أعود بعد ألف ليلة وليلة...

أستحضر بقايا الذكرى بعد الذكرى..

أبحث بين الأوراق عن الشوارد واللحظات وتفاصيل الصباحات والمساءات..

تطير روحي فوق الأطلال والمشاهد، والابتسامات الأولى، وآخر الدموع، والأوراق الممزقة والقصائد المعلقة على أسوار الأيام..

كان الصيف، صيفنا، أولَ الربيع، وصار الصيفُ، خريفنا، آخرَ الربيع...

 في الصيف، قبلَ ألفِ صيف، وبعد ألف صيف،

 

وقفتُ حيث رأيتك قبل خمسة وعشرين خريفًا،

قبل خمسة وعشرين شهرًا،

قبل خمس وعشرين لحظة...

وقفتُ حيث أطلَّت عيناك على عالم أنكر ما بعده، يا سيدتي، ما قبله. هناك علمت أن المرء لا يعشق، بل يتحرق فؤاده بدفء عشق ليس مثله عشقًا، يجعل العاشق ليس مثله عاشقًا.

ما زالت تلك الابتسامة الخفرة تضيء ليل سمائي إذا ما أطل أول الأحلام يهرب من ضجيج الصمت وهدوء الآفاق...

ما زال ذلك الذهب المنسدل على الكتفين منسوجة ضفائره بدفء الشمس...

ما زالت أولُ اللواحظِ، أولُ السهام، يقفز إليها جذلان الفؤادُ... كلما أيقظت اللواحظ نائم الذكريات..

ما زال أخضرُ العينين الممتدُ من أفق أعلى إلى أفق أعلى ينعش الروحَ كلما سَمَتْ إلى أعلى فأعلى الروحُ...

ما زال كل شيء على ما كان عليه أولُ النبض، وآخرُ النبض، ووردُ الفجر، وإشراقُ السماء...

أستخلص من ورود الذكرى بقايا عطرك... ولطيف همسك، وفرح عينيك تشرقان فجرًا يعقبه في العشق فجر، ثم فجر، ثم فجر...

أرسم ببقايا ألوانك على شغاف القلب أجمل القصائد، وأعذب النغم...

 

أرتحل كل ليلة إليك،

وأصحو كل فجر، إذ يصحو فجرك، على همس الياسمين والزنبق.

وعلى بوح كل ذي بوح تنطقه ذكراك.

ارتحلتُ منذ خمسة وعشرين صيفًا...

وما زلت أذكر حروف القصيد ينْصبُّ قطرُها العاشق من سمائك لؤلؤةً لؤلؤةً، نجمةً نجمةً، بسمةً بسمةً عطرًا وسحرًا...

تكسَّرت من بعدك قوارير العطر ولا يزال شذاها يفوح في الأمسيات والصباحات الأولى كياسمينة الفجر والعصر التي كانت تتراقص لابتسامات الطفولة إذ يغدو عبقُ الحسنِ، حسنِك، قربَها ويروحُ...

مزقت القصائد، وأحرقت الحروف، وضيَّعت المواعيد، بَيْد أني كنت كل يوم معك، وفي ليلي، على موعد جديد...

أسمع فيه رجع القصائد، وطرب الحروف، وافتتان المعاني وتراقصها بين عينيك.

هربت من عالمك ورأيتني بعد كل السنين العجاف، أهرب في الليل، إذ تغلق الشمس نوافذها، وفي النهار حين ترتفع حجب العتمة، منك إليك...

 

أنت في كل مكان سر، ونبض، وهمس، وعطر من الماضي إلى اليوم، إلى أفق القادم المقبل المدبر، يفوح...

ما زلتِ، منذ اليوم الأول، تختبئين في مرآتي وقوارير عطري وألواني،

وبين الأوراق والأقلام والأحزان...

وفي شوارد الأفكار، والكتب، وعشب الأرض، وحياء الورد، ودفء الشمس...

في حبات المطر، وليل السمر، وأنس السَحَر، وفجر الغياب...

ما زال يتردد في قلبي صدى نبضك، ونبضُ الصدى، كلما قبَّل في الفجر وجنتيك قطرُ الندى،

من أول الشوق،

من أول العشق،

من أول الحلم،

إلى آخر المدى..

 

أشتاق دومًا إلى عطر الروح

إلى زنبق النهار، يا زنبق النهار،

ومساء الياسمين...

لن أكذب عليك:

أيتها الأولى في النساء وإن سبقتها الحسانُ..

أيتها الأخيرة في الحسان وإن كثر بعدك النساءُ

اجتهدت أوسع الجهد كي أنسى،

وكنت دومًا أنسى، إذ أنسى، أن أنساكِ...