في الولاية الذهبية، باتت تجربة الطعام المكسيكية الفاخرة تحظى أخيرا بالاحترام الذي تستحقه. 

 

في ثمانينيات القرن الفائت، عندما كان راي غارسيا لا يزال فتى ناشئًا في لوس أنجلوس، كان غالبًا ما يوجد في متجر مكسيكي لبيع اللحوم. كان المرء ليجده، فيما يتنزه مع أفراد عائلته في سوق اللحوم المكسيكية، حاملاً كيسًا ورقيًا بني اللون تلتمع فوق صفحته بقع الدهون. ترجم غارسيا, بعد عقود عدة، تلك الذكرى الطفولية التي ظلت راسخة لديه في ابتكارات تزخر بها قائمة الطعام في مطعمه المكسيكي المعاصر بروكن سبانيش Broken Spanish، حيث أعاد ابتكار أطباق تقليدية باستخدام المهارات التي اكتسبها في مطاعم فاخرة مثل بينينسولا بيفرلي هيلز ومطعم فيغ. 

 

سلطة إل جاردان المكونة من الطماطم، والدراق، والجبن البقري القشدي، وأوراق الحُماض.

سلطة إل جاردان المكونة من الطماطم،
والدراق، والجبن البقري القشدي، وأوراق الحماض. 

 

لكن غارسيا ليس وحده من أقدم على هذه الخطوة. فعبر كامل أرجاء الولاية الذهبية، يتبنى الطهاة من أصول مكسيكية فن الطبخ في البلاد دون أن يسمحوا لأنفسهم بالوقوع أسرى التقاليد أو الصور النمطية حول ما ينبغي أن يكون عليه الطعام المكسيكي. يمزج هؤلاء الطهاة بين المكونات الموسمية، وذكريات طفولتهم، وتقنيات الطهو رفيعة المستوى، والإبداع، ليثبتوا للأمريكيين أن الطعام المكسيكي جدير بمكانة ما وسط أعظم المطابخ العالمية. 

 

كان لا بد أن يترسخ تحول ثقافي ما قبل نشأة مطعم بروكن سبانيش في لوس أنجلوس بكاليفورنيا، ومطعم كاليفورنيوس في سان فرانسيسكو، ومطعم تاكو ماريا في كوستا ميزا، ومطعم إل جاردان في سان دييغو. نجح المبدعون الذين يقفون وراء هذه المطاعم في ركوب الموجة المتنامية للاندماج في المطابخ المحترفة. صحيح أن الطهاة من الأعراق الملونة ما فتئوا لا يحظون بالقدر نفسه من الفرص المتوافرة للطهاة من العرق الأبيض لقيادة مطاعم تكلف تجارب الطعام فيها مبالغ باهظة، إلا أن الآفاق المفتوحة أمامهم اليوم تبدو أكثر إشراقًا مما كانت عليه في الماضي. يقول غارسيا: «إن واقعنا يختلف كل الاختلاف عن واقع آبائنا وأجدادنا في هذه البلاد. كان بمقدورنا أن نجعل صوتنا مسموعًا وأن نشق طريقنا خارج كواليس المطبخ ونتحدث بلغة الأعمال بما يضمن لنا إيجاد مستثمرين.»

 

«إن مطبخنا لا يقتصر على شطائر التاكو،

ولفائف البوريتو، ورقائق البطاطس، والصلصة» 

كلوديت زيبيدا – ويلكينز، مطعم إل جاردان 

 

توافرت لغارسيا، الذي علا شأنه في هذا القطاع في أواخر القرن الفائت، فرصة صقل حرفته وإدارة مطبخ مطعم فيغ في فندق فيرمونت بسانتا مونيكا. أما كارلوس سالغادو من مطعم تاكو ماريا، فعمل تحت إشراف دانيال باترسون في مطعم Coi الحائز ثلاثة نجوم ميشلان في سان فرانسيسكو. لكن هذه المؤهلات لم تكن كافية لضمان نشأة المطبخ المكسيكي الفاخر. فبالرغم من أن هؤلاء الطهاة كانوا يرتقون المراتب في مطابخ مرموقة، إلا أن الطريق إلى النجاح في عالم الطعام كان لا يزال يمر بمطاعم تقدم أطعمة تدور في فلك المطبخ الأوروبي. كان لا بد من حدوث تغيير آخر في ثقافة الطعام، وتحديدًا في أنماط تفكير الطهاة والزبائن على حد سواء. تحقق أخيرًا هذا التحول في هذا العقد. 

 

تقول غابرييلا كامارا من مطعم كالا للمأكولات البحرية: «إن التوجه السائد في عالم الطعام اليوم يقتضي أن يحول الطاهي ناظريه إلى جذوره ومكونات وطنه ومذاقاته. ويتعلق الأمر بتخلي المرء عن الخوف من تثمين الأطعمة المحسنة للشعور والمزاج التي يميل إليها.» هذا ما فعلته كامارا التي استلهمت الوجبة الخفيفة التي تقدمها عادة الأكشاك عند شاطئ البحر، والمكونة من شطيرة تاكو مقرمشة من دقيق الذرة تحتضن السمك النيء مع شريحة من الليمون الحامض، وأعادت تقديمها بفخر في بيئة فاخرة. تقول كامارا: «ما كنت من قبل لترى وجبة توستادا مدرجة على قائمة الطعام في أي مطعم مكسيكي لائق نوعًا ما. لم تكن هذه الوجبة تُعد طعامًا فاخرًا، وكنت لا تحصل عليها إلا عند الشاطئ.» أعادت كامارا ابتكار وجبة توستادا، فأعدتها من سمك السلمون المرقط، والأفوكادو، والكراث المقلي، وصلصة المايونيز مع الفلفل الحار المجفف والمدخن، موازنة بين المذاق الحامض، والتوابل الحارة، والملوحة، والدهون. وفي هذا تقول: «تجسد هذه الوجبة ما يعنيه الطعام المكسيكي الحديث اليوم.» 

 

طبق سفيتشي مكون من سمك الهلبوت النيء والشمر والفجل وأوراق الحماض، يقدم في مطعم كالا في سان فرانسيسكو.

طبق سفيتشي مكون من سمك الهلبوت النيء والشمر
والفجل وأوراق الحماض، يقدم في مطعم كالا في سان فرانسيسكو. 

 

يُعزى تربع كاليفورنيا على عرش الوجهات الرائدة في البلاد للمطبخ المكسيكي المعاصر في جزء كبير منه إلى سكانها. فنحو اثني عشر مليون شخص من سكان الولاية الذين يقارب عددهم أربعين مليون نسمة يتحدرون من أصول مكسيكية. أسهم السكان في كثرة وجهات تناول الطعام غير الرسمية وشاحنات بيع شطائر التاكو. تقول كامارا: «إذا أردت أن تطهو طعامًا مكسيكيًا في كاليفورنيا، فعليك أن تبدأ من المكان الذي يمتلك سكانه معرفة أوسع بالمذاقات والتوابل الحارة، ويظهرون قبولاً لها.» أتاحت هذه الألفة للطهاة أن يرتقوا فوق مرحلة التدريب لأنهم يقدمون ابتكاراتهم لجمهور قادر على إدراك مصدر إبداعهم. 

 

«إن التوجه السائد في عالم الطعام اليوم يقتضي

أن يحول الطاهي ناظريه إلى جذوره ومكونات وطنه ومذاقاته»

غابرييلا كامارا، مطعم كالا

 

لا شك في أن ارتياح الزبائن في كاليفورنيا للطعام المكسيكي سيف ذو حدين. فبعضهم لا يرغب في أن يحيد عن توقعاته الراسخة عن هذا المطبخ عندما يخرج لتناول الطعام، الأمر الذي يسبب الإحباط للطهاة. تقول كلوديت زيبيدا- ويلكينز من مطعم إل جاردان: «إن مطبخنا لا يقتصر على شطائر التاكو، ولفائف البوريتو، ورقائق البطاطس، والصلصة. لا أريد أن أتخلى عما نفعله لصالح المبيعات.» 

 

وبالرغم من أن هؤلاء الطهاة يقاربون الطعام المكسيكي من حيث كونه مطبخًا راقيًا، فيستثمرون في تكاليف أعلى للمنتجات والعمالة، إلا أنهم ما زالوا عاجزين عن فرض الأسعار المعتمدة في المطاعم الفرنسية. وفي هذا تقول زيبيدا – ويلكينز: «إن طعامنا أقدم من الطعام الفرنسي. لكنه لا يوضع على قدم المساواة معه فقط لأن بلدنا كان يندرج ضمن دول العالم الثالث.»

 

طبق النقانق مع الدراق وأوراق الجرجير الذي يقدمه الطاهي راي غارسيا في مطعم بروكن سبانيش Broken Spanish في وسط مدينة لوس أنجلوس.

طبق النقانق مع الدراق وأوراق الجرجير الذي يقدمه الطاهي راي غارسيا في مطعم بروكن سبانيش Broken Spanish في وسط مدينة لوس أنجلوس. 

 

لا بد للطهاة، في المقابل، من التصدي للسلوك الذي يفترض ضرورة أن يكون طعامهم بخس الثمن. يقول غارسيا: «سمعت مصادفة أحد الزبائن في المطعم يتساءل متعجبًا: أربعة عشر دولارًا هو ثمن فطيرة تامال المكسيكية؟ هذا أمر جنوني! عندما يرى الناس كلمات أو أسماء إسبانية منسوبة إلى الأطباق المكسيكية، يقدرون قيمتها وفق ما يدفعونه مقابل فطيرة تامال يبتاعونها من المرأة التي تعدها عند زاوية الشارع عوضًا عن أن يحددوا قيمتها بما يتناسب مع كلفة أربع أونصات من لحم الحمل المغذى على الأعشاب، والفطر الموسمي، والذرة، وأجر الشخص الذي يعد عجينة الفطائر طازجة. لكن أسعارنا لا تزال رخيصة جدًا مقارنة بما يفرضه نظراؤنا الناشطون في مطبخ كاليفورنيا أو المطبخ الفرنسي مقابل المكونات نفسها.»

 

بالرغم من المقاومة التي واجهها هؤلاء الطهاة في مرحلة سابقة، إلا أن الزبائن باتوا يثمنون على نحو متزايد ما يقومون به، ويظهرون استعدادهم لتكبد كلفة تناول أطباقهم. يقول غارسيا: «إننا اليوم في موقع مختلف تمامًا عما كان عليه الحال قبل أربع سنوات عندما كان الزبائن يلتقطون قائمة الطعام وينظرون إليها ثم يغادرون المطعم.» منذ افتتاح هذه المطاعم، باتت علامات الثناء والتقدير تنهال عليها. حاز مطعم كاليفورنيوس نجمتين من نجوم ميشلان، وتوج جوناثان غولد، الناقد المرموق في مجال الطعام، مطعم تاكو ماريا بوصفه مطعم عام 2018 في صحيفة لوس أنجلوس تايمز. 

 

يتطلع هؤلاء الطهاة، بعد أن رسخوا حضور مطاعمهم، إلى تدريب آخرين سينطلقون في نهاية المطاف، كلٌ في مسيرته الخاصة، لابتكار مطاعم مكسيكية أكثر عصرية، والدفع قدمًا بحدود هذه الحرفة، وتغيير المفاهيم المتخيلة التي تقيدها الأطباق. تقول كامارا: «يعتقد الناس أن الطعام المكسيكي رديء ومتواضع. لكن بالإمكان اليوم إعداد أطباق مكسيكية معقدة وفاخرة للغاية، ما يشكل مصدر فخر ثقافي لم نره حتى قبل بضع سنوات.»