مالك دار بوفيه 1822 يروي حكاية شغف راسخ

بفن صناعة الساعات ومسيرة إبداع لا تنفصل عن أصالة

إرث تاريخي مجيد.

 

ربما لا يخفى على هواة عالم الساعات أن الفلسفة الحكيمة التي يقارب بها باسكال رافي مسيرته اليوم في هذا القطاع هي ما أتاح له الارتقاء بدار بوفيه 1822 وتكريس هويتها الإبداعية من حيث كونها رائدة في صون فن صناعة الساعات. لكن ما قد يغيب عن بال كثير من الناس هو أن هذه الفلسفة هي في الأصل وليدة شغف راسخ بهذا الفن تنامى لديه منذ سنوات الطفولة حين كان يستكشف كنوز جدِّه جامع الساعات المتفردة. يقول باسكال رافي: «لطالما كنت مفتونًا بعالم صناعة الساعات. بل إني ارتكبت أخطاء كارثية وأنا أحاول العمل على بعض الساعات في مجموعة جدي ظنًا مني بأني صانع ساعات بارع. كنت لا أزال في الرابعة عشرة من العمر عندما عمدت إلى تفكيك ميناء إحدى الساعات فأتلفتها بالكامل.

 

لكني أدركت منذ ذلك الحين أن تلك المهمة تحتاج إلى خبير متمرس في عمله.»  لم يكن مستغربًا والحالة كذلك أن يظل هذا الشغف ملازمًا للشاب الذي تابع تحصيله الجامعي في مجال القانون الدولي وامتهن العمل في قطاع صناعة الأدوية قبل أن يقرر عند بلوغه الثامنة والثلاثين من العمر أن يتقاعد مبكرًا، وذلك بدافع من ابنته الصغيرة التي كانت تتذمر من ندرة الوقت الذي تمضيه مع والدها كثير المشاغل. فافتتانه بعالم الساعات عاد ليتوقد مع استكشافه ابتكارات دار بوفيه التي سرعان ما استحوذ عليها في عام 2001 وانطلق في مسيرة إعادة إحياء أمجادها.

إنه زمن أحلى يبرع اليوم باسكال رافي في رسم معالمه إبداعًا متفردًا بقدر ما يتقن الارتحال بك إليه بملكة راوٍ يستأثر بالسامعين إذ يحكي عن البعد العاطفي والإنساني في رحلة حياة وصنعة أغلى ما فيها وقت يختصر المعنى الحقيقي للترف.

 

 باسكال رافي

 

ما الذي استلبكم إلى عالم بوفيه وأثار حماستكم للاستحواذ على الدار؟

أظن أن الدافع الأول كان التمايز الذي بُنيت عليه الهوية الحقيقية لهذه الدار. على سبيل المثال، عندما كنت لا أزال في مطلع العقد الثاني من العمر، كان الناس ينتقصون من شأن آسيا، لكنهم ما لبثوا أن أدركوا أن نهضة آسيا ستهز قواعد العالم، وهذا ما حدث حقيقة. فلا يمكن اليوم الحفاظ على اقتصاد عالمي دون آسيا. أما مؤسس الدار إدوار بوفيه، فكان لا شك سابقًا لأوانه عندما ارتحل عن قريته السويسرية فلورييه إلى لندن واكتشف إمبراطورية الصين، فنقل إليها تصورًا مبتكرًا لما ينبغي أن تكون عليه أي ساعة بديعة، ليس من حيث آليتها الميكانيكية فحسب، ولكن من حيث الفنون الزخرفية التي تتزين بها أيضًا.

 

ولا أخفي أن هذا الوضوح في الهوية لا يزال يشكل برأيي العنصر الأساس لمفهوم الترف، يُضاف إليه الطابع الحصري الذي يتجسد في ابتكارات محدودة المقدار، لا سيما في ظل تأثر صناعة الساعات أيضًا بظاهرة العولمة والإنتاج على نطاق واسع. أما العنصر الثالث، فهو الإتقان الحرفي الذي تعلو جمالياته فوق عمل الآلات. الواقع أنه من الصعب ألا يُفتن المرء بعلامة بوفيه إن كان نمط حياته يقوم على تقدير التلاقي الفريد بين هذه العناصر الثلاثة وما يلتحق بها في حالة بوفيه من إرث تاريخي عريق بزغ فجره منذ عام 1822، وإبداع فني يشي بذائقة رفيعة، فضلاً عن حس ابتكار متميز على مستوى التعقيدات الميكانيكية. 

 

تبنيتم منذ البدايات رؤية متفردة لبث حيوية متجددة في إرث العلامة. كيف يمضي هذا الزخم قدما نحو المستقبل؟

أتبنى في سبيل ذلك قاعدة رئيسة تقوم على التمسك بما أؤمن به والثبات على مواقفي. لكن ذلك لا يعني أني عنيد أو أعمى البصيرة. بل ينتابني الفضول دومًا لاستكشاف الابتكارات التي تطرحها دور أخرى في السوق، ومن السهل أن أجد بينها ما يلقى استحساني. قد لا تكون بالضرورة ساعات معقدة في آلياتها. قد يلفت نظري فيها الميناء، أو العلبة، أو حتى السوار. بغض النظر عن ذلك، ما يهمني بالدرجة الأولى في بوفيه هو الإتقان الحرفي. لا شك في أن الإنتاج على نطاق واسع قد يتحول تلقائيًا إلى قيد يكبل الصانع في سياق سعيه مثلاً إلى طرح ابتكارين جديدين على الأقل في كل عام.

 

ولا أقصد هنا إجراء تعديل ما على لون العقارب على سبيل المثال، بل تقديم ابتكار حقيقي على مستوى المعيار الحركي، والعمل الحرفي، والآليات الميكانيكية البديعة. وفي هذه الحالة، يمكن للإنتاج على نطاق واسع أن يقوض روح الدار لأنه سيعني المساومة على الحرفية والتأني في صياغة التفاصيل الدقيقة. يضم فريق عمل بوفيه 130 شخصًا فقط، بينهم 70 حرفيًا، وكلهم يشكلون اليوم امتدادًا لعائلتي، وأجد شخصيًا متعة خالصة في العمل معهم وفي رعايتهم.

 

"في دار بحجم بوفيه، يشبه بناء العلامة بناء أسرة.

وعلى نسق ذاك النهج الفكري والسلوكي الذي يتبعه الأب مع أبنائه،

من الضروري أن تقوم العلاقة في بيئة العمل على أساس احترام الأفراد في الدار  "

 

تطور بوفيه في ظل إدارتكم ساعات مبتكرة لكن زاخرة بالشواهد على الدراية التقليدية في مجال صناعة الساعات. فما هي مقاربتكم للحفاظ على التوازن بين حس الابتكار والتقاليد الحرفية؟

أخطأ الناس على مدى عقود في اعتقادهم بأن كل ما هو تقليدي بالٍ وعتيق الطراز. عندما كنت أتحدث بين عامي 2001 و2004 عن الرسم المنمنم، والنقش، وغير ذلك من الحرف التقليدية، كان الآخرون يلقبونني بالسيد الرجعي، وكانوا يرون حديثي عن الفن في صناعة الساعات مملاً. أما اليوم، فالفن هو لسان حال الجميع. ليس الأمر توجهًا سائدًا فحسب، بل إنه ثقافة. فالتقاليد تجسد الجذور أو القاعدة الأساس التي ننطلق منها في مسيرة الابتكار لأن الرفاهية ترتكز إلى مصطلح واحد هو الثقافة. وإذا ما أراد المرء أن يتهيأ لغده، فإن من واجبه أن يكون فخورًا بماضيه، لا أن يتنكر له. أقصد أن التقاليد تمرين مستمر لتحقيق التمايز.

 

هذا ما هو عليه الحال أيضًا في قطاع صناعة الساعات. في دار بوفيه مثلاً، لا نزال نعتمد التقنية نفسها التي كانت سائدة قبل قرنين من الزمن في بناء النابض الشعري ومضبط الانفلات، والتي لا تنفك تثبت كفاءتها. كما أن ساعات الجيب التي ابتكرتها بوفيه مثلاً في عام 1822، والتي لا تزال محفوظة في مقرنا في قصر مواتييه، تؤدي وظيفتها على أحسن ما يكون إلى يومنا هذا. السر يكمن إذًا في حسن المواءمة بين أصالة التقاليد وحس ابتكار يرتكز إلى رؤية حكيمة.

 

برأيكم ما أبرز العناصر التي ترسم اليوم وجه مستقبل قطاع الساعات الفاخرة؟

قد يتغير التعبير عن الوقت على مستوى الشكل والطابع الجمالي، لكن ما سيحكم مستقبل صناعة الساعات في ما يتعلق بالآليات الميكانيكية هو القيم، وأقصد تحديدًا الاستدامة، والموثوقية، والمقدرة على تطوير وظائف جديدة للساعات. لا شك في أن الجانب الوظيفي في الساعات يبقى أكثر تعقيدًا مقارنة بالطابع الجمالي. لا يكاد مثلاً عدد التعقيدات الوظيفية الجديدة التي جرى تطويرها على مدى السنوات العشرين الأخيرة يزيد على عشر وظائف. لكننا سنواصل مسيرة تطويرنا في هذا المجال للعقود الخمسة المقبلة.   

 

ما أعظم إنجاز تفاخرون به عبر مسيرتكم في هذا القطاع؟

أكثر ما يملؤني اعتزازًا هو فريق عملي. بعيدًا عن انتقاد أي من الدور الأخرى، كان خياري في عالم صناعة الساعات النأي بعلامة بوفيه عن مفهوم الإنتاج على نطاق واسع لصالح الحفاظ على روح الدار وصون جذورها التقليدية، ورعاية أصولها الإنسانية. إنها مهمة أعكف عليها كل يوم مسرورًا. لا يمكننا أن نفرض رؤيتنا على الآخرين في فريق عملنا، بل علينا أن نقنعهم بالانضمام إلينا في رحلتنا. لا شك في أنها ليست مهمة سهلة، لكنها أكثر قيمة. في دار بحجم بوفيه، يشبه بناء العلامة بناء أسرة. وعلى نسق ذاك النهج الفكري والسلوكي الذي يتبعه الأب مع أبنائه، من الضروري أن تقوم العلاقة في بيئة العمل على أساس احترام الأفراد في الدار. هكذا يثمر التناغم عملاً فنيًا مثل ساعات Récital التي يقتضي ابتكارها تضافر مساعي عشرات الأفراد.  

 

 باسكال رافي مع ابنه أماديو الذي ألهم اسم خط كامل من ساعات بوفيه.

باسكال رافي مع ابنه أماديو الذي ألهم اسم خط كامل من ساعات بوفيه.

 

أي قوة محفزة تقف وراء نجاحك المهني؟

يكمن السر في التحلي بإحساس عميق بالمسؤولية لتحقيق الاستمرارية، لا سيما وأننا نشكل دارًا مستقلة تتولى داخليًا مختلف مسارات الإنتاج، من الأبحاث والتطوير إلى ابتكار المعايير الحركية، وعلب الساعات، والموانئ، والعقارب. لا أقول إن المهمة سهلة، ولكن الشغف يحول الساعات السبع عشرة التي أمضيها في العمل كل يوم إلى متعة. صحيح أني قد أخلد إلى النوم مرهقًا، لكن التعب لا يُقصي شعوري بالحماس وأنا أفكر في المستقبل وفي ما سأحققه في السنوات الخمس المقبلة.

 

ما أكثر ما يستثير شغفك بمهنتك في عالم الساعات؟

إن ما يبث في نفسي الحماس هو الرحلة نفسها وما تحمله الخطوة التالية من شعور بالإثارة والتوق إلى استكشاف رد الفعل. أتطلع دومًا إلى معرفة إذا ما كان الجمهور سيقدِّر ما أنجزته مع حرفيينا الذين أرى وجوههم في كل بادرة تقدير أحظى بها. لا شيء يضاهي الرحلة قدمًا. بل إني أستشرف تلقائيًا، ما إن يكتمل الفصل الثاني في الحكاية، ما سيكون عليه الفصل الثالث. فالساعات تهمس لنا بكثير.

 

هل اكتشفت في أسفارك الكثيرة وجهة مفضلة؟ 

عندما يمضي المرء قرابة ستة أشهر في كل سنة متنقلاً على متن الطائرات وبين حجرات الفنادق، حتى تلك الفاخرة منها، يصبح المنزل هو وجهته المفضلة، هناك حيث يرتفع صخب أفراد العائلة ويتردد صدى ضحكاتهم، وحيث الشعور بالحميمية يملأ النفس حبورًا. 

 

" إذا ما أراد المرء أن يتهيأ لغده، فإن من واجبه أن يكون فخورًا بماضيه،

لا أن يتنكر له. فالتقاليد تمرين مستمر لتحقيق التمايز "

 

ما هي السعادة عندك؟

قد يُلقي كثيرون على مسمعك خطابات مطولة عن السعادة. لكنها برأيي لحظة بمقدار جزء من ألف مليون جزء من الثانية. أليس هذا هو مثلاً الوقت الذي يستغرقه شعاع الشمس ليرسم ابتسامة على وجهك في بداية يوم كان يُفترض به أن يكون غائمًا أو ماطرًا؟ أما نجاح المرء في تحقيق السعادة، فيتمثل بمقدرته على تكرار هذه اللحظات التي تشيع البهجة في نفسه بطرائق مختلفة وبرفقة أشخاص مختلفين. إنها ما نسميه باختصار الشعور بالامتلاء.