ما الذي يبقيه زمنُ التوحش، وثقافةُ العنف، وإراقةُ الدماء، من مساحة للشعر والفكر والعطر والجمال والألوان والأمل؟ وهل يبقي للناس ظلامُ ليلهم مساحةً من حلم، وإن قلّت، بأن يكون يومُهم غيرَ أمسهم، وأن يصبح غدُهم غيرَ ما يعيشونه بما كسبته أيديهم أو أورثهم إياه من سبقوهم إلى حياتهم، ورسموا لأحاسيسهم وأفهامهم الخرائط، وحددوا لهم السبل، حيث ينبغي أن تُعد الخطواتُ، وحيث لا تضل الطرائقُ ما عُبِّد من طرقاتٍ؟ وهل يبقى في الممكنات احتمالٌ، وإنْ ضعُف أو ندر، أن تستقل القلوبُ بحس، وتصحو العقولُ بفهم جديد ليميز الناسُ الخطى، ويجربوا أن يتدبروا ما أشكل عليهم اليوم بفهم يحسن أن يصل أسباب الحاضر بمسبباتها في الماضي والحاضر؟ وهل يتأتى لهم، من بعد، أن يغادروا ذلك التقديسَ البليدَ لرأي كل ذي رأي فيما أصاب أو أخطأ أو لُبِّس عليه، ولفهم من يحسن الفهم أو لا يحسنه، ممن ألجؤوهم في الماضي والحاضر إلى تعطيل ملكات التفكّر ومخالفة القديم في خطئه، لا صوابه، أو ما ناسبه في زمنه إلى جديد صائب يصلح لزمانهم الذي يعيشونه؟ وهل من سبيل ليصحو فيهم حسٌّ يخرجهم من ذلك الاعتقال الفكري الذي اختاروه من غير إكراه ويجربوا أن يستقلوا ببعض الفهم، ولو على استتار مخجل، ويفتحوا النوافذ لضوء جديد في سجن من حملهم على أن يتابعوا ما وجدوا عليه آباءهم من آثار فلا يفكرون إلا كما فكّر الأولون، ولا يرون الأشياء إلا كما رآها بالضرورة في زمنهم الأسلافُ؟ وهل ينقلبون عن متابعة من سبقوهم في جهلهم إن جهلوا، لا في علمهم إن علموا، وفي كذبهم إن كذبوا، لا في صدقهم إن صدقوا؟ وهل يستقلون بحلمهم إن استبقوا في ليلهم مساحة من حلم، أو حتى في وهمهم مقدارًا من توهم إن لم تجف فيهم القدرة على الحلم أو حتى على التوهم؟!

ما الذي يبقى للقصائد إن سرقت موسيقاها أصواتُ الوحوش؟ وما الذي سيبقى من ألوانِ الورد، وأصواتِ البلابل، ونسائمِ الفجر، وهدوءِ الليل، إذا ما انبنت جدرانٌ بين الأرض والسماء تحجب ضوء الشمس، وتسرق الألوان، وتمنع العصافير أن تغرد في كل فجر جديد؟ وما الذي يبقى للحق والحقيقة والصدق في زمن الكذب والتكاذب والحقائق البديلة؟ وأي زمن سيعيشه البشر إن كان أولُه لا أولَ معلومًا له، وآخرُه لا آخرَ متخيلاً له؟ زمن ممتد كالصحراء القاحلة في متاهة تسود فيها الأفكار التي تبقى على كثرتها المتوهمة فكرًا واحدًا ولونًا واحدًا كلون الغبار، وتطغى فيها الآراء التي تشبه في المبتدأ والمنتهى رأيًا واحدًا قد تسلّط كما تقهر النارُ الحديد؟ وما الذي سيبقى في ذاكرة الناس إن طغى لونُ العتمة أو لون التبلد، أسودَ كان أو أبيضَ، فلا لون إلا ما يراه الأبيضُ أبيضَ، والأسودُ أسودَ؟

 هذا زمن لا شعرَ فيه، ولا فكر، ولا رأي. هذا زمن استقال فيه الوردُ من فتنته، وتنكرت فيه القلوبُ لعشقها القديم. فانحسر الشعرُ، وضاع السحرُ، وغادر الجمالُ معانيه. زمن انحبست فيه أصوات البلابل في سجون العتمة والظلمة، ونسيت شدوها وبشائرها على أغصان كل يوم جديد. زمن طغى فيه فجور القوة فهلك الحرث والنسل، واستبدت فيه بلادةُ الحس والذوق فغدا الناس بأحاسيسهم المصطنعة كالآلات المصنعة. هذا زمن الربيع الأسود، والصيف الأسود، والخريف الأسود، والشتاء الأسود. هذا زمان الليل المعتم والنهار المظلم. زمن تتلاقى فيه الأضداد وتتوافق، وتنسجم فيه المتناقضات ولا تتناكر. هذا حينٌ من الدهر يموت في الإنسانِ الإنسانُ، ويحيا فيه ما لا يدنيه من الإنسانية والتحضر قيد أنملة. إنه زمن يميز فيه البشرُ عن غير البشرِ بما غدا يمتازُ فيه غيرُ البشرِ عن البشرِ.

 يُختطفُ الوردُ عندما يتذكرُ من يتذكرُ أنه قد يفتن القلوبَ التي تكتشف، حين غفلةٍ، أو حين بوحٍ من عطر، أن من أجلِّ عملها أن تحب وتعشق. ويعتقل لونُ الورد وبوحُه الحييُ لأنه تجرأ على أن يفتنَ القلوبَ ويوقظَها من مرقدها. وتحبسُ ابتسامةٌ بريئةٌ لأن اللواحظ تجرأت على أن تقرأ في الورد رسائلَ الورد، فيَخنقُ النبضُ ذلك الحبَ الذي فضحت سرَّه وردةٌ في يوم وقد تلبّست القلوبُ بنوع من المشاعر يغاير الكرهَ أو الغفلةَ التي تشبه الموت الذي ألفته منذ وُلد الموتُ، إلى أن تموت الحياةُ.

ما أقوى الوردة! وما أضعف تلك القلوب التي لا تلين قسوتُها التي تشبه الحجارة إلا إذا ما زلزلت غلظتَها وردةٌ تخرجها من توحشها القديم.

تشابهت في تنافرها القلوبُ وفي موتِها، كما تشابهت الصورُ في هذا الزمان. وتشابهت المرايا المنكسرة وغير المنكسرة التي لا يرى فيها من أبصر ومن لم يبصر إلا أشياءَ وأشكالاً وهباءً منثورًا.

قبل أن يذبل الوردُ سنودع مع المغيب آخر همسٍ للعطر…

قبل أن يموت الشعرُ نلتقي في السَحَر عند آخر قصيدة...