يا لَبوح الجراحات..

ما أصعب أن تحب امرأةٌ رجلاً قد اكتمل عالمه، وضاقت حدائقه عن فسحة لوردة غير الورد، وياسمينة لا يشبه بوحها في المساءات الياسمين..!

سأخلع عني خوفي، قبل الرحيل، وجبني وعيَّ اللسان

يا أولَ أولِ النبضِ، وآخرَ آخرِ الكلام

يا أولَ همسِ الفجر، وآخرَ حلم المنام..

أنتَ يا من أبيتَ أن تقرأني

ولهوتَ عني ولم تكتبني سطرًا، أو حرفًا، بين الكتب والأوراق

ونسيتَ، وقد ضجَّ في أعماق سكونك صمتي، ألواني وأفكاري الصغيرة... وأحلامي

لم ترسمني زهرة بين الرياحين..

لم تعلقني بين صور الماضي ذكرى، ولا أبقيتني في الحاضر فكرة، ولا أملاً، إذ ضاق الأملُ، في القادم، غدًا، الآتي.

لم ترشرشني عطرًا، أو كالعطر، في عالمك الكامل...

لم تجعلني كلمة، أو بعض كلمة، أو بوحًا، أو بعض بوح من سلافات الجراحات، أو عطر الذكريات، إذ تستفيق في لحظة غير متوقعة من اللحظات...

لم تجعلني وحيًا من وحي الحسان، أو قصيدة منسية كانت قد لوَّنت في يومٍ صباحَك، وعطَّرت مساءك بماء الورد..

 

تسللتُ إليك في تفاصيل الهدوء والصخب، والموسيقا والنغم،

ومن بين الأصوات والأعمال والزحام، وما يُرى وما لا يُرى، وفي الحروف والكلمات والقصائد،

وفي الكتب والألوان، وفي خيل امرئ القيس ومسك صويحباته، وفي وجيِّ الأعشى الوحل...

نثرت عطري في الأجواء، وعلى الأوراق، وبين الأحرف والابتسامات والكلمات، وفي الصواب وفي الأخطاء، لعلك تصيب يومًا فلا تخطئني في لحظة اكتشاف، أو حين تفيق من غفلة الانشغال عن العالم بعالمك، وعن الدنيا بدنياك، وعن الأسفار والأوراق بسفر الحب الجميل.

لم تنفتح لي الأبواب على كثرة ما طرقتُ ببوحي الصامت، وصراخي الصامت، وهمسي، يا لَقهري، الصامت. وعدت أجرجر جراحات المحاولات الفاشلة...

وقفت طويلاً على بابك لا أحب أن أعود..

وأعودُ لا أحب أبدًا أن أذهب

أصعد إليك فتعلو وتعرج

وأدنو منك فتنأى وتبتعد

ناديتك.. وطال النداءُ، سمعتني؟.. لم تسمعني. فهمتني؟ لا.. لا.. لم تفهمني؟.. تركتني ولم تودعني.. نسيتني ولم تذكرني.. ما أقسى تلك الابتسامة التي كنت تنهي بها الكلمات، وتستدر بألمها العبرات!...

 

أستكين قبل الرحيل كما استكنت ألف مرة مرة من قبل وتعودتُ، وأخبئ حبي المجروح، وصمتي المفضوح، وحزني الذي يطل كالمطر من عيني، كالعطر يفارق مقهورًا أوراق الورد.

قبل الرحيل

 

سأخبئ خوفي من عوالمك المزدحمة بكل الأشياء والتفاصيل الصغيرة والكبيرة.. سواي..

 

ما دهاه هذا المتبتل المتغزل المعتزل الدنيا وليس الدنيا يعتزل...

إذا ما نظر إليَّ أتحيَّر أتحرج أتبعثر

كالشظايا المتكسرة نفسي، إنْ لحِظْتُه، تتوزع

إن قال كلمة أتردد.. أتقدم.. أتأخر

أتلعثم.. كأني سأقول كل كلام الأرض،

وليس كل كلام الأرض أرجو وأنتظر

إنما مبتغاي من الكلم حرفان، لا أقل، من ذاك، ولا أكثر!

أحبه.. ما أصعب الكتمان!

إن كان يقرأ ما في العيون، إن بكت أو فرحت، أو يفهم...

أحصيتُ في الحب ما يحبُ، وما يحبُ، وما يكره، حتى نسيتُ ما أُحبُ في الدنيا، كل الدنيا، وأكره...

 

في المساء... كما في كل الصباحات:

أنزع، إذ أعتزل الدنيا، أوراق وردتي لاهيةً:

يحبني؟ ويحَ قلبي! لا يحبني..

يحبني؟ يا لَخوفي! لا يحبني..

يحبني؟ لا عشتُ! لا يحبني...

وأنا في كل أوراق الورد:

أحبه.. وأحبه.. وأحبه.

 

قبل الرحيل

سينفجر الصمت وأعلن:

أحببتُك من قبل الحب

ومن بعد الحب

ومن أول العمر الجديد

إلى آخرِ آخرِ الحياة.

 

قبل الرحيل

ستقرأ في أوراقي الممزقة أني أحببتك فاحفظ، كما حفظت للباقيات ذكري،

وعلِّق على جدار القلب، كما علَّقت للباقيات، بوحي وشعري:

افتح عينيك إني امرأة

كالحسان اللواتي تغزل من عشقهن القصائد!...

أنت أيها المستحيل في الممكنات،

وفي المستحيلات أنت محتمل..

أفق! فإني آخر الأحلام وأحلى الحقائق إذ تبصر.