يجمع متحف الفن في زيورخ بين روائع ميرو، وبيكاسو،

ومونيه، ومونك، وفان غوخ، ورامبرانت، تحت سقف واحد.

 

فيما كنت أعبر إلى ردهة متحف الفن «كونستهاوس زيورخ»، التي يغلب عليها لون البيج وطابع تصميمي غير متكلف، استأثرت بناظريَّ لوحة مهيبة تزهو بمجموعة معقدة من الألوان وتحتل موقعًا مركزيًا، وإن كان خارجيًا، وسط الباحة. قد يسهل على النخبة في عالم الفن معرفة الفنان الذي أبدع هذه الرائعة العملاقة في الحال. لكني أنا أيضًا استطعت أن أخمن أنها من ابتكار الفنان الإسباني الكبير خوان ميرو. وكان لا بد لي من أن أطرح على ممثلة المتحف، التي كانت ترافقني في جولتي، السؤال البدهي التالي: «ألا يمكن للوحة ميرو أن تتلف في الهواء الطلق حيث وضعت؟» تبسمت السيدة وسارعت بالإجابة قائلة: «ثمة جهاز تدفئة مثبت إلى الجزء الخلفي من اللوحة للحؤول دون تجمد المياه وتشكل الجليد، ما يعني أنها لن تتلف.»

 

حددت تلك اللحظة التمهيدية مسار جولتي في المتحف، وحملت لي بشائر استكشاف مجموعة ضخمة من الأعمال الفنية، الرائعة على أقل تقدير. كان من الواضح أن متحف كونستهاوس لا يخيب الآمال. فمعروضاته وفيرة ورفيعة المستوى.

 

تحتجب خلف جدران متحف كونستهاوس زيورخ روائع أعمال فنية يمتد تاريخها من القرن الثالث عشر وصولا إلى العصر الحالي.

تحتجب خلف جدران متحف كونستهاوس زيورخ روائع أعمال فنية يمتد تاريخها من القرن الثالث عشر وصولا إلى العصر الحالي.

 

ترجع بدايات المتحف إلى عام 1787، ويمتد تاريخ الأعمال الفنية التي يحتضنها من القرن الثالث عشر وصولاً إلى العصر الحالي. وإذا كانت مجموعة الروائع الفنية الضخمة التي يُحسد على اقتنائها تندرج بلا شك ضمن أهم المجموعات الفنية في سويسرا، فإن الورقة الرابحة هنا تبقى امتلاكه أكبر عدد من لوحات إدفارت مونك (وتحديدًا سبع عشرة لوحة منها) تُعرض في مكان واحد خارج النرويج، ما يشكل مفخرة حقيقية إذا ما أخذنا في الحسبان أن مونك في الأصل فنان نرويجي. لا بد من التذكير هنا أن مونك هو الفنان الذي أبدع لوحة «الصرخة» أو Scream سنة 1893، مأثرته التي اكتسبت دلالة رمزية في الثقافة الشعبية وتحولت سريعًا إلى مثال معبر عن مخاطر النمط الحياتي الحديث مطلع القرن العشرين.

 

في متحف كونستهاوس، يُعرض لمونك عمل مثير للاهتمام إلى حد بالغ يحمل اسم Bildnis Dr. Wilhelm Wartmann. وللمفارقة، تجسد هذه اللوحة رسمًا شخصيًا لفيلهيلم وارتمان، أول رجل عُين في منصب مدير لهذا المتحف، واستمرت إدارته له من عام 1910 إلى عام 1950. كان مونك قد أبدع اللوحة بطلب من أحد رعاة المتحف الذي قدمها للمدير هدية، لكنها لم تُنجز إلا في عام 1923، أي بعد أن نظم المتحف أول معرض ضخم لأعمال مونك بفترة وجيزة. 

 

" ترجع بدايات المتحف إلى عام 1787، ويمتد تاريخ الأعمال الفنية التي يحتضنها من القرن الثالث عشر وصولا إلى العصر الحالي "

 

يمكن للمتحف أن يفاخر أيضًا بملكيته لأعمال من إبداع فان غوخ، أحد فناني القرن التاسع عشر الأشد تأثيرًا، وفي طليعتها رسم شخصي يُظهر الفنان وقد ضُمدت أذنه، ويمثل تعبيرًا صارخًا آخر عن «العبقرية الجنونية» التي اتسم به مبدع اختبر عذابات كثيرة. يجتمع أيضًا تحت سقف هذه الواحة ما مجموعه مئتا عمل آسر للفنان الإسباني الغني عن التعريف بابلو بيكاسو، وإن كان المتحف لا يعرض بطبيعة الحال في أروقته سوى عدد ضئيل من كامل المجموعة التي يمتلكها.

 

لكن التأمل في هذه المعروضات يشبه حتمًا الهدوء الذي يسبق العاصفة، إذ إن الزائر لا يلبث أن يتيه في ما تتزين به جدران كونستهاوس من إبداعات عدد من أعظم الفنانين في مختلف المدارس الفنية، بما في ذلك روائع لدالي، ورامبرانت، وكاندينسكي، وشاغال، ورينوار، فضلاً عن غوغان، وسيزان، وتومبلي، وبولوك، وروثكو، ونيومان، وكوكشكا. يبدو جليًا هنا أن الفن الأمريكي يشكل جزءًا لا يتجزأ من معروضات المتحف، لا سيما من خلال أعمال ترجع إلى ستينيات القرن الفائت وثمانينياته. أما جوهرة التاج في هذه المجموعة، فتجسدها حتمًا لوحة Big Torn Campbell’s Soup Can للمبدع الكبير في مجال الفن الشعبي آندي وارهول.

 

المعرض الأخير Matisse Metamorphoses الذي ضم ما يزيد على سبعين عملا فنيا للرسام الفرنسي الحديث ماتيس.

المعرض الأخير Matisse Metamorphoses الذي ضم ما يزيد على سبعين عملا فنيا للرسام الفرنسي الحديث ماتيس.

 

لكن الميزة الأبرز التي يتفرد بها هذا المتحف تبقى بما لا يقبل الشك، ومهما اختلفت المعايير، المجموعة الضخمة من أعمال رائد المدرسة الانطباعية، الرسام الفرنسي كلود مونيه، التي تتمايز ضمنها اللوحات التسلسلية Water Lilies (أو زنابق الماء). كان مونيه قد ركز في أعماله الأخيرة على زنابق الماء التي تطفو فوق صفحة البركة في حديقة منزله في جيفرني بفرنسا، وشكلت تلك الأعمال أمثلة نموذجية عن أسلوبه في الرسم القائم على التركيز على المساحات الشاسعة للوحة ككل. يعرض المتحف ثلاثة من هذه الأعمال التي تزهو بها ثلاثة جدران في حجرة واحدة، وأضخمها لوحة تمتد بطول ستة أمتار وتشكل مأثرة تأسر الناظرين.

 

غني عن القول أن المتحف يعرض أيضًا مجموعة ضخمة من إبداعات فنانين سويسريين، بما في ذلك الكبار منهم أمثال هنري فوزيلي، وفرديناند هولدر الذي لا يمكن للزائر أن يغفل هنا عن رائعته Unendliche (أو نظرة على اللانهاية) المعلقة فوق الجدار أعلى السلم الرئيس، وتبدو فيها مجموعة من نساء يرفلن بأثواب تزهو بالتدرجات الأكثر روعة من لون زرقة السماء في منتصف الليل. كما يحتفي كونستهاوس على نحو لا يضاهيه فيه أي متحف آخر بالثراء الإبداعي الذي ميز الفنان السويسري الشهير ألبيرتو جياكوميتي، الذي تزين صورته العملة السويسرية القديمة من فئة المئة فرنك، فيعرض المجموعة الكبرى على الإطلاق من أعماله. 

 

" الميزة الأبرز التي يتفرد بها هذا المتحف تبقى بما لا يقبل الشك، ومهما اختلفت المعايير،

المجموعة الضخمة من أعمال رائد المدرسة الانطباعية، الرسام الفرنسي كلود مونيه،

التي تتمايز ضمنها اللوحات التسلسلية Water Lilies

(أو زنابق الماء) "

 

بالإضافة إلى المجموعات الفنية الدائمة، يستضيف المتحف العديد من المعارض المؤقتة التي يمكن قياس مقدار استقطابها للزائرين من خلال النجاح الأخير الذي لقيه المعرض الأخير Matisse Metamorphoses. ضم هذا المعرض ما يزيد على سبعين عملاً فنيًا للرسام الفرنسي الحديث ماتيس، وكلها تعيد تأكيد مكانته في تاريخ الفنون من حيث كونه نحاتًا عظيمًا، الأمر الذي يكشف عن جانب من إبداعه لا يعرفه كثيرون.

 

 تتزين الباحة الخارجية للمتحف بلوحة عملاقة للفنان الإسباني الشهير خوان ميرو.

تتزين الباحة الخارجية للمتحف بلوحة عملاقة للفنان الإسباني الشهير خوان ميرو.

 

الجدير بالذكر أن المساحة الحالية للمتحف لا تتيح له سوى عرض %10 تقريبًا من المجموعات التي يمتلكها، الأمر الذي يشي حقيقة بثراء مقتنياته. لكن فترة الانتظار الطويلة قد شارفت على نهايتها، إذ إن المشروع المرتقب لتوسيع المتحف يكاد يكتمل، ومن المتوقع أن يشهد هذا العام افتتاح جناحه الثاني. سيتيح هذا المشروع التوسعي للمتحف زيادة الأعمال المعروضة بمعدل الضعف تقريبًا، ما يرسخ مكانته من حيث كونه المتحف الأكبر في سويسرا. ومن المتوقع أيضًا أن توفر المساحة الإضافية قوة دفع مهيبة لبرنامج التعليم الفني، الوجه الآخر لهذا الفضاء الساحر.

 

وأنت تغادر أخيرًا رحاب كونستهاوس مسكونًا بتجربة تسمو فوق الواقع سترافقك مدى الحياة، احرص على أن تُلقي نظرة أخيرة على منحوتة رودان البرونزية الرائعة The Gates of Hell (أو بوابات الجحيم) التي تحرس مدخل المتحف منذ عام 1947، حيث ترتفع إلى ستة أمتار. لكن المفارقة هنا أن هذه الواحة الفنية ستبدو لك أقرب إلى فضاء فردوسي ساحر.

 

يمتلك المتحف أكبر عدد من لوحات إدفارت مونك المعروضة في مكان واحد خارج النرويج.

يمتلك المتحف أكبر عدد من لوحات إدفارت مونك المعروضة في مكان واحد خارج النرويج.