كانت امرأة ممتدة الآفاق كاتساع البحر في عينيها، مثل خصب الأرض، تأبى أن يحبسها عشقٌ، أو أن تسجن بين أول الكلام، وإن كان حبًا، وخواتيمه، وإن كان شعرًا من السحر، أو عطرًا مستخلصًا من أجمل زهر الأرض تختم معانيه إلا أن تستيقن ألا امرأة بعدها، فتستكين لانتهاء البوح، وأن يُختم تاريخُ العشق بها نقطةً من عطرٍ على السطر.

كانت امرأة تحسن توليد الشعر، وتتقن أن توحي به متى شاءت من صبح أو مساء، أو من ليل هدأ فيه صخبُ الدنيا، واستعلن فيه صمتُ شفتيها، وأفاق على يقظة الحلم لحظُ عينيها، أو من نهار لا يزال يترجّع فيه صدى همساتها، ويشرق بإشراق شمسها إن أطلت بشائر فرحه ألوانًا فجرًا أو ظهرًا أو أصيلاً. تحسبها لبعض طبعها حينًا، وحينًا لبعض حسنها، من بدويات المتنبي اللائي لا يجمّلهن حسنٌ مجلوبٌ وتطريةٌ تتكلفها على عجب كثير من النساء. أو تحسبها فلاحة حينًا لا تحسن إلا أن تنبت في الأرض زهرًا ووردًا وعطرًا.

كان يكتبها ضدًّا يعارضه ضدٌّ، امرأة بعضُها مثل كثير من نساء الأرض، وبعضُها مثلُ أقل القليل من ربّات الشعر. وكان بعضُها ينازع لا ريب بعضَها كثيرًا، وتختلف الصورتان في نفسه اختلافًا كبيرًا بين ما توحي به من شعر، وما تغلق فيه بابًا، بل أبوابًا، من أوسع أبواب الشعر في نفسه. بيد أنها كانت تعرف موقعها من قلبه، وتجتهد في أن تحتال لتقلبات الهوى إن خانها التفكير، أو تغلّب ميل الفؤاد إن أعياها التدبيرُ. وفي الحالين كانت توقن أنها منه على مساحة نبضه يمتد نبضُها إذا ما نبضت القلوبُ بين الأضلع المشتعلة عشقًا، وعلى مرمى اللواحظ إن خطرت في البال، وعلى همس الموج الذي كان ثالثهما في حديث العينين، وعلى ذكرى تبعثها من التاريخ أميرة لتاريخين، التاريخ الذي يعرفه الناس، وتاريخه دون الناس أجمعين.

على أجمل بوحه كانت تحتار وتضطرب ويعذبها سؤالها: أيسمعني إن سكتُّ، أم لا يسمعني إن سكت؟ كانت تنشغل عن كلماته، وتنأى عن قصائده بصمت كتوم لا يكشف عما تحدثها نفسها به، ويعييها أن تفكر، ويعييها إن أرادت أن تقول شيئًا كيف تقول، أو ما ينبغي لها أن تقول. كانت تأنس في أكثر الأحوال إلى أن صدى صمتها، مثل صدى نبضها، كان يتردد في قلبه وتقول: حسبي من التصريح ما يردده صدى قلب مجرّح بالعذابات لا يقوى على الصراخ. حسبي من الإعلان أن في همسي أعلى بواح.

كانت على هذا التردد والتحير بين الشك المعذب واليقين المقيم في ليل ونهار، بين انتباهة إذا ما انتبهت، وبين غفلة إذا ما غفلت. وكان يوسوس لها شكها إن غلب يقينها حينًا: أم تراه لا يسمعني؟! ويح قلبي إن كان يحول الضجيج الممتد بيننا دون بلوغه ذلك الصمت الذي يخيفني إن استعلنت معانيه، ويعذبني إن بقيت مستترة مقاصده! يسمعني؟ لا يسمعني! بل يسمعني! هذا وعدُ القلب للقلب، ووعدُ يقينه لشكي الذي يرهقني.

كتب لها يومًا: سأكتب حكاية امرأة حبسها التاريخ، امرأة عصية على الحب، تفر هربًا منه إلى فيافي الوَجْد ورياض الوَلَه! امرأة تحسن أن يصنع زمنها ذكرى ليست كالذكريات. ذكرى أولُ ماضيها في أول حاضري، وتسبقني إلى قادم الأيام. ذكرى لا أراها كالذكريات نبت زهرُها فيما انقضى، بل أينعت من يومي هذا إن كان يومي، ومن غدٍ إذا ما جاء في الأيام غدٌ. كان الوجد كالعشق كالشوق قديمًا معتقًا بأطيب المسك. كشوق الندى لوجنات الورد أو شوق الورد لعطر الندى.

قرأتْ قصائده ثلاثين مرة وسكتتْ. قرأتها مائة مرة ومرة وعذبها الصمت. كانت تضيع بين المعاني والمقاصد وما تدركه وما لا تدركه، بين ما تقبل عليه أو تفر منه. كان اجتماع النقائض في نفسها يولّد مشاعر ينقض بعضها بعضًا. كانت تجر أثقال التاريخ من خلفها فينبتّ خطوُها بين الماضي والماضي، فتؤثر أن تعود إلى سجل التاريخ وأساطيره، وإن كان قلبها متشوقًا إلى شمس يوم جديد.

كانت تحسن الزرع كعامة الزارعين ولا تتقن الحصاد كخاصة الحاصدين. كتب لها إنك بين الفلاحات امرأة يعوزها أن تعرف كيف تزرع إن زرعتْ، وأن تعرف كيف تحصد إن حصدتْ. وما زالت منذ ذلك الزمان إلى ما سيمتد من الزمان من بعد لا تجد جوابًا على سؤالها: أهو شيء قلته أم شيء قد فاتني أن أقوله؟

عادت الحكاية إلى تاريخها بين ما يُتخيّل وبين ما يُتوهّم. بين الصمت والهمس، بين الصخب والصراخ. وبقي المستقبل منعزلاً عن ماضيها، وبقي حاضرها منحبسًا بين جدران ماضٍ لا تملك أن تخرج نفسها من إساره.

على أنسها بأوهام الاحتمالات، وضياعها في متاهاتها، كانت ترى الزمن مقوّمًا لما اعوج من أمرها، ومجوّدًا لما استقام. وما زالت في منحبسها تشغلها متاهات الاحتمالات والممكنات والمستحيلات.

انتهت الحكاية.

عادت ربة الشعر إلى قارورة عطرها.

وهذه نقطة عطر على آخر سطر من سطورها.