة يتفاوت وزنها بين ثمانية عشر رطلاً، وثلاثة عشر رطلاً، وتسعة أرطال، وسبعة أرطال. لا بد من الاستمرار في طرق المعدن لمدة تصل إلى ساعتين (أي طرق السبيكة لنحو ثلاثين ألف مرة). وفي نهاية يوم عمل واحد، لن يكون بمقدورك التباهي بإنجاز سوى ما يزيد على ورقتين إلى أربع ورقات. كما أن طرق المعدن ليس سوى خطوة واحدة من سلسلة الخطوات التي تنطوي عليها عملية معقدة أصلاً تشمل تذويب سبيكة الذهب من عيار أربعة وعشرين قيراطًا، وإعادة تشكيلها في قالب صغير، وتمريرها عبر أسطوانة ثم تقطيعها إلى مربعات بحجم طابع بريدي. ولكن لِمَ يتكبد الحرفي هذا العناء؟ على ما يوضح آل مينيغاتزو، تُعد ورقة الذهب المصنوعة يدويًا أكثر رقة ومرونة من تلك المصنعة باستخدام الآلات. لكن قلة من الناس يقدرون هذا الاختلاف. تتحسر إليونورا قائلة: «لم نرَ زيادة كبيرة في الطلب على مر السنوات. لكننا نبذل جهدنا. يرغب والدي في تصنيع آلة يمكنها محاكاة طرقاته». لا شك أنه الاعتراف الأخير بإذعان مينيغاتزو لاحتضار حرفته.

 

فيلغويراس في محترفه بلندن.

فيلغويراس في محترفه بلندن.

 

يقول كاربنتر: «من الصعب جدًا تعلم حرفة أو إحياؤها بالاعتماد على الموارد فحسب. ففي التدرج المهني الفردي، يساعدك الحرفي، الذي تتعلّم على يديه، على معرفة أخطائك. لكننا نفهم أنه لا يمكن لكثيرين الابتعاد عن مسار إنتاجهم بغية تدريب متدرج. يشكل المتدرج، في مرحلة البدايات على الأقل، خسارة مالية، الأمر الذي يفرض خطرًا جديًا على المشاريع الصغيرة.» 

إنها مهمة صعبة بلا شك، ولكنها ليست مستحيلة. في بكين، وعلى بُعد آلاف الأميال من حرفتي مينيغاتزو وفيغو اللذين يفتقران إلى المتدرجين، تمرس جانغ سياودونغ بمفرده على دور الحرفي الخبير الجديد في فن كان منسيًا، ولم يكن له من معلم سوى التاريخ. وقع اختياره على حرفة تجليد الكتب بأسلوب حراشف التنين، وهي ممارسة قديمة يعود تاريخها إلى سلالة تانغ الحاكمة، إلا أنها انقرضت في القرن السابع عشر خلال غزو منشوريا. يتسم العمل وفقًا لهذا الأسلوب بخصائص الكتاب والمخطوطة على حد سواء، إذ يمكن تشكيل الكتاب في هيئة لفافة ولكنها تكشف لدى بسطها عن صفحات مترابطة. يُطبع جزء صغير من صورة أكبر حجمًا إلى أقصى اليمين من كل صفحة، وتتداخل الصفحات الأشبه بحراشف التنين بحيث تُشكل لدى بسطها في وضع مسطح صورة كاملة قد تمتد بعرض مئة قدم أو أكثر. لاقت مثل هذه الكتب تقدير النخبة قبل ألف سنة، ويرتب جانغ اليوم أعماله الحديثة للمعارض بأسلوب يحاكي تنسيق المنحوتات. يقول ينغ كووك، منسق المعارض الذي اختار من أعمال جانغ كتاب Diamond Sutra لمعرض نظمه عام 2018 في هونغ كونغ: «استعنا بعارض لتقديم الكتاب، فارتدى زوجًا من القفازات بيضاء اللون واستخدم أداة خاصة صممها الفنان نفسه لقلب الصفحات على نحو يتيح تقدير كامل محتواها المعقد.» 

 

كتاب Dream of the Red Chamber، من روائع أعمال سياودونغ الحرفية.

كتاب Dream of the Red Chamber، من روائع أعمال سياودونغ الحرفية.

 

لم يتقن جانغ هذه التقنية سوى بعد قيامه ببحوث مكثفة. درس على وجه الخصوص في متحف قصر المدينة المحرّمة The Forbidden City Palace حيث يُعرض أحد آخر الكتب القديمة المجلدة باستخدام تقنية حراشف التنين. عكف الفنان على التمعن في هذه التحفة قبل محاولة استنساخها، وجمع في سبيل ذلك مواد أصلية مثل ورق الأرز والخيزران والخشب. ويُعد مستوى الدقة هذا مفتاح النجاح هنا. فعند تقطيع الورق، قد يؤدي أدنى خطأ، وإن لم تتعد مساحته جزءًا من مئة جزء من السنتيمتر، إلى انحراف الأوراق وعدم اتساقها. اكتفى جانغ بتصنيع عدد محدود من الكتب المجلدة على شكل حراشف التنين منذ أن بدأ بهذه الحرفة عام 2010، وذلك بسبب الوقت الذي يستغرقه جمع كل كتاب. بلغ عدد الصفحات في أطول كتاب جمعه 1766 صفحة وقد احتاج إلى العمل أربع سنوات لإنجازه. يقول جانغ: «عندما سمعتُ للمرة الأولى بحرفة تجليد الكتب على شكل حراشف التنين، لم أنظر إليها بوصفها تقنية قديمة، بل فكرتُ فورًا في مستقبلها. شعرتُ بالطاقة الحيوية المميزة لهذا الفن.» 

إنه انبعاث يستحق أيضًا الاحتفاء به في سياق أوسع نطاقًا لأن حرفة تجليد الكتب يدويًا باتت من أكثر الحرف عرضة للانقراض عالميًا. فهذه الممارسة التي كانت محط تبجيل في الماضي قد أقصيت على نطاق واسع بسبب الآلات التي تُنتج المجلدات بسرعة أكبر وكلفة أقل. ومن ثم، تُعد أي مدينة متميزة جدًا إذا ما وجد في أرجائها حرفي واحد يمتهن تجليد الكتب. يحتكر هذه الحرفة في القاهرة متجر عبد الظاهر، وفي مدينة هو شي مين الحرفي فو فان رانغ. يسوق متجر هنري بوك بايندينغ Henry Bookbinding لنفسه كذلك بوصفه آخر متجر لتجليد الكتب يدويًا في حي لوير إيست سايد في منهاتن، علمًا بأن هذا الحي كان يشكل في مرحلة ما مركزًا مزدهرًا لهذه التجارة. يقول هيوغو ماكدونالد، الذي جاب العالم للحديث إلى حرفيين عدة في سياق التحضير لمعرض Useful/Beautiful (أو مفيد وجميل) الذي نسقه السنة الفائتة في صالة هيروود هاوس Harewood House  بمدينة ليدز الإنكليزية: «يصنع الإنسان الكتب يدويًا منذ آلاف السنين، ومن المخيف أن نتخيل زوال هذا الفن في زماننا. لا شيء يماثل كتابًا صُنع يدويًا من الصفر.»  

 

كتاب Diamond Sutra الذي جلده جانغ سياودونغ بأسلوب حراشف التنين.

كتاب Diamond Sutra الذي جلده جانغ سياودونغ بأسلوب حراشف التنين.

 

على ما هو عليه حال جانغ، علَّم بيدرو دا كوستا فيلغويراس نفسه أصول حرفة تكاد تندثر. وإن كان من شيء فعله معلموه، فهو محاولة دفعه إلى التنكر لما تعلمه. يتذكر فيلغويراس ما حدث، فيقول: «عندما أخبرت واحدة من أساتذتي للمرة الأولى عن أصباغ الورنيش التي أعمل عليها، نصحتني بأن أتخلص منها لأنها تتطلب عملاً شاقًا ولا أحد يرغب في استخدامها». لكن ما يبعث على السرور هو أن الفنان الذي يتخذ من لندن مقرًا له لم يلق أذنًا صاغية لنصيحة أستاذة مادة الحفظ والاستعادة. بل إنه تعمق أكثر في عالم أصباغ الطلاء من خلال مخطوطة بعنوان «دراسة عن الطلاء بالورنيش وورنيش الكوبال» تعود إلى عام 1668. جمع فيلغويراس بعد ذلك الأصباغ الخاصة بطلاء اللك وغير ذلك من الألوان ليستنسخ وصفات منسية استُخدمت قبل قرون. وفي هذا يقول ضاحكًا: «أعتقد أنني توصلتُ إلى تلك الوصفات بسبب إصراري. رحت بداية أقوم بالتجارب وهكذا تطور الأمر. علقتُ في شباك هذه الحرفة.» لكن تصنيع منتجاته، التي تُستخدم اليوم في أعمال استعادة التصاميم الداخلية الراقية، ليس بالمهمة السهلة، إذ قد يصعب، حتى على فيلغويراس المقدام، العثور على بعض الأصباغ. على سبيل المثال، لم يبق سوى رجل واحد يبتكر لأجله مزيج الأصباغ الأزرق. يقول فيلغويراس: «لقد بات الآن كهلاً، ولا أدري من أين سأجلب هذا المزيج بعد وفاته.» يطحن فيلغويراس أصباغه يدويًا، ثم يضيف بعض الزيوت لصنع الطلاء، فيبتكر ألوانًا أكثر حيوية تدوم لوقت أطول مقارنة بمنتجات الطلاء المتوافرة في محال بيع المستلزمات. (بل إنه يتحدث بازدراء عن ألوان العصر الحديث واصفًا إياها بالألوان البلاستيكية). بموازاة ذلك، ضاعت عبر التاريخ بعض الظلال اللونية، مثل الأصفر الهندي المصنوع من بوْل الأبقار التي تتغذى حصريًا على أوراق أشجار المانغو، أو لون المومياء البني الذي يتكون من فتات المومياء المصرية المطحونة. 

 

 

"لا شيء يماثل كتابا صنع يدويا من الصفر."

 

إذا ما سألنا القيّمين على معظم المهرجانات الحرفية عن الورقة الرابحة للحرفيين، فإنهم سيجيبون بأن فائدة هذه الأنشطة تكمن، بالإضافة إلى عرض مهاراتهم أمام الجمهور، في تشجيع أشكال جديدة من التعاون عبر الجمع بين حرفيين مستقلين وعلامات تجارية رفيعة المستوى. يقول بورتون، من مهرجان أسبوع لندن للحرف: «يجتمع في هذا النشاط أفراد يمتلكون مهارات تقليدية فذة للغاية. ونتطلع قدمًا إلى معرفة إذا ما كانت الفرص متاحة أمامهم لاستخدام مهاراتهم في سياق مختلف. يثمر المهرجان عن وفرة في أشكال التعاون الإبداعي. فالناس يلتقون ويتبادلون الأحاديث.» لا شك في أن قصص النجاح تتحقق، إن لم يكن في أسبوع الحرف، فمن خلال وسائل اكتشاف أخرى. في عام 1996، ابتاعت على سبيل المثال علامة شانيل دار ميزون لومارييه Maison Lemarié، أحد آخر المحترفات المختصة بمشغولات الريش الزخرفي، وذلك بعد سنوات من التعاون الناجح بينهما. كما استحوذت مجموعة إل في إم إتش LVMH سنة 2012، في سبيل تطوير منتجاتها الجلدية، على محترف لي تانري رو Les Tanneries Roux، أحد آخر المحترفات الفرنسية المختصة في إنتاج جلد العجول. 

 

مارينو مينيغاتزو يعمل على شريط من الذهب في محترفه بمدينة البندقية.

مارينو مينيغاتزو يعمل على شريط من الذهب في محترفه بمدينة البندقية.

 

لمحترف أنغرايفز Angraves، المختص في حبك الخيزران في مقاطعة ليسترشير الإنكليزية حكاية تشبه قصصًا أخرى عن حرف جرى إنقاذها مع بلوغها شفير الهاوية. بعد أن نشطت العائلة التي تمتلك الشركة لنحو مئة عام في قطاع صناعة المفروشات من الخيزران، أعلنت في عام 2010 عن إفلاسها. لم يبقَ من موظفيها الخمسة والثلاثين سوى موظفين يجيدان تقنيات العمل التقليدية، تمرس كل منهما في هذه الحرفة على مدى يزيد على أربعين عامًا. هبت لإنقاذ الشركة آنذاك لولو ليتل، المؤسسة المشاركة في مصنع سوان بريتن للمفروشات، والتي كانت زبونة لدى أنغرايفز على مدى سنوات طويلة. تقول ليتل: «لم أدرك صعوبة العثور على أولئك الحرفيين المختصين في حبك الخيزران إلا عندما أردت شراء أريكة من العصر الإدواردي مصنوعة من الخيزران.» وتضيف قائلة: «كان دافعي هو الخوف من خسارة هذه المهارات المتخصصة في إنكلترا إلى الأبد، والحاجة بصراحة إلى تلبية طلبات زبائني. لذا عمدت إلى شراء المواد والآلات من القيّمين على إدارة أنغرايفز وأعدت بناء المحترف.» يخضع المحترف اليوم لإدارة ليتل ومصنع سوان، ويبقى الوحيد المختص بمشغولات الخيزران في بريطانيا، فيسهم في الحفاظ على حرفة كانت منتشرة على نطاق واسع في إنكلترا وفي أوروبا القارية في القرن التاسع عشر. تُعزى ندرة ممارسي هذه الحرفة إلى الجهات المنافسة التي تُؤْثر أساليب الإنتاج الأسهل والأسرع والأقل كلفة. فعوضًا عن استخدام نبات الخيزران الأصلي وتشكيله يدويًا، يستورد كبار المصنعين مادة أرخص ويستخدمون الآلات في ثنيها. لم يكن محترف أنغرايفز الوحيد الذي عانى بسبب ذلك. باتت أريكا لارسون هي أيضًا آخر حرفية مختصة في حبك الخيزران في السويد. ويعد غو كيوك سينغ وابنه نفسيهما الحرفييْن الوحيدين اللذين يمتهنان هذه الصنعة اليوم في سنغافورة.

يتطلب تصنيع قطعة واحدة من الخيزران أيامًا أو أسابيع أو أشهرًا. عندما تصل الجذوع، ينبغي أولاً أن تُنقع وتُعرض للبخار لتصبح طرية على نحو يتيح حبكها. ولا تيبس الجذوع وتثبت على شكلها الجديد إلا بعد أن تجف. يستغرق فهم المادة وكيفية ثنيها دون كسرها وقتًا، ويتطلب اختبار ذلك بالتجربة. وفي هذا يقول ميك غريغوري، أحد المخضرمين في المهنة: «صحيح أن المهمة مجزية، لكنها تتطلب عملاً مضنيًا.» يتذكر غريغوري أن العمل استمر في محترف أنغرايفز طيلة شهرين في سبيل حبك أريكة مصممة بطول أربع وثلاثين قدمًا في هيئة الحرف U، فيما استغرق إنجاز خلفية لسرير طلبها زبون أمريكي قرابة شهر كامل. 

لكن ما لا يحتاج محترف أنغرايفز إلى القلق بشأنه هو المتدرجون. فقد أطلق مصنع سوان برنامج إرشاد لتشجيع مجموعة جديدة من المختصين في الحبك على الانضمام إلى المحترف، الأمر الذي يضمن الحفاظ على هذه الحرفة لجيل إضافي. يبلغ عدد فريق العمل في المحترف اليوم أربعة عشر حرفيًا، وفي ذلك يقول غريغوري: «انضم إلينا أحد أفراد الفريق منذ شهرين فقط، وأعمل معه على نحو وثيق لأنقل معارفي إليه.» هذا ما يعتمد عليه مستقبل هذه الحرفة.