التحديات البيئية ومتطلبات المستهلكين تفرض حصارا جديا على مستقبل قطاع المنتجات الفاخرة،

والشركات وحدها الأكثر جرأة وإبداعا تضمن استمراريتها.

 

تصوّر مثلاً أنك تعود إلى منزلك في أعقاب عطلة نهاية أسبوع ترفيهية أمضيتها في الريف، وتوصل سيارتك من طراز تيسلا بواحد من المقابس الكثيرة المتوافرة في كل زاوية من زوايا مرآب شقتك الخاصة، والمتوافقة مع أي مركبة كهربائية. أو ربما تركن سيارتك الكهربائية التابعة لمنصة تشارك المركبات إنفوي Envoy إلى جانب الأسطول المخصص للمبنى الذي تسكن فيه. تمرّ بعد ذلك بأشجار المستنبت الزجاجي التي تعلو حتى ارتفاع عشرين قدمًا، والجدار الحيّ المصمّم في هيئة مرج أخضر والمرتفع بامتداد سبع طبقات، مشكلاً جزءًا من نظام تنقية الهواء في المبنى. وفيما تتأمل في فكرة الغوص في حوض السباحة ذي المياه المالحة، تبلغ شقتك لتجد نفسك مطلاً على بهاء مشهد الغروب فوق مانهاتن، هذا المشهد الذي تتيحه واجهات زجاجية عازلة ترتفع من الأرضيات إلى السقف وتتسم، بسبب انخفاض معدلات الحديد في الزجاج البلوري المكوّن من ثاني أكسيد السليكون، بدرجة نقاء تُقصي الحاجة إلى الضوء الاصطناعي في أوقات النهار.

 

أما التزام المبنى الذي تقطن فيه بخفض معدل النفايات إلى صفر، فيعني تراجع عدد حاويات النفايات أمام مستوعبات السماد وحاويات إعادة تدوير أي نوع من الأغراض، من الملابس القديمة إلى الأجهزة الإلكترونية، فضلاً عن استبدال الحقائب المدولبة الصغيرة بالأكياس البلاستيكية السوداء التي كانت تُترك عند حافة الرصيف في يوم جمع القمامة. وعندما انتقلت إلى هذا المبنى، عمد عمّال الشركة الصديقة للبيئة التي استعنت بها إلى نقل مقتنياتك في صناديق صالحة لإعادة الاستعمال.

 

«انهمكت ستيلا ماكارتني وفريقها في عملية بحث استغرقت ثلاث سنوات قبل العثور

على غابة في السويد تخضع لأساليب إدارة مستدامة وتوفر سلسلة توريد للفيسكوز يمكن تعقب مختلف عناصرها»    

 

الواقع هو أن هذا المبنى الذي يستثير في النفس شعورًا بالراحة والسعادة لا يجسّد مشروع أطروحة تصوّرية لأحد الطلاب في مرحلة التخرّج. بل إنه مشروع حقيقي صمّمه رينزو بيانو، وطوّرته شركة بيتزي أند بارتنرز Bizzi & Partners، وجرى افتتاحه مؤخرًا في شارع بروم بحي سوهو في نيويورك. يأتي هذا المبنى في طليعة المشاريع التصميمية السكنية الحضرية التي تلبي متطلبات نمط حياتي مترف يسعى الملتزمون به إلى الحد من تأثيراتهم الضارة على كوكب الأرض.

 

لا يشكّل مفهوم الاستدامة قوة دافعة لمستقبل الرفاهية في مجال التصاميم التجارية والسكنية فحسب، بل في قطاعات السفر، وإنتاج الغذاء، والأزياء أيضًا، إذ بات المستهلكون الأصغر سنًا يبدون رفضهم للطائرات الخاصة التي تستهلك الوقود بنهم، ولغيرها من المنتجات التي تشتمل على نسبة مرتفعة من مادة الأوكتان. في ظل المعطيات العلمية، لا أحد يفترض أن القطاعات بلغت الغاية التي يتعيّن عليها تحقيقها، لكن البدائل المتاحة للمستهلكين الراغبين في القيام بخيارات أفضل لا تنفك تتزايد. فالسفن التي لا تُلقي مراسيها في البحر تفاديًا لإلحاق الضرر بالقاع، والمنتجعات غير المرتبطة بالشبكات الكهربائية والتي يجري تشغيل مرافقها باستخدام الطاقة الشمسية، والمدن الصينية التي تستخدم الأنابيب الهوائية لنقل النفايات عوضًا عن الشاحنات، والأزياء التي يبتكرها مصمّمون باستخدام مواد متجددة أعيد تدويرها، باتت كلها متوافرة أكثر من ذي قبل في ظل توق مستهلكي المنتجات الفاخرة إلى هذه الابتكارات وتزايد الطلب عليها.

 

يقول جون بريكر، المدير الإبداعي لدى شركة جينسلير Gensler، إحدى أضخم شركات الهندسة المعمارية في العالم: «نخوض في هذا المجال محادثات أساسية مع الزبائن كافة، لأنهم يدركون أن هذا ما يرغب فيه زبائنهم.» ويلفت بريكر إلى الأهمية المتنامية للعناصر «المرنة»، على غرار الروابط العاطفية وحسّ القيام بأعمال صالحة، مقابل العناصر الصلبة مثل السعر، فيقول موضحًا: «إن المستهلكين من جيل الألفية يصنعون قراراتهم بناء على العناصر المرنة. إنه موضوع يندرج ضمن أدائهم العاطفي.»

توحي هذه التوجّهات بأن أي نمط حياتي مترف في المستقبل قد يبدو مختلفًا على الأصعدة كافة، من العمليات التي تجري خلف الكواليس للحفاظ على استمرارية المسار الطبيعي للحياة، إلى كل ما نلمسه أو نستنشقه.

 

ستصبح المدن أقل ضجيجًا إذ تحلّ الطاقة الكهربائية محل المحركات التي تعمل بالوقود، وتغيب الشاحنات عن الشوارع بسبب هيمنة تقنيات أكثر كفاءة. تتخيّل سارة كوري – هالبيرن، المؤسِّسة المشاركة في المجموعة الاستشارية حول النفايات ThinkZero في نيويورك، مستقبلاً يكاد يخلو من شاحنات رفع النفايات، وتتوقّع عوضًا عن ذلك تمييع النفايات العضوية في موقعها واستخدامها لإنتاج الطاقة للمباني.

فضلاً عن ذلك، ستتحول الطاقة المتجددة إلى جزء معتاد من الحياة في كل منزل. يستشرف أليساندرو بالاورو، المدير العام لدى شركة بيتزي أند بارتنرز، اعتماد أنظمة الطاقة الهوائية فوق الأسطح، والبطاريات في الجدران لتخزين الطاقة التي يجري إنتاجها باستخدام الألواح الكهربائية الضوئية.

 

 

 

 

كما ستصبح الحدائق المعشوشبة شحيحة، لا سيّما في مناطق الغرب الأمريكي القاحلة، لأن القرارات اليومية ستأخذ في الحسبان، وعلى نطاق واسع، معايير الاستدامة والتأثيرات الاجتماعية. وإذ تتنامى الشفافية حول مصدر المواد ومقدار الطاقة الذي تستهلكه، سيصبح بالإمكان قياس التأثيرات وتحديدها كمّيًا. أما شهادات المصادقة، على غرار تلك الممنوحة من المعهد الدولي للمستقبل الحي International Living Future Institute في سياتل، فستفرض على كثير من المباني أن تكون متجددة المواد والطاقة، ما يعني أن تتفوق تأثيراتها الإيجابية على تلك السلبية.

 

يقول ديفيد بريفيل، أحد مديري الاستدامة لدى جينسلير في نيويورك: «إذا كنت تنفق مبالغ طائلة على منزل فاخر، فإنك ستعلم مكمن التأثيرات التي يخلفها المبنى. كما أنه يتوقّع أن تصبح المنازل والمكاتب أكثر قوة، وأشد مقدرة على الصمود في وجه التأثيرات الحتمية للتغير المناخي العالمي، بما في ذلك مزيد من الفيضانات والحرائق والعواصف.»

 

عمدت شركة جينسلير، التي تهدف إلى الكف نهائيًا يومًا ما عن استهلاك المياه والطاقة في مشاريعها، إلى تعيين مديرين للاستدامة في مختلف أنحاء العالم. عندما يقدّم بريفيل، الخبير في مجال تكييف إعادة استخدام المباني لأغراض أخرى غير تلك الأصلية، والمصمّم المجاز من قبل برنامج Leadership in Energy and Environmental Design (LEED) أو برنامج الريادة في التصاميم البيئية والطاقة، المشورة للزبائن حول الهندسة المعمارية، يأخذ في الحسبان تقنيات البناء التقليدية على غرار استخدام الطين المضغوط، واستحداث فناءات مفتوحة على النسائم. وفي هذا يقول: «من الصعب أن أفصل بين التصميم الجيد والتصميم المستدام، لأن التصميم الجيد يأخذ في الحسبان مختلف المعوّقات.»

 

ربما يتخلّف قطاع الأزياء بكليّته عن غيره من القطاعات الرائدة في هذا التوجّه. لكنّ المعنيين فيه يتطلعون اليوم، في بحثهم عن دور قيادي أوسع نطاقًا، إلى ستيلا ماكارتني التي جعلت من الاستدامة مبدأ راسخًا من مبادئ العلامة التجارية التي تحمل اسمها. كانت ماكارتني، التي التزمت منذ سنوات عدة نظامًا غذائيًا نباتيًا، من أوائل المصممين الذين حظروا استخدام الفراء، والجلد، والريش، في مجموعات الأزياء التي يبتكرونها. وها هي اليوم تصرّ على المضي قدمًا بهذا النهج مستخدمة مواد جديدة مثل مادة «مايلو» Mylo (جلد اصطناعي من الفطر)، ومنتجات تحتوي على مادة بلاستيكية تُحصد من النفايات في البحار والمحيطات، حتى تماثيل لعرض الملابس مصنوعة من مشتقات قصب السكر.

 

في رسالة إلكترونية تصف ماكارتني من طريقها المساعي التي تقوم بها بحثًا عن الحرير النباتي وفراء «كوبا» KOBA النباتي الخالي من الفراء الطبيعي والمشتمل أيضًا على مادة البوليستر معادة التدوير، تقول المصممة: «إن ما يثيرني هو العمل باستمرار على تغيير ما هو مألوف في هذا القطاع. رأيت نفسي مزارعة ولست مصممة أزياء فحسب. لا أقصد ذلك بالمعنى الحرفي، ولكننا في قطاع الأزياء نجيء بوحدة من المحاصيل وننقلها إلى مستوى آخر. نستخدمها في سياق مختلف عن صناعة الأغذية.»

  

«إذا كنت تنفق مبالغ طائلة على منزل فاخر، فإنك ستعلم مكمن التأثيرات التي يخلفها المبنى.

كما أنه يتوقع أن تصبح المنازل والمكاتب أكثر قوة، وأشد مقدرة على الصمود في وجه التأثيرات الحتمية للتغير المناخي العالمي،

بما في ذلك مزيد من الفيضانات والحرائق والعواصف»    

 

وكان رئيس مجلس إدارة مجموعة LVMH ورئيسها التنفيذي، برنارد أرنو، قد أشار إلى مقاربة ماكارتني الصديقة للبيئة بوصفها سببًا لاستثمار مجموعته في علامتها الصيف المنصرم في أعقاب انفصال العلامة عن مجموعة كيرينغ المنافسة. وصرّح أرنو في شهر يوليو تموز المنصرم بقوله: «إننا على قناعة بالإمكانات العظيمة وبعيدة الأمد لدارها.» ولفت إلى أنه يتوقّع أن يساعد تركيزها على الاستدامة والمسائل الخُلُقية في تحديد توجّهات المجموعة. كما تصرّح المجموعة بأن مسؤوليات ماكارتني، في ما يتعلق بتقديم النصح لأرنو واللجنة التنفيذية للمجموعة، لن تقتصر على تنفيذ مخططات استخدام مواد أكثر استدامة فحسب، بل ستتعداها إلى تقديم النصائح حول المبادرات الممكنة على نطاق واسع.

 

تقول ماكارتني: «إن أكثر ما تفخر به هو المسعى الذي أثمر عن توافر نسخة مستدامة من الفيسكوز، هذا النسيج الشائع الذي يتسبّب في قطع نحو 150 مليون شجرة كل عام.» انهمكت المصممة وفريقها في عملية بحث استغرقت ثلاث سنوات قبل العثور على غابة في السويد تخضع لأساليب إدارة مستدامة وتوفّر سلسلة توريد للفيسكوز يمكن تعقب مختلف عناصرها.

 

كان تحقق مثل هذه التطورات أمرًا حتميًا منذ زمن بعيد. فقد مضى ثلاثة عشر عامًا منذ أنتج آل غور، نائب الرئيس الأمريكي السابق، الفيلم الوثائقي المؤثر An Inconvenient Truth «حقيقة مزعجة» الذي حاجج بأن الكرة الأرضية تواجه خطر ارتفاع الحرارة المفرط. بل إن كل رئيس أمريكي تقريبًا منذ زمن جون ف. كينيدي أنذر بالحاجة إلى الاستدامة. أما أفضل من صوّر التوجه الحالي إلى الاستهلاك الهادف، فعبّر عن ذلك بقوله: «لم تعد الهوية الإنسانية تتحدّد بما يقوم به الفرد، بل بما يمتلكه. لكننا اكتشفنا أن اقتناء الأشياء واستهلاكها لا يلبيان توقنا إلى وجود معنى لحياتنا. أدركنا أنه لا يمكن لجمع المقتنيات أن يسدّ الفراغ في حياة أفراد يفتقرون إلى الثقة والأهداف.»

 

كان هذا ما صرّح به الرئيس جيمي كارتر في حديث متبصّر أدلى به في تموز يوليو من عام 1979 بعد الخروج من خلوة دامت اثني عشر يومًا في كامب ديفيد حيث قرأ كتابين ثوريين لا تزال أصداء ما جاء فيهما تتردد إلى يومنا هذا، وهما كتاب The Culture of Narcissim «ثقافة النرجسية» للمؤرخ كريستوفر لاش، وكتاب Small Is Beautiful «الصغير جميل» للمفكّر الاقتصادي إيرنست – فريديخ شوماخر. تحوّلت تلك الأفكار إلى مبادئ نموذجية لدى عدد من أبناء جيل الألفية والمستهلكين من جيل ما بعد الألفية، وذلك في مشهد يحاكي واقع أن مفهوم الطعام المعد من منتجات يُؤتى بها مباشرة من المزارع المحلية ما عاد يشكل فكرة مثالية من أفكار الهيبيين فحسب.

 

يشهد تعريف الرفاهية نفسه تحولاً يضمّنه منتجات كانت تُعدّ حتمًا غير فاخرة، على غرار الفراء الاصطناعي. بل إن الملكة إليزابيث نفسها أعلنت مؤخرًا التزامها بعدم طلب أي أزياء جديدة تُحاك من الجلد الطبيعي، الأمر الذي يُشكل مصادفة حسنة لأن غوتشي، وبرادا، ومايكل كورس، وشانيل تندرج ضمن قائمة عدد من علامات الأزياء التي ما عادت تستخدم فراء الحيوانات في تصاميمها.

بعيدًا عن عواصم الأزياء، تحاول شركات مثل أسكوف فينلايسون Askov Finlayson في مينيابوليس إعادة تحديد مفهوم المنتجات الفاخرة للقرن الحادي والعشرين. تأسست شركة الألبسة في عام 2011 ببادرة من الأخوين إريك وأندرو دايتون اللذين كانت عائلتهما تمتلك من قبل متاجر دايتون الكبرى الشهيرة (التابعة اليوم لمتاجر مايسيز Macy’s).

 

 

 

أدرجت الشركة على عدد من قوائم أفضل متاجر الألبسة الرجالية في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الأخوين دايتون أوقفا نشاطها المختص في مجال البيع بالتجزئة ليعيدا إطلاقها بحلة جديدة الخريف المنصرم، جاعلين منها «أول علامة للملابس ذات تأثير إيجابي على المناخ»، والأكثر بعدًا عن التكلف على الأرجح. أما منتجات الشركة، فتندرج ضمن فئات ثلاث هي قمصان قصيرة الأكمام، وكنزة فضفاضة، وقبعات صوفية محبوكة من التي تشتهر بها العلامة، والتي جاء إصدارها في سياق حملة Keep The North Cold «أبقوا القطب الشمالي باردًا» للتوعية إلى مخاطر التغير المناخي، فضلاً عن طرازين من معاطف الشتاء الواقية من الأمطار، أحدهما للرجال والآخر للسيدات.

 

صيغت هذه المعاطف من مواد أعيد تدويرها بنسبة %100 تقريبًا، بما في ذلك النسيج العازل من طراز 3M، والكسوة الخارجية المشغولة من البوليستر المقاوم لنفاذ الماء، ورقعة إرشادات العناية، حتى أسنان السحاب. ساعد ويل ستيغر، مستكشف المنطقة المتجمدة الشمالية الأسطوري، الذي قاد أول بعثة إلى القطب الشمالي بالزلاجات التي تجرها الكلاب، على تطوير التفاصيل التقنية التي يولي بعضها اهتمامًا بعالم البيانات. المعطف يشتمل على جيب داخلي معزز بتقنية Present Mode «وضع الحضور» التي تكبح أيًا من الإشارات الخلوية وإشارات خدمة الواي – فاي لدى وضع هاتف خلوي داخل الجيب، الأمر الذي «يساعد زبائن أسكوف على الانفصال عن شبكة الإنترنت ليكونوا حاضرين مع الأصدقاء والأقارب.» على ما يقول إريك دايتون الذي ينتظر ولادة ابنه الثالث.

 

سعى دايتون إلى التعاون مع مصنع وعد باستخدام ما نسبته %97 من القماش المورّد له في المنتجات، ما يحد من النفايات. وفي هذا يقول: «إننا نبحث عن سبل للحد من التأثيرات البيئية في كل خطوة نقدم عليها.» يذكر أن الشركة تستثمر في الحلول المناخية لتعويض «الكلفة الاجتماعية» المتأتية عن بصمتها الكربونية، مستخدمة في ذلك الطريقة الحسابية الأعلى كلفة التي وضعتها إدارة أوباما لاحتساب الانبعاثات الكربونية بمعدل ثلاثة وأربعين دولارًا تقريبًا لكل طن متري (وهي قيمة تزيد أربعة أضعاف على تقديرات الأمم المتحدة للانبعاثات الكربونية)، ثم ضرب الناتج بنسبة %110 للوصول إلى «تأثير إيجابي على المناخ».

 

أما مجموعة كيرينغ Kering، المتخصصة في المنتجات الفاخرة، فتعهّدت بمحو التأثيرات السلبية لكامل مساراتها الإنتاجية من طريق التقليل من الانبعاثات الكربونية، الأمر الذي يسهم في التعويض عن العمليات غير المستدامة، بما في ذلك منشآت البناء المشيّدة من الإسمنت والفولاذ. ما يبعث على السرور، في ظل أوجه التباين والتساؤلات المتعلقة باحتساب هذه الانبعاثات، هو ظهور مزيد من البدائل المباشرة، على غرار الخشب متعدد الطبقات الرقيقة، وتحديدًا الصفائح التي يُلصق بعضها ببعض لابتكار ألواح متينة كافية لتشييد أبنية مرتفعة ما إن تتوافق قواعد السلامة من الحرائق مع التقنية الجديدة. وفي هذا يقول كريس ماكفوي، أحد كبار الشركاء في الشركة الهندسية Steven Holl Architects التي تركّز على الاستدامة وتتخذ من نيويورك مقرًا لها: «إن الخشب يحبس الكربون في أثناء نموه، وهذا أمر رائع. كما أنه يشكل مصدرًا قابلاً للتجدد.» وغالبًا ما تستخدم شركة هول آبار الطاقة الحرارية الجوفية لتدفئة الأبنية وتبريدها على نحو مستدام، كما هو عليه الحال في مبنى ريتش Reach الملحق بمركز كينيدي في العاصمة واشنطن، والذي اكتمل بناؤه في عام .2019

 

تعمل شركة هول أيضًا على تصميم مبنى كيندر Kinder Building المرتقب في متحف الفنون الجميلة بهيوستن، آخذة في الحسبان مبدأ الاستدامة، ومظهرة براعتها في الاستعانة بتقنيات قديمة لتطوير مزايا تصميمية مبتكرة. ستُعتمد في هذا المشروع واجهة مكوّنة من أنابيب زجاجية بعرض ثلاثين بوصة مثبّتة على بعد ثلاث أقدام من الجدار الإسمنتي بما يضمن استحداث تجويف للتبريد وتبديد الحرارة المرتفعة التي تشتهر بها هيوستن، الأمر الذي يسهم في ارتداد نحو %65 من أشعة الشمس عن المساحات الداخلية. وفي الطابق العلوي، سيعمل سطح غير شفاف في هيئة منطاد على ترشيح أشعة الشمس فيما يُغرق صالات العرض العلوية بما يكفي من الضوء الطبيعي، بحيث تنتفي الحاجة إلى الضوء الاصطناعي في أوقات النهار (وإن كان أمناء الصالات قد طلبوا تركيب مصابيح إضاءة كشافة لتسليط الضوء على المعروضات).

 

لا تُشكل النوافذ المدمجة، والممرات المفتوحة على النسيم، والإضاءة الطبيعية، ومنافذ التهوية المتقاطعة، ابتكارات جديدة. وفي هذا يقول ماكفوي: «إن كثيرًا من هذه العناصر قديم. في أربعينيات القرن المنصرم وخمسينياته، صمّمنا ما يُعرف بنظام التدفئة والتبريد. مضينا في هذا المسار الخاطئ، ونحاول اليوم الانحراف عنه.»

فضلاً عن ذلك، يشق الاهتمام بموضوع الاستدامة طريقه إلى عالم المفروشات الفاخرة. فأخيل سالفانيي مثلاً يتفادى في تصاميمه استخدام الغراء، وطلاء اللك، واللحام. وبالرغم من أن بعض قطع الأثاث التي يبتكرها تُصنّع في روما، إلا أنه يستعين أحيانًا بمصانع تقع على مسافة قريبة من منازل زبائنه، مستحضرًا بذلك مفهوم إعداد الأطعمة من منتجات يُؤتى بها مباشرة من المزارع المحلية. يقول سالفانيي: «يسرّني أن أجري أبحاثًا على المواد المحلية.» إن كان ذلك يعني الحد من التأثيرات الضارة بكوكب الأرض.

 

«عندما تذهب لزيارة أي وجهة وتستمتع بما تقدمه لك تلك البيئة،

يجدر بك أن تكون واثقا تماما من أن البيئة هي التي تغيرك فيما أنت لا تغير البيئة»    

 

في المقابل، يجسّد السفر إلى الوجهات النائية واحدة من أبرز البصمات غير المستدامة للنمط الحياتي المترف، وتُعد السياحة مسؤولة عن نحو %8 من انبعاثات غازات الدفيئة في العالم. كما يسهم قطاع الطيران في تفاقم هذه المشكلة. كانت موجة الاستياء الصاخبة التي أثارها الصيف المنصرم سفر الأمير هاري وزوجته ميغان، دوق ودوقة ساسيكس، على متن طائرة خاصة، كافية لدفع الثنائي الملكي إلى السفر في شهر سبتمبر أيلول المنصرم في رحلة على متن أحد الخطوط الجوية التجارية. ومن المرجح أن يواجه عدد متزايد من المسافرين، وعلى الأقل كبار الشخصيات والمشاهير منهم، مظاهر احتجاج مماثلة في المستقبل، شأنهم في ذلك شأن مرتدي الأزياء المصنوعة من الفراء الذين استهدفهم من قبل الناشطون المدافعون عن حقوق الحيوانات عبر رشقهم بطلاء أحمر اللون.

 

يأمل بريفيل من جينسلير أن يشهد مظاهر تحتفي بالأسفار المحلية، أي بالرحلات إلى ملاذات قريبة عوضًا عن الوجهات التي تقع في قارات أخرى، تمامًا كما تتوافر مبادرات للاحتفاء بالطعام المحلي. وفي هذا يقول: «تتنازعني مشاعر متضاربة في ما يتعلق بالسفر. لعل ما أرجوه أمنية فقط بعيدة عن الواقع.»

 

قد يكون بريفيل محقًا. حتى شركة الرحلات البحرية الفرنسية بونان Ponant الصديقة للبيئة، والتي أسستها في عام 1988 مجموعة من البحّارة، واصلت بشراسة الإبحار حول العالم في وجهات حسّاسة، من المنطقة المتجمدة الشمالية إلى جزر سولومون، وإن كانت قد اعتمدت في رحلاتها أساليب أكثر استدامة. تُصنّف السفن الاستكشافية الفاخرة التابعة للشركة بوصفها «سفنًا نظيفة». أما طرازها الأكثر تطورًا، والذي ستطلقه في عام 2021، فسيستخدم أنظمة الدفع الكهربائية على مقربة من اليابسة، والغاز الطبيعي المسيّل للرحلات البحرية الأطول، فضلاً عن التخلص من النفايات في أكياس ورقية، ومتى دعت الحاجة، الاستعاضة عن المراسي، للبقاء في الموقع البحري نفسه، بأنظمة ثبات حيوية.

 

يقول نافين سوني، الرئيس التنفيذي لشركة بونان في الأمريكيتين: «إن اعتماد مبدأ الاستدامة لا يشكّل عقيدة لدى الشركة. بل إنه أسلوب حياة. تجمعنا بالبحر علاقة تعاضدية.»

تعمل الشركة مع المجتمعات المحلية في المناطق التي ترسو فيها سفنها بما يتيح لها الحد من التأثيرات الضارة على اليابسة أيضًا. وفي هذا يقول سوني: «عندما تذهب لزيارة أي وجهة وتستمتع بما تقدمه لك تلك البيئة، يجدر بك أن تكون واثقًا تمامًا من أن البيئة هي التي تغيّرك فيما أنت لا تغيّر البيئة.» في إفريقيا، تولت شركة Wilderness Safaris على مرّ ستة وثلاثين عامًا إدارة مخيّمات في بوتسوانا، وناميبيا، وزامبيا، وزيمبابوي.

 

 

 

طرحت الشركة في عام 1985 مفهوم المعسكرات التي تتسم بتأثيرات ألطف على البيئة، وأطلقت قبل عشر سنوات مسعى متكاملاً للاستدامة، عملت من طريقه على خفض معدل النفايات والانبعاثات الكربونية على ما يقول نيل ميدلاين، مدير الاستدامة في المجموعة التي تتخذ من جنوب إفريقيًا مقرًا لها. حلّت الخلايا الشمسية محل معظم محركات الديزل التي تزوّد مخيمات الشركة بالطاقة، وبات ثمانية عشر مخيًما من هذه المخيمات تعمل بالطاقة الشمسية دون غيرها. أما مياه الصرف، فُتعالج فوق سطح الأرض في معامل تستخدم أنظمة تستند إلى البكتيريا لإنتاج مياه نظيفة وقدر ضئيل من الرواسب الطينية. بالرغم من أن رحلات السفاري تُصنّف في أعلى مستويات الخدمة الفاخرة، إلا أن العنصر الجاذب فيها ليس الفخامة المبهرة. وفي هذا يقول ميدلاين: «هذا ما يجدر بأي شركة في مجال نشاطنا أن تقوم به.»

 

توقفت الشركة أيضًا عن استخدام الأغلفة البلاستيكية لصالح أغلفة Buzz، المصنوعة من شمع العسل، وباتت تقدم القهوة لطلبات الضيوف الخارجية في أكواب مصنوعة من نشاء الذرة والسكر النباتي والألياف، وتزوّدهم بقوارير ماء زجاجية. كما أنها ابتكرت مخيمات يمكن بناؤها أو تفكيكها بأقل قدر ممكن من الإخلال بالبيئة، وبما يتيح للمواقع أن تستعيد خصائصها الطبيعية في غضون ثلاثة أشهر.

 

درس لانس هوزي، العضو في برنامج LEED، وأحد خبراء الاستدامة لدى جينسلير، مقدار تعزيز التجارب الحسية للرفاه الجسدي والعاطفي. وأصدر في عام 2012 مؤلفًا بعنوان The Shape of Green «شكل الأخضر» مستكشفًا في صفحاته العلاقة بين الهندسة المعمارية، والنظام البيئي، والجمال. خلافًا للمعتقد السائد، يفترض هوزي أن الاستدامة لا تستثير مشاعر العوز، بل تشكل ذروة الترف أو ما يصفه بـ«الدلال غير المشوب بتأنيب الضمير».

 

يقول هوزي في حديث إلى مجلة Robb Report: «ثمة اعتقاد خاطئ بأن الاستدامة تعني التضحية.» مشيرًا إلى أن النمط الحياتي الصديق للبيئة قد يكون منشودًا لأنه يولّد الشعور بالفضيلة فقط. ويضيف هوزي قائلاً: «لا يستهوينا غرض ما لأنه يتسم بكفاءة استهلاك الطاقة، أو لأنه قابل للتحلل الحيوي. إنه يستهوينا لأنه يستأثر بقلوبنا وعقولنا.»