يوشك الذكاء الاصطناعي والتصميم باستخدام الخوارزميات

على تغيير مفهوم السيارات الفاخرة التي يتوقع أن تزداد غرابة.

 

لطالما كانت السيارة سيارة بمفهومها المحض على ما نذكر جميعنا، إلى أن جاء يوم وتبدّل حالها. فمفهوم السيارة، الذي يرجع إلى مئة سنة مضت، ويتجسّد في تصميم متعدد الأطر يرتفع فوق أربع عجلات تتكامل مع مقود ودوّاسات، فيما يوجّهه الأفراد وتغذّيه بالطاقة انفجارات صغيرة منضبطة، قد انقلب رأسًا على عقب بسبب دوّامة العولمة، والثورة التقنية، والأمور البيئية، فضلاً عن هجوم شامل على نموذج الملكية. أطلق هذا الاختلال بالغ الوطأة العنان لتطوّر سريع في طُرز السيارات، وباتت اليوم نماذج غير تقليدية منها تجوب الشوارع.

 

تشهد على ذلك مثلاً السيارات الرياضية متعددة الاستعمالات من رولز – رويس، والمركبات الكرواتية الخارقة التي لا يُسمع لها هدير والتي تتزوّد بالطاقة من البطاريات، بالإضافة إلى الشاحنات الكهربائية المصفّحة من طراز Cybertruck المستلهمة من عالم الخيال العلمي، والمركبات ذات الباب الخلفي التي يحاكي تصميمها شكل الزعنفة وتميّزها أبواب مجنّحة تنفتح إلى أعلى، وأنظمة ذكية ضخمة بما يكفي لتولّي زمام القيادة لبعض الوقت. يبدو الأمر أشبه بأن ينظر المرء من حوله ذات يوم ليكتشف أن بعض الكلاب باتت بحجم الجياد وقادرة على الزقزقة، فيما نبت لبعضها الآخر إبهام متعارض مثل الإنسان، وتوافرت لها إمكانات صوتية تعبّر من طريقها عن آرائها الحاسمة بشأن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي!

 

 Lagonda All-Terrain Concept من أستون مارتن.

إذ تتنامى إمكانات تقنية القيادة الذاتية، ستتراجع المهام التي يقوم بها «السائق». وستصبح عندئذ مقصورات القيادة في المركبات أكثر انسيابية بتصاميمها،
وأكثر احتواء للمزايا التقنية المتطورة، على ما هو جلي في السيارة التصورية Lagonda All-Terrain Concept من أستون مارتن.

 

لنأخذ على سبيل المثال واقع السيارة الفاخرة. فهذا المصطلح كان يعبّر قبل وقت غير بعيد عن ابتكار محدّد نوعًا ما يتمثّل في مركبة صالون ضخمة ذات حضور مهيب، ومحرّك يعمل بحرق الوقود ويتفرّد بأداء متفوق يحظى بالاستحسان. كانت هذه المركبة تتميّز أيضًا بمقصورة خلفية فسيحة بما يكفي لعائلة متعددة الأفراد، ويكسو السجاد أرضيتها والجلد مقعدها. أما اليوم، فباتت السيارة الفاخرة عديمة الشكل المحدد، ومشتتة بقدر مختلف أوجه عالم المنتجات الفاخرة الآخذ في الانتشار، والتي تشمل أحذية رياضية تجتذب هواة مقتني الفرائد، ودمى يابانية مصمّمة في هيئة دببة مرعبة وقاسية الملامح، وشعور طاغ بالخجل ينتابك بسبب طائرتك الخاصة.

 

«إننا نطور تجربة صناعة السيارات بمجملها من حول مقود ودواسات،

ما يكرس وجه تشابه بين المركبات كافة. عندما تحاول تصور ما سيكون عليه الوضع بعد ثلاثين عاما،

تجد نفسك أمام صفحة بيضاء»    

 

تشكّل أيضًا الكائنات الآلية الصارمة والصديقة للنباتيين من تيسلا خيارًا لا غنى عنه في أوساط سيليكون فالي حتى في ظل انتشار المركبات الرياضية متعددة الاستعمالات البالغ سعرها مئات الآلاف من الدولارات، والتي تتكاثر مثل أرانب تزن خمسة آلاف رطل في المناطق السكنية الواقعة خارج نطاق الضواحي. في مقابل ذلك، يُظهر جيل جديد من المشترين تقديرهم للمركبات التي لا تسبّب أي انبعاثات، لكنهم يؤثرون في الواقع اختفاء السيارات نهائيًا، شأنها في ذلك شأن رسائل البريد الصوتي.

 

لكن ثمة مؤشرات توحي بأن الصنّاع في قطاع السيارات قد شرعوا أخيرًا يتّحدون حول فكرة واحدة تجسّد ما ستكون عليه السيارة مستقبلاً. وقد ينطوي الطريق إلى هذا المستقبل على تحوّل مثير للاهتمام. فالسيارة المستقبلية الفاخرة لن تمثّل نسخة أغلى ثمنًا فحسب مما هي عليه اليوم، بل إنها ستنحرف نحو مفهوم مغاير تمامًا. سنشهد للمرة الأولى على الإطلاق اختلافًا ليس في الدرجة فحسب، ولكن في النوع أيضًا، بسبب تحوّل ناجم عن ثلاث قوى مترابطة هي الذكاء الاصطناعي، ونهضة التصنيع المتخصص، والندرة المتزايدة.

 

 تشير رولز – رويس إلى أن مركبتها 103EX Concept ترسم تصورًا لمستقبل ستكون كل سيارة فيه «متفردة على غرار بصمة الإصبع».

تشير رولز – رويس إلى أن مركبتها 103EX Concept ترسم تصورا لمستقبل ستكون كل سيارة فيه «متفردة على غرار بصمة الإصبع».

 

الذكاء الاصطناعي

ترسم ثورتان تقنيتان رئيستان وجه سيارة المستقبل، وتتمثلان في التحوّل إلى الطاقة الكهربائية، والقيادة الذاتية.

ستنتصر المركبات الكهربائية في نهاية المطاف ليس بسبب التركيز المتزايد على الاستدامة فحسب، أو لأن تيسلا أضفت عليها طابعًا جذابًا، ولكن لأنها توفّر منافع لا لبس فيها لقطاع بات موحدًا بأغلبيته الساحقة، وعالمي النطاق بصورة لا مفرّ منها، ومنضبطًا إلى حد كبير، وأيضًا لأنها تتفوق على غيرها من حيث تناغمها مع تقنية القيادة الذاتية.

 

لا يساعد تبنّي المركبات الكهربائية على نطاق واسع في الحد من وطأة الصعوبات التنظيمية المرتبطة بالغازات المنبعثة من الأنظمة العادمة فحسب، إذ إن هذه السيارات تخلو من الانبعاثات ولا تشتمل على أي أنظمة عادمة. بل إن تصنيعها يبقى أسهل، شأنه في ذلك شأن مواءمتها مع الأسلوب الهندسي الجزيئي الذي يؤثره اليوم كبار صنّاع السيارات في العالم، والذي يقوم على استخدام عدد ضئيل من المنصات الهيكلية لدعم مجموعة متنوعة من المركبات. (تنتج مجموعة فولسفاغن، التي تمتلك اثتني عشرة علامة موزعة عبر سبعة بلدان، ما يزيد على ثلاثين طرازًا مختلفًا من السيارات بالاستناد إلى المنصة الهيكلية نفسها MQB المعتمدة في مركبات تتفاوت بين السيارات الرياضية والشاحنات الصغيرة.) فضلاً عن ذلك، تدفع الصين، التي تشكّل أكبر سوق للسيارات في العالم، باتجاه تحقيق معدل مرتفع جدًا لتبني المركبات الكهربائية التي تتزوّد بالطاقة من البطاريات.

 

شهدت هذه السوق بيع ما يزيد على مليون سيارة كهربائية ومركبة كهربائية هجينة في عام 2018، وتحاول أوروبا، التي تُعد ثالث أكبر سوق للسيارات، مواكبة هذا التوجّه. وبغض النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنوي الحفاظ على أواصر العلاقة المتقهقرة بالوقود الأحفوري، فإن السوق العالمية التي تلحظ الاعتبارات المناخية بشكل متزايد ستضمن تحقق المستقبل الكهربائي لقطاع السيارات.

 

«إننا نقف حقيقة على أعتاب بعض التحولات الجذرية.

ثمة رؤية لمستقبل يشبه إلى حد كبير العصر الذهبي لبناء الهياكل الخارجية للسيارات»    

 

أما في ما يتعلق بتقنية القيادة الذاتية، فلا أحد يستطيع أن يخمّن متى ستتحوّل إلى واقع يختبره المستهلكون على نطاق شاسع. ولا ترتبط المسألة بالقدرة التقنية فحسب، ولكن بمصفوفة معقدة تشمل القوانين التشريعية، والبنية التحتية، والمسؤولية القانونية. في غضون ذلك، تنفق الشركات كافة، من سامسونغ وسوفت بنك إلى أوبر مبالغ مالية طائلة لضمان مواقع الصدارة في هذا العرض متى حان موعده.

 

يقول آدم فروست، الرئيس التنفيذي للشراكات وبرامج السيارات لدى شركة وايمو Waymo، التي كانت تُعرف سابقًا باسم مشروع غوغل للسيارات ذاتية القيادة Google Self-Driving Car Project، وباتت اليوم تشكل كيانًا مستقلاً ضمن شركة ألفابيت، الشركة الأم لغوغل: «لا شك في أن خارطة الطريق التي نلتزم بها تشمل توافر مركبات ذات ملكية خاصة مجهّزة بنظامنا التقني. ومن الجلي أن شركاءنا يظهرون اهتماماً بالغاً بهذا التوجّه. إننا نخوض معهم اليوم نقاشات حول ماهية هذا المنتج.»

 

لكنّ سنوات عدة، إن لم نقل عقودًا، لا تزال تفصلنا عن الوقت الذي يمكننا فيه أن نسترخي ونشاهد البرامج والأفلام المتاحة على منصة نتفلكس فيما نتنقّل في رحلة على متن مركبة ذاتية القيادة من المستوى الرابع. في الوقت الحالي، دخلت شركات مثل وايمو، وكروز Cruise، وأرغو للذكاء الاصطناعي Argo AI في مشاريع شراكة مع صناع سيارات (أو جرى بيعها لهم) لتطوير أساطيل من مركبات الأجرة المجهّزة بأنظمة القيادة الذاتية من المستوى الرابع، والقادرة على العمل ضمن حدود بعض المدن الاختبارية. تشغّل شركة وايمو على سبيل المثال شاحنات صغيرة ذاتية القيادة من طراز كرايسلر باسيفيكا في أجزاء من مدينة فينيكس، فيما تنشط مركبات من طراز فورد مجهّزة بأنظمة الذكاء الاصطناعي وتابعة لشركة أرغو في بالو ألتو، وديترويت، وبيتسبرغ.

 

 الهيكل الداخلي لسيارة لا بانديتا La Bandita المكشوفة من هاكرود، الذي ابتكر تصميمه باستخدام مصفوفة خوارزمية.

الهيكل الداخلي لسيارة لا بانديتا La Bandita المكشوفة من هاكرود، الذي ابتكر تصميمه باستخدام مصفوفة خوارزمية.

 

تستند هذه المركبات في أدائها إلى معلومات توفّرها معدات صلبة جُهّزت بها مثل آلات التصوير، وأجهزة الاستشعار، والنظام الراداري، فضلاً عن نظام يرتكز إلى تقنية الليزر ويحمل اسم LIDAR، وخرائط ثلاثية الأبعاد مفصّلة بقدر كبير من الدقة.

يقول فروست: «نطوّر خارطة خاصة لمركبات وايمو تجسّد فهمنا العميق للبيئة الواقعية، وترتكز إلى نظام مسح عالي الدقة يدرك موقع الهضاب. يمكن لهذا النظام أن يرصد إشارات الوقوف، ومواقع الإشارات الضوئية، وحدود المسارات. بل إنه يستطيع رصد الحافة الفاصلة بين الرصيف والطريق.»

 

تشي المناطق التشغيلية ذات الحدود الجغرافية الافتراضية لهذا القطاع، والشراكات بين صنّاع السيارات والشركات التقنية، بكيفية تطبيق هذه التقنية في المركبات ذاتية القيادة التي يمتلكها الأفراد، وذلك على ما يقول أليكس روي، الصحافي في الموقع الإلكتروني The Drive الذي يكتب مقالات منتظمة عن الأتمتة، فضلاً عن كونه مستثمرًا في عالم المركبات ذاتية القيادة.

يقول روي: «ينبغي تلقين منظومة الذكاء الاصطناعي من منظور جديد في كل مدينة. يجري البدء بمدينة واحدة تليها أخرى إلى أن يصبح بالمقدور في نهاية المطاف الربط بين تلك المدن كلها. يتعلق الأمر بنطاق التغطية المتوافر للخدمة، كما هو عليه حال خارطة الهواتف الخلوية.» في مرحلة ما، ستضطر الشركات المطوّرة للمركبات ذاتية القيادة، على ما يقول روي، إلى التنافس على زبائن السيارات الشخصية في الأسواق المتداخلة.

 

قد يعني ذلك تفضيل سيارة من طراز فورد على أخرى من طراز أودي بالاستناد جزئيًا إلى اسم العلامة، والمواصفات، والنطاق المتاح لتقنية القيادة الذاتية التي جُهّزت بها. يشبه الأمر اختيار هاتف جوّال معيّن ليس بالاستناد إلى مزايا مثل حجم الشاشة والنظام التشغيلي فحسب، بل نطاق الخدمة وجودة الاتصال أيضًا. ستتحوّل الإمكانات التقنية في أي مركبة (أي إمكانات القيادة الذاتية وغيرها) أكثر فأكثر إلى سمات مميّزة للمركبة، شأنها في ذلك شأن المحرك أو نظام المسجل الصوتي، مع إمكانية تحسين هذه المزايا تلبية لرغبة أولئك الذين ينشدون الأحدث والأفضل، ليس على مستوى التقنية نفسها فحسب، ولكن أيضًا من حيث سبل استخدامها.

 

من الضروري التنبه إلى أنه خلافًا لما هو متاح لسائق من الناس، لا يمكن للمركبات ذاتية القيادة، على ما هو مخطط لها، أن تبلغ على الأرجح الحد الأقصى المحدد للسرعة، حتى إن كانت الطريق سالكة أمامها كليًا. يعني ذلك أنه بحلول الوقت الذي تتشارك فيه السيارات التي يقودها السائقون والمركبات ذاتية القيادة الطرقات نفسها، لن يتطلب بلوغ أي وجهة بسرعة تفوق الحد الأقصى المبيّن في مركبة ذاتية القيادة الضغط بقوة أكبر على الدوّاسة، بل إنفاق المزيد من النقود.

يقول روي: «قد يُسمح للسيارات الفاخرة التي يجرى تحديثها في النظام بوصفها مركبات ذات أولوية بأن تنطلق على الطرقات بسرعة أكبر وتتجاوز السيارات التي لا تحظى بالأولوية، وذلك مقابل كلفة مالية.»

 

زد على ذلك التقنية داخل المقصورة الداخلية. فالاندفاع المستعر لتطوير إمكانات القيادة الذاتية شرّع أبواب قطاع السيارات على عالم البيانات الضخمة. اليوم وقد رسّخت شركات أمازون، وآبل، وغوغل، موقعها في هذا العالم، فإنها لن تتخلى عن جمهور عريض يأسره هذا التطور (في عام 2018 وحده، بيع ما يزيد على ثمانين مليون مركبة جديدة). سيضطر هذا الجمهور قريبًا إلى تحديد ما ينبغي أن يحظى باهتمامه داخل أي سيارة بعد أن رُفعت مهمة القيادة عن القائمة. قد يقتضي طلب أحدهم مركبة مستقبلية فاخرة الإيعاز بتضمينها خيارات الألعاب والأنظمة الترفيهية التي تشمل الإصدار الأخير من لعبة فورتنايت، أو اشتراكًا في منصة أمازون برايم للأفلام، أو برنامجًا صحيًا يتضمّن الخاصية المدمجة لمراقبة المؤشرات الحيوية في الوقت الحقيقي.

 

إذا كان هذا المستقبل يبدو بعيدًا، فذلك لأنه بعيد حقًا. لكن البيانات الضخمة تحدث تغييرات عدة ملموسة في ما يتعلق بالإمكانات المتاحة للسيارة الفاخرة، وبعض التغييرات الأشد إثارة للدهشة قد بدأت تتحقق الآن.

 

 نظام سيكامور من غوغل

ستغير أنظمة الحوسبة الكمية، مثل نظام سيكامور من غوغل،
مختلف أوجه النظام البيئي لعالم السيارات، من الأبحاث حول البطاريات
إلى توجيه المركبات ذاتية القيادة، وقد بدأ صناع السيارات
باستثمار مبالغ طائلة في هذا المجال.

 

التصنيع المتخصص

يقول فيلكس هولست، الرئيس التنفيذي لدائرة الإنتاج والمؤسس المشارك في هاكرود، الشركة الناشئة التي تنشط في استكشاف تطبيقات صناعية ثورية جديدة في عالم صناعة السيارات: «إن ابتكار أي مركبة اليوم، سواء أكان إصدارها يقتصر على نموذج واحد أم مئة نموذج، أم مئات الآلاف من النماذج، يقتضي استثمار مبالغ فلكية في الأدوات وساعات العمل اليدوي. وإذا أصبحت تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، وتشكيل الألواح المعدنية باستخدام الكائنات الآلية، وغير ذلك من التقنيات التصنيعية الآلية المتطوّرة، متوافرة على شبكة الإنترنت، باتت قادرة على تبديد الحد الفاصل بين المستهلك ومسار التصنيع، ما يعكس في حقيقة الأمر تصنيعًا على نطاق واسع بكمية تعادل منتجًا واحدًا.»

 

يشكّل هذا التطوّر البالغ سيفًا ذا حدّين في مجال إنتاج السيارات. فحتى مصنع فريمونت التابع لشركة تيسلا والمجهّز بالآلات على نطاق واسع يعتمد على مسار تصنيع تقليدي في جوهره، إذ تزخر منشآته الفسيحة في كاليفورنيا بكائنات آلية لا يهدأ أزيزها تتولى ضغط هياكل السيارات ومعالجتها بأشعة الليزر، ورفعها مسافة خمس عشرة قدمًا إلى مسار السكّة برشاقة تحاكي سهولة وضع علبة من الحساء فوق أحد الرفوف. فالمصمّمون يرسمون مخططات السيارات، والمهندسون يشكّلون التصميم ويحسّنونه، فيما يعمل الأفراد مع الآلات على جمع الأجزاء. لكن تبيّن لهولست، وشريكه المؤسس في هاكرود، ماوس ماكوي، أنه يمكن لتآلف التقنيات المتطورة، أي الذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، والتصميم باستخدام الخوارزميات، والطباعة ثلاثية الأبعاد، أن تبسّط المسار التصنيعي على غرار ما حققته البرامج التطبيقية الموسيقية التي حوّلت المسار العملي الشاق الذي يقتضيه إنتاج ألبوم موسيقي إلى عمل يمكن لأي مراهق أن يستنسخه وهو قابع في حجرة نومه.

 

ويقول هولست، الذي شغل سابقًا منصب نائب رئيس وحدة التصاميم لدى شركة هوت ويلز، إن الهدف كان تخيّل «ما إذا كان بمقدور ثلاثة فتيان أن ينشئوا شركة للسيارات من مرآب المنزل.»

كانت النتيجة ابتكار شركة هاكرود لمركبة لا بانديتا La Bandita المكشوفة وذات المقعدين، التي جرى بناؤها باستخدام هيكل داخلي لم يضع تصوّره المهندسون، بل أثمرت عنه خوارزمية للتعلم الآلي، وأبصر النور بسبب مسارات تصنيعية متطورة.

 

يقول هولست: «إنه تصميم توليدي يقوم بشكل رئيس على أن يحدد المرء احتياجاته ومعايير ما يحاول تحقيقه، ثم يتيح لآلية المعالجة المرتكزة إلى أنظمة التخزين السحابية أن تجيئه ببنية مثالية تلبي تلك الاحتياجات.» يمكن اليوم لهذا النوع من التصميم باستخدام الخوارزميات أن يعالج مشكلات هندسية معقّدة، مثل استبدال المحرك. وعندما تصبح أنظمة الحوسبة الكمية متفوقة الأداء متوافرة على نطاق واسع (لا يتوافر منها حتى يومنا هذا على شبكة الإنترنت سوى أحد عشر نظامًا في العالم كله على ما يُقال)، سيصير بالإمكان إجراء مثل هذه العمليات الحسابية عبر عوالم موازية لا عد ولا حصر لها لغرض التسلية فحسب.

 

 تستقدم شاحنة Cybertruck من تيسلا مستقبل ما بعد الكوارث المروعة في أفلام الخيال العلمي إلى زمن حاضر.

تستقدم شاحنة Cybertruck من تيسلا مستقبل ما بعد الكوارث المروعة في أفلام الخيال العلمي إلى زمن حاضر.

 

أما تبعات هذا التطور في عالم تصنيع المركبات بحسب الطلب، فمبهرة جدًا، لا سيما في مستقبل الغلبة فيه لسيارات كهربائية تنأى عن التعقيد. يمكن لأحد الزبائن أن يبتاع منصة هيكلية نموذجية للمركبة الكهربائية تحاكي بنيتها تصميم لوح التزلج، وتتكوّن من صف مسطح من البطاريات يرتفع فوق أجزاء دوّارة مجهّزة بمحرك آلي، ثم يفوّض إلى مصنع صغير الحجم مهمة ابتكار تصميم لهيكل السيارة باستخدام مصفوفة خوارزمية، وبما يتوافق مع مواصفات الأداء والسلامة المحددة، ليجري بعد ذلك إخضاع الهيكل لاختبارات الاصطدام في الواقع الافتراضي، وطباعته خلال بضعة أيام أو بضع ساعات، دون أي قيود تفرضها احتياجات مثل مقعد للسائق، أو واجهة زجاجية أمامية يمكن النظر عبرها.

 

يقول فروست: «إننا نطوّر تجربة صناعة السيارات بمجملها من حول مقود ودوّاسات، ما يكرّس وجه تشابه بين المركبات كافة. عندما تحاول تصوّر ما سيكون عليه الوضع بعد ثلاثين عامًا، في ظل تحوّل تقنية وايمو للقيادة الذاتية إلى عامل ممكّن، تجد نفسك أمم صفحة بيضاء.»

 

فضلاً عن ذلك، لا يجدر بالإبداع أن يقتصر على مسار تصنيع المركبة. فقد يجري صقل الأسطح الداخلية والخارجية يدويًا وفقًا لعملية شاقة يُستخدم فيها مزيج من التقنيات بالغة التطور والأساليب القديمة، على غرار ما يقوم به اليوم صنّاع معاصرون ينشطون في مجال تعديل السيارات عتيقة الطراز واستعادتها. قد يعني ذلك توافر خيارات مختلفة، من المقاعد المنجّدة يدويًا والمصنّعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بعد تصميمها بحسب الطلب وفقًا لنتائج مسح تضاريس الجسم، إلى جناح خلفي للسيارة أعيد تصنيعه من ألياف الكربون بالاستناد إلى مسح بتقنية الليزر للأبعاد الدقيقة المميزة لسيارة McLaren F1 GTR التي حققت الفوز في بطولة لومان في عام 1995.

 

يقول هولست: «إننا نقف حقيقة على أعتاب بعض التحولات الجذرية. ثمة رؤية لمستقبل يشبه إلى حد كبير العصر الذهبي لبناء الهياكل الخارجية للسيارات.»

 

لبناء مثل هذه المركبات ذاتية القيادة المصممة بحسب الطلب، علينا أن نتصور تلاحم برنامج تطبيقي للذكاء الاصطناعي، ونظام صلب من أجهزة الاستشعار في كيان واحد يشكّل مكوّنًا جاهزًا لبناء سيارة، على غرار إمكانية شراء محرّك متكامل من طراز فورد، أو أجهزة استشعار لركن السيارة من أمازون. توفّر وايمو خدمة بيع تقنية المسح التي ابتكرتها تحت اسم LIDAR إلى مستهلكين من خارج أوساط صنّاع السيارات، فيما تطرح شركة Comma.AI في سان دييغو جهازًا بخمس مئة وتسعة وتسعين دولارًا يحمل اسم Eon DevKit ويستخدم آلة تصوير مع البرنامج التطبيقي غير المشفّر الخاص بالعلامة لتحسين الأنظمة المساعدة للسائق في عدد من المركبات التابعة لعلامات مختلفة، موفِّرًا بذلك ما يشبه خدمة ما بعد البيع لنظام تيسلا المساعد للقيادة Tesla Autopilot.

 

لكنّ هذه الآلات كاملة التجهيز والمصممة بحسب الطلب لن تتوافر بسعر بخس، إذ إنها ستجسّد الاستثناء الأكثر تمايزًا في أسطول من وسائل نقل لا تنفك تزداد تجانسًا، إلى أن يحين الوقت بالطبع ولا تعود استثناء. وإذ يذكر هولست الطلب المتزايد على أحذية من أديداس ونايكي تُباع على نطاق واسع ولكنها تُصمم بحسب الطلب وتُصنّع باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، يفترض أن مثل هذه السيارات «ستصبح قريبًا متوافرة للجميع.»

في أي وجهة ستمضي السيارة الفاخرة إذا ما أصبحت آلات الاحلام هذه متاحة للعموم؟

 

 «سيوصف هذا السلوك بالخطير على نحو عبثي والرجعي حد التطرف، إذ يشكل نوعا من سبل التسلية البائدة وغير القانونية بمعظمها،

المتاحة حصريا لفاحشي الثراء وأولئك الذين يميلون إلى محاكاة أحداث تاريخية غابرة»

 

الندرة

ثمة مستقبل لا يزال بعيد المنال ولا يكاد يكون مضمونًا، لكنه ممكن، تتمثّل فيه سيارتك العادية بصندوق كهربائي يتحرّك بخفة، ويتزوّد بالطاقة من منصات الشحن اللاسلكية المثبتة عند جوانب الطرقات نفسها التي يسافر عبرها ببراعة باستخدام نظام القيادة الذاتية. ومن السهل أن نتخيّل نسخة فاخرة من مثل هذه المركبة. جلّ ما يتطلبه الأمر هو ابتكار صندوق أكبر حجمًا وأشد فخامة بملامحه التصميمية للإتيان بوسيلة نقل ذاتية القيادة بحجم حافلة لنقل فرقة موسيقية يبتكر تأثيثها الباذخ كبار خبراء التصاميم الداخلية المعاصرون، فيثرون أرجاءها بالأعمال الفنية، ويجهّزونها بمرافق كاملة، من مهاجع النوم إلى النادي الرياضي.

 

لكن في هذا المستقبل الغامض نفسه، يمكن تصوّر نسخة أخرى عن السيارة الفاخرة تُعدّ شديدة الغرابة، وكفيلة بأن تأسر الأنظار بسبب مظهرها المثير للعجب، والمتنافي مع روح العصر، بل، ربما، الاستفزازي عن عمد. قد تبدو هذه المركبة شبه مطابقة لسيارة اليوم، فتتخذ حقيقة شكل صندوق متواضع بعجلات يتكامل مع مقود ودوّاسات، ويتغذّى بالطاقة من بقايا الديناصورات الخام المسيّلة.

 

ربما يسير عالم السيارات قدمًا إلى مستقبل الغلبة فيه للمركبات الكهربائية ذاتية القيادة المصمّمة بحسب الطلب. لكن التوجهات السائدة في ما يتعلق بالتقنية تنحو إلى تغليب الكفاءة والطابع العمومي، هاتان الميزتان اللتان يصعب على سوق المنتجات الفاخرة التعايش معهما. يكفي أن نستحضر في هذا السياق قصة «أزمة الكوارتز» التي كادت تقضي على قطاع صناعة الساعات الراقية كما نعرفه.

 

في أواخر سبعينيات القرن الفائت، خلص قطاع صناعة الساعات بمجمله إلى أنه نجح في استشراف المستقبل، حسب رؤيته، وكان مستقبلاً الغلبة فيه لساعات تعمل بالبطاريات. كانت الساعات التي تستمد الطاقة من تيار كهربائي ينتقل من البطارية عبر بلورات الكوارتز، تُعد أكثر دقة وموثوقية، كما أن إنتاجها أقل كلفة من تصنيع المعايير الحركية الميكانيكية المعقّدة. تبنّى الصنّاع كلهم، آنذاك، من رولكس إلى باتيك فيليب، هذا العالم الجديد والجريء، وعمدت بعض العلامات في مختلف أنحاء سويسرا إلى إتلاف آلاتها المستخدمة في صناعة الساعات، وجرى التخلي دون تكلف عن الأساليب القديمة عبر التخلص من أكوام أدوات بدت فجأة من زمن بائد.

 

 «سيوصف هذا السلوك بالخطير على نحو عبثي والرجعي حد التطرف، إذ يشكل نوعا من سبل التسلية البائدة وغير القانونية بمعظمها، المتاحة حصريا لفاحشي الثراء وأولئك الذين يميلون إلى محاكاة أحداث تاريخية غابرة»

«سيوصف هذا السلوك بالخطير على نحو عبثي والرجعي حد التطرف، إذ يشكل نوعا من سبل التسلية البائدة وغير القانونية بمعظمها،
المتاحة حصريا لفاحشي الثراء وأولئك الذين يميلون إلى محاكاة أحداث تاريخية غابرة»

 

حدث في نهاية المطاف أن خمد وهج تلك الحمّى. ما عادت أمارات البساطة والكفاءة تفتن المشترين الذين أظهروا عوضًا عن ذلك رغبة في الانغماس في عالم المنتجات المعقّدة وغير المتسمة بالكفاءة التي تُصنّع يدويًا وفقًا لمسارات عملية شاقة، على غرار ما أرادوه أيضًا لعمارتهم، والبذلات المصمّمة بحسب الطلب التي يتزيّنون بها. وإذ عادت الساعات لتنبض مجددًا بالمعايير الحركية الميكانيكية المعقدة، حقق في نهاية المطاف قطاع صناعة الساعات الراقية نموًا تحوّل من خلاله إلى قطاع بقيمة مليارات الدولارات لا تظهر مؤشراته أنه قد يبطئ إيقاعه.

 

لن نشهد مثل هذا المستقبل المحكوم بانتشار سوق واسعة النطاق للسيارات الهادرة التي تستمد الطاقة من الوقود، وتخلو من أنظمة الذكاء الاصطناعي، لا سيما عندما يحين وقت قد يضاهي فيه الوقود الأحفوري الذهب من حيث كلفته، وتُقصي فيه القوانين التشريعية والمسؤولية القانونية السيارات التي يشغلها الإنسان بعيدًا عن الطرقات بداعي الحفاظ على السلامة. وفيما يتواطأ فرض رسوم للحد من الزحمة مع خدمات استعمال السيارات بموجب اشتراك للقضاء على نموذج الملكية في أوساط الطبقة المتوسطة، «توشك الملكية الخاصة للمركبات الفاخرة أن تصبح أشد ندرة، لا سيّما في المدن»، على ما يقول أليكس روي، مشيرًا إلى أن الطرقات المستقبلية ستزدحم بمركبات مستأجرة «بالدقيقة أو بالميل».

 

لكن المكافأة التي تنتظر مقتني السيارات القادرين على امتلاك مركبة غريبة إلى حد صارخ، وتوفير الطاقة لها وصيانتها، ستتمثل في صلة وصل مباشرة مع واحد من أعظم الإنجازات البشرية، وتحديدًا وسيلة نقل متينة على نحو ملحوظ ومبهرة أحيانًا، نستند إليها في بناء العالم الحديث.

سيحتاج الواحد منّا إلى مقومات تتجاوز توافر الوقود وسلالة مهددة بالانقراض من الخبراء الميكانيكيين واسعي المعرفة. فالإبقاء على سيارة أثرية في المستقبل البعيد سيقتضي توافر مساحة كافية للتجوال على متنها. ففي عالم تحكمه صناديق تسافر بخفة على الطرقات لتنقلنا إلى وجهاتنا كما لو كنّا طرودًا بريدية جرى فرزها مسبقًا، سيُعدّ الانطلاق إلى المجهول على متن مركبة تزمجر وتطلق الانبعاثات وتسير في الوجهة التي نحددها بالسرعة التي نجرؤ على اختيارها، شكلاً من أشكال الجموح في التحرر.

 

سيوصف هذا السلوك بالخطير على نحو عبثي والرجعي حد التطرف، إذ يشكّل نوعًا من سبل التسلية البائدة وغير القانونية بمعظمها، المتاحة حصريًا لبالغي الثراء، وأولئك الذين يميلون إلى محاكاة أحداث تاريخية غابرة.

يعني ذلك أن «الطريقة المثلى لتضمن مقدرتك على القيادة في مستقبل المركبات ذاتية القيادة يقتضي امتلاكك الطريق الذي تنطلق عبره.» على ما يقول روي.