بعض الأعمال الفنية الأشد تميزا لا تستوطن أروقة متحف الفن الحديث أو متحف ميتروبوليتان للفنون،

بل تقبع في العدد المتنامي من المتاحف الخاصة التي يديرها جامعو الفنون الأكثر ثراء بغض النظر

عن التحديات القانونية والمالية التي تنطوي عليها إدارة هذه المنصات. 

 

تمتد البنية الفولاذية المقاومة للعناصر المناخية، التي ابتكرها ريتشارد سيرا بطول 223 قدمًا، لتلامس هضبة خفيفة الانحدار تقع في رحاب متحف غلينستون الذي تحول إلى معقل للفن المعاصر في ميريلاند. ينبسط في الجوار الموقع الذي اختاره إيلسوورث كيلي لمنحوتة من الفولاذ المقاوم للصدأ ترتفع بطول 45 قدمًا عند حافة إحدى البرك كأنها منارة. أما الفنان البريطاني آندي غولدسوورثي، المناصر للفن البيئي، فارتقى بمفهوم الفن المتخصص في موقع محدد إلى مستوى أعلى، مستخدمًا التراب المستخرج من الموقع نفسه لتشكيل البنى الطينية، ومنها منحوتتا العملاق والصخرة المتصدعة، التي تقبع في ثلاثة أكواخ حجرية بناها في رحاب الغابة. لكن مايكل هايزر تقدم بعمليه الفنيين على هؤلاء جميعًا. تمثل عمله الأول بحفرة تعلو منها دعامات فولاذية داخل حجرة غير مسقوفة. وقد نفذ هايزر ابتكاره مباشرة داخل الأساس البنيوي للأجنحة المعروفة باسم Pavillons التي استحدثها المهندس المعماري توماس فايفر على مساحة 240 ألف قدم مربعة لتشكل امتدادًا جديدًا لمتحف غلينستون. تقول إيميلي واي رايلز، التي أنشأت المتحف بالتعاون مع زوجها ميتشل، صاحب المليارات، على أرض ملكيتهما الريفية المنبسطة على مساحة 230 فدانًا: «لا يمكن إزالة هذا العمل من الموقع إلا عن طريق هدمه».

اقترح هايزر لتشكيل عمله الثاني حفر خندق في الأرض يمتد بطول 75 قدمًا وتُصقل جوانبه الداخلية بالفولاذ فيما يحيط به ما مجموعه 2٫200 ياردة مكعبة من أكوام التراب والحجارة الصخرية الكفيلة بأن تدفع بالجدران الفولاذية إلى الانحناء حتى تتلاقى في نقطة وسطية. لفت مهندس الإنشاءات الذي عينه متحف غلينستون إلى استحالة تحقيق هذه الفكرة لأن الفولاذ لن ينثني. لكن هايزر، الذي اشتهر بقضائه عقودًا في نبش صحراء نيفادا لابتكار مأثرته City، أصر على موقفه. فصل آل رايلز المهندس، وها هو الفولاذ في العمل الفني الذي تحقق وحمل اسم Compression Line ينحني كما استشرف هايزر.

 

العمل الفني الذي ابتكره مايكل هايزر تحت اسم Compression Line

الأجنحة الجديدة التي استحدثت في مشروع توسيع متحف غلينستون، والعمل الفني الذي ابتكره مايكل هايزر تحت اسم Compression Line.

 

لا تشهد هذه الحكاية، التي امتدت فصولها بحسب تقدير الثنائي رايلز عشر سنوات منذ اللقاء مع هايزر لتركيب عمله الفني، على دعمهما الراسخ للفنانين من خلال ضم أعمالهم إلى مجموعتهما فحسب. بل إنها تدل أيضًا على مقدار تجذر بعض الأعمال ضمن المجموعة على نحو محكم في أرض متحف غلينستون نفسها. كما أنها تُعد تعبيرًا مجازيًا ملائمًا عن عزم بعض جامعي الأعمال الفنية الإبقاء على مجموعاتهم محمية من أي ضرر وتحت سيطرتهم، ما يعني الميل أكثر فأكثر إلى إنشاء متاحف خاصة لها. في عام 2016، حددت قائمة لاري لقاعدة بيانات جامعي الأعمال الفنية نحو 317 متحفًا خاصًا للفن المعاصر في العالم. افتُتحت نسبة مهيبة من هذه المتاحف، بلغت %71، منذ عام 2001، وتصدرت ميامي القائمة باحتوائها ثمانية منها.

من الجلي أن متحف غلينستون ليس فقط شقة إضافية في سوهو يمتلكها عملاق صناديق التحوط ويستخدم مساحتها للمفاخرة بمقتنياته من الأعمال المبالغ في أسعارها التي تحمل تواقيع فنانين شباب لما يُعرف بعدُ إذا ما كانوا سيبقون محط تقدير بمرور الزمن. يشكل متحف غلينستون مسعى بالغ الجدية ينضوي تحت مظلته فريق عمل من 130 شخصًا، ويميزه إطار عمل صارم فيما يتعلق بجمع الأعمال الفنية. بل إن الثنائي رايلز لا يفكران في ابتياع أي عمل إذا لم يكن الفنان قد واظب على عرض إبداعاته 15 عامًا في أقل تقدير. كما أن مجموعة المتحف تشابه ما كان ليشكل كنوزًا تتسابق إلى اقتنائها متاحف كبرى على غرار متحف الفن الحديث، ومتحف ميتروبوليتان للفنون، والمعرض الوطني للفنون، ومتحف ويتني للفن الأمريكي. يُعد إيلاي وإديث برود، ورونالد لودر، وفرانسوا بينو أيضًا من نخبة جامعي الأعمال الفنية الذين اختاروا إنشاء متاحف خاصة لمقتنياتهم، شأنهم في ذلك شأن آل رايلز. وبالرغم من أن الأسباب التي يعللون بها استقلاليتهم في هذا المجال تتفاوت من شخص إلى آخر، إلا أن ثمة أمرًا واحدًا جليًا يتمثل بالخيط الرفيع الذي يفصل بين حب الذات والإيثار.

 

مجموعة أعمال تركيبية بتوقيع تشارلز راي

مجموعة أعمال تركيبية بتوقيع تشارلز راي.

 

يقول إيلاي برود، الذي يُعد واحدًا من رواد الأعمال الخيرية في الولايات المتحدة الأمريكية: «تضم مجموعتنا ما يزيد على ألفي عمل فني. كنت عضوًا في عدد من مجالس المتاحف، ورأيت كثيرًا من جامعي الأعمال الفنية يقدمون مجموعاتهم للمتاحف، إلا أن ما يُعرض منها لا يتجاوز ما نسبته %5 إلى %10، فيما ينتهي الأمر بالنسبة المتبقية في المخازن. لا يحقق هذا السلوك كثيرًا من الرضا لشخص أمضى عقودًا يبني مجموعته ويرغب في تشاركها مع أكبر شريحة ممكنة من الناس».

يتبنى مديرو المتاحف العامة المرموقة بمعظمهم موقفًا عمليًا. يقول آدم واينبرغ، مدير متحف ويتني: «لن أكون صادقًا إن لم أقر بأني أرغب في الحصول على مجموعة إيلاي». لكن حفظ الأعمال الفنية في متحف خاص، حيث يظل بمقدور العامة الاطلاع عليها، يبقى، على ما يضيف واينبرغ، أفضل من أن ينتهي بها المطاف في أحد المزادات.

لا تُشكل المتاحف الخاصة ظاهرة جديدة. فمتاحف ويتني، ومينيل، وغوغنهايم، وبارنز، وفريك، ليست سوى بضعة أمثلة عن مؤسسات عامة يُعزى الفضل في نشأتها إلى سخاء مؤسس متبصر فردي. لكن الجديد في الأمر هو التكاثر السريع لمثل هذه المؤسسات في الولايات المتحدة الأمريكية وفي مختلف أرجاء الكرة الأرضية.

 

مقاربتان لغلينستون يميزهما التشكيل الفني البديع.

 

مقاربتان لغلينستون يميزهما التشكيل الفني البديع.

   

مقاربتان لغلينستون يميزهما التشكيل الفني البديع.

 

 يُعد دون وميرا روبيل رائدي الجيل الحالي من مؤسسي المتاحف. سارع هذا الثنائي إلى اقتناص أعمال الفنانين الذين سطع نجمهم لاحقًا، أمثال جيف كونز وكيث هارينغ، منذ بداية مسيرتهم الفنية. في نهاية المطاف، بات النجاح اللاحق للفنانين الذين حظوا بدعمهما يُعد حتميًا تقريبًا بفضل شهرة آل روبيل في مجال رصد المواهب. بل إن الدور المؤثر للثنائي ألهب الحماس في ميامي حتى من قبل أن يحط معرض آرت بازل، الذي لا ينبغي لأحد إغفاله، الرحال فيها. ستتنامى المساحة المخصصة لمجموعة آل روبيل إلى أكثر من الضعف في عام 2019 لدى نقلها، من الموطن الذي شغلته 25 عامًا في مخزن كان يخص سابقًا وكالة مكافحة المخدرات، إلى مبنى جديد يمتد على مساحة 100 ألف قدم مربعة، ويحمل تصميمه توقيع المهندسة المعمارية أنابيل سيلدورف التي تحظى ببالغ التقدير في عالم الفنون.

أما القاسم المشترك بين جامعي الأعمال الفنية هؤلاء كلهم، الذي يصعب على المشككين فهمه، فيتمثل بحبهم الراسخ للفنون. فضلاً عن ذلك، يميل مؤسسو المتاحف إلى حب السيطرة. كثير منهم، على غرار آندي هول، أثرياء صنعوا نجاحاتهم بأنفسهم واعتادوا إنجاز الأمور على طريقتهم.

تمثل رد فعل هول، جامع الأعمال الفنية قديم العهد في هذا المجال، على أزمة منتصف العمر وهجمات الحادي عشر من سبتمبر أيلول الشهيرة، بالانغماس في العمل إذ قرر، على غرار ما فعله ميتش رايلز في أعقاب تجربة كادت تودي بحياته، أن ما يرغب فيه بحق هو أن يخلّف وراءه إرثًا لا يقتصر على رزم من النقود. يقول هول من فيرمونت، حيث تُقيم مؤسسة هول للفنون معرضًا دائمًا على أرض كانت مزرعة ألبان سابقًا: «لعل الدافع كان نزعة نرجسية أصابتني أو بعض الغرور».

 

 " رأيت كثيرا من جامعي الأعمال الفنية يقدمون مجموعاتهم للمتاحف،

إلا أن ما يعرض منها لا يتجاوز ما نسبته %5 إلى %10، فيما ينتهي الأمر بالنسبة المتبقية في المخازن "

–إيلاي برود Eli Broad، رائد في مجال العمل الخيري      

 

تشمل مقتنيات متحف برود واحدة من أضخم مجموعات الأعمال الفنية التي ابتكرها جيف كونز.

تشمل مقتنيات متحف برود واحدة من أضخم مجموعات الأعمال الفنية التي ابتكرها جيف كونز.

 

تمول المؤسسة أيضًا معرضًا طويل الأمد يُقام في متحف ماساتشوستس للفن المعاصر، ويضم روائع من أعمال آنسيلم كيفر تعود ملكيتها إلى آل هول. كما عملت المؤسسة على تحويل قلعة شلوس ديرنبورغ، الواقعة بالقرب من هانوفر، التي شكلت ذات زمن منزلاً للفنان جورج بازليتز، إلى متحف مهيب يستضيف معارض متعددة في الوقت نفسه. لا يمكن للزوار أن يهيموا بين هذه المعارض. فالقلعة شاسعة إلى حد بالغ على ما يقول هول، ويجدر بهم عوضًا عن ذلك أن يحجزوا مسبقًا جولة برفقة دليل تستمر إما ساعتين وإما خمس ساعات، أو أن يحددوا موعدًا لزيارة جماعية تُنظم بحسب احتياجاتهم. تشمل الجولة المطولة، التي تقتصر على 20 ضيفًا كحد أقصى، وتبلغ كلفتها نحو 87 دولارًا لكل زائر، تقديم وجبة الغداء، والقهوة، والحلوى لاختبار تجربة غاية في الرقي. يقول هول: «لا يمكن للزائر في هذه الحالة أن يختار ما يريده. عليه أن يرى المعروضات كلها». لم يفرغ الثنائي هول من هذا المشروع، إذ يعملان حاليًا على ترميم عدد إضافي من المباني الواقعة على أرض الملكية، ويفكران في إطلاق برنامج يتيح زيارة قسمين مختلفين.

يتعمق الثنائي هول فيما يجمعانه من روائع، شأنهما في ذلك شأن آل رايلز. يقول هول: « لطالما اعتقدت ألا ضير في أن يقتني المرء اثني عشر عملاً لفنان ما إن كان يخطط في الأصل لاقتناء واحد من أعماله». ويقر هول بأن افتتاح المتاحف قد ساهم في تعزيز شهرته وشهرة زوجته كريستين بصورة ملحوظة. ففي حين كان أصحاب الصالات الفنية يتعاملون معهما في معارض الفنون بغير اكتراث «فإنه لا يمكننا اليوم أن نعبر الأروقة دون أن يرصدنا عشرات من تجار الأعمال الفنية» على ما يقوله هول الذي يضيف قائلاً: «إننا نقول على سبيل المزاح إن علينا الحضور إلى المعارض متنكرين».

 

ابتكرت شركة الهندسة المعمارية ديلر سكوفيديو أند رينفرو لمجموعة برود الفنية موطنا متميزا يليق بها.

ابتكرت شركة الهندسة المعمارية ديلر سكوفيديو أند رينفرو لمجموعة برود الفنية موطنا متميزا يليق بها.

 

يبدو أن المعنيين في العالم الفني يدركون تمامًا الرغبة الملحة التي تدفع بأحدهم إلى إنشاء متحف خاص لمجموعته. أما رجال السياسة، فلا يفقهون هذا الأمر بالقدر نفسه. في عام 2015، أطلق أورين هاتش، رئيس لجنة الشؤون المالية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي، تحقيقًا للنظر في حالة الإعفاء الضريبي الذي تستفيد منه 11 مؤسسة خاصة للفنون، مطالبًا بمعرفة عدد ساعات الزيارة التي توفرها هذه المؤسسات للعامة، وعدد زوارها. أثار تحقيقه ردود فعل متفاوتة إلى حد كبير.

عدَّت إيميلي واي رايلز، على سبيل المثال، التحقيق مزعجًا لأنها وزوجها عملا بجد على الاهتمام بأدق التفاصيل. بل إنهما ذهبا إلى أبعد من ذلك إذ تقدما بطلب للحصول على إثبات من دائرة الإيرادات الداخلية يؤكد صواب التغييرات التي خططا لها في مشروع غلينستون، وحصلا على الإثبات. تقول رايلز: «لا بأس في أن يكون مشروعنا موضوع تدقيق»، لكنها تصر على أنه لا يمكن حصر قيمة أي متحف بأعداد الزوار، خصوصًا عندما يتمثل جزء من مهمة المؤسسة بتوفير واحة للتأمل الهادئ. تأسف رايلز لواقع أن المحققين لم يقبلوا قط الدعوة إلى زيارة المتحف، مضيفة: «إن المتحف يجسد حكاية من الصعب سردها مشافهة. يجدر بالمرء أن يكون فيه ليختبر بعض اللحظات. كأنك تجلس في حجرة فسيحة وبديعة التصميم حيث واجهة زجاجية عملاقة توفر إطلالة بانورامية على سفح تل جميل تزينه أشجار خروب العسل الرائعة. لا شيء يضاهي هذا الشعور الآسر. فمن النادر جدًا في يومنا هذا أن يتمكن المرء من الاستمتاع بتأمل هذا المشهد بعيدًا عن زحمة أشخاص ينهمكون في التقاط صورهم الشخصية».

وإذ يوافقها هول الرأي، يرى أن المتاحف الأكثر شعبية في العالم، على غرار اللوفر وتايت مودرن للفن الحديث، باتت ضحية نجاحاتها. يعمد متحف غلينستون إلى تفادي الزحمة عبر تطبيق سياسة لاستقبال الزوار الذين قاموا بحجز مسبق فحسب. لكن المتحف يتوقع لدى إعادة افتتاحه هذا الخريف استقبال 100 ألف زائر سنويًا. لا يتكبد الزائرون أي رسوم لدخول غلينستون، وسيبقى الدخول مجانيًا على حد قول رايلز.

 

صالة عرض ضمن مؤسسة برانت.

صالة عرض ضمن مؤسسة برانت.

 

لا شك في أن الساحة لا تخلو من بعض الأمثلة المريبة. فالموقع الإلكتروني الخاص مثلاً بمؤسسة سيفن بريدجيز، التي تزعم امتلاك حديقة تحتضن 100 منحوتة وصالتي عرض في غرينيتش بكونيتيكت، لا يدرج للزائرين أي معلومات أو عنوانًا. جل ما يعرضه الموقع هو رقم هاتفي (لم يُجب أحد على اتصالاتنا)، واستمارة اتصال ظلت تعبئتها تنتهي بنا مرارًا وتكرارًا إلى رسالة تفيد بوقوع خطأ ما. يُقال إن الخبير المالي ريتشارد س. ماكنزي جونيور، لم يكن يسمح لدى افتتاحه هذه المؤسسة في عام 2012 بقبول أكثر من 6 زوار إلى 10 زوار يوميًا، وليوم واحد في الأسبوع.

يعدّ بيتر برانت شخصًا مؤثرًا في عالم الفن بوصفه ناشر مجلة Art in America، فضلاً عن كونه جامع فنون نَهِمًا. بل إنه كان لا يزال مراهقًا عندما بدأ يبتاع أعمال آندي وارهول. في عام 2009، حول برانت حظيرة حجرية ضخمة تقع بمحاذاة نادي غرينيتش للبولو إلى مركز مؤسسة برانت للدراسات الفنية. وعلى غرار هول، قال برانت إنه شعر بحاجة إبداعية ملحة لتنسيق المعارض. ينظم برانت مرتين في كل عام معارض لتقديم فنانين تندرج أعمالهم ضمن مجموعته، على غرار كارين كيليمنيك وأورس فيشر. واحتفاء بهؤلاء الفنانين، يقيم حفلات افتتاحية باذخة لا يمكن حضورها إلا بموجب دعوات مسبقة. ويبدو أن نشاط مؤسسته قد تعزز منذ أن تحولت إلى مثار انتقادات حادة في الصحافة الفنية من حيث كونها توفر فرصة محدودة للعامة لحضور تلك المعارض. وباتت برامج المؤسسة تشمل ورشة عمل لليوغا أو الرسم تُقام بين حين وآخر. من المقرر أن تفتتح المؤسسة في شهر مارس آذار المقبل موقعًا جديدًا لها في نيويورك، تحديدًا في الاستوديو القديم الذي كان يخص الفنان الراحل والتر دي ماريا. سيُفتتح الموقع بمعرض لأعمال جان-ميشال باسكيا التي ستحتشد بها مساحة العرض الممتدة على سبعة آلاف قدم مربعة.

 

 " لا شيء يضاهي هذا الشعور الآسر. فمن النادر جدا في يومنا هذا أن يتمكن المرء من الاستمتاع

بتأمل هذا المشهد بعيدا عن زحمة أشخاص ينهمكون في التقاط صورهم الشخصية "

-إيميلي واي رايلز Emily Wei Rales 

 

عمل تركيبي ضمن مجموعة عائلة روبيل في ميامي.

عمل تركيبي ضمن مجموعة عائلة روبيل في ميامي.

 

يحتل أقصى الطرف المقابل من المشهد معرضا برود Broad ونو غاليري نيويورك Neue Galerie New York، كلاهما يشكلان مؤسستين حيويتين تلقيان رواجًا واسع النطاق، ومن السهل الوقوع في خطأ حسبانهما متحفين عامين. يُعد متحف نو، الواقع في جادة فيفث أفينيو ضمن ما يُعرف باسم Museum Mile، المشروع الحلم الذي شغف رونالد لودر، وريث شركة المستحضرات التجميلية، ويشكل مستودعًا لمجموعته الفذة من الأعمال الفنية الألمانية والنمساوية الحديثة. في عام 2017، استقطب المتحف، الذي يشغل قصرًا تاريخيًا يعود إلى عام 1914، نحو 250 ألف زائر. تشمل المعروضات الدائمة فيه الرسم الشهير الذي ابتكره كليمت سنة 1907 لإحدى سيدات المجتمع في فيينا. تحولت اللوحة، التي تحمل اسم Adele Bloch-Bauer I أو «امرأة من ذهب»، إلى رمز مؤثر يجسد كفاح ورثة يهود في سبيل استعادة أعمال فنية نهبها النازيون من عائلاتهم. في أعقاب معركة قانونية طال أمدها، أعاد متحف غاليري بيلفدير في النمسا اللوحة سنة 2006 إلى قريبة بلوش-باور التي باعتها إلى لودر مقابل 135 مليون دولار فيما كان يُعد آنذاك السعر الأعلى الذي دُفع يومًا في لوحة فنية. 

 

مؤسسة برانت في غرينيتش بكونيتيكت.

مؤسسة برانت في غرينيتش بكونيتيكت.

 

في لوس أنجلوس، استقطب متحف برود في السنوات الثلاث الأولى التي أعقبت تأسيسه 2.4 مليون زائر. بعيدًا عن هذا العدد المهيب، يفاخر المحسن الذي موله بأن المعدل الوسطي لأعمار زواره هو 33 سنة، أي أنهم أصغر باثنتي عشرة سنة من رواد المتاحف النموذجيين. يقول إيلاي إن ما يجتذب زوار برود هو الدخول المجاني، والمبنى الذي صممته شركة Diller Scofidio + Renfro فشكل على الفور معلمًا متميزًا تثريه في الداخل واجهات زجاجية تتيح للزوار استراق النظر إلى آلاف الأعمال المحفوظة في المخزن، فضلاً عن استعانة المتحف بموظفين واسعي المعرفة عوضًا عن حراس الأمن. تشكل المجموعة التي يُحسد عليها المتحف عنصر جذب أيضًا، إذ تضم العدد الأكبر من أعمال سيندي شيرمان، وتندرج عالميًا ضمن أبرز المجموعات التي تحتضن العدد الأكبر من إبداعات كونز على سبيل المثال.

لكن إنشاء واحات للمعارض، على غرار متحفي نو وبرود، لا يتحقق بكلفة قليلة. سيترك برود، الذي يبلغ من العمر 85 عامًا، للمتحف الذي يحمل اسمه هبة بمئات ملايين الدولارات، وهي قيمة تفوق على ما يقول ما هو متاح لأي متحف آخر في لوس أنجلوس سوى متحف غيتي. لكن حتى لجامع أعمال فنية يفكر برصد مبلغ أقل بكثير من هبة برود، يمكن للتكاليف التشغيلية السنوية، ومنها تكاليف الأمن، والصيانة، والتأمين، أن تتجاوز بسهولة مليون دولار.

وإذا كان هذا النوع من الاحتياجات النقدية لا يطرح مشكلة، فإن الأمر مغاير فيما يتعلق بالمخاطر القانونية المحتملة التي ينطوي عليها التعهد الذاتي للمتاحف. جامعو التحف الساذجون قد يعتقدون أحيانًا أن بمقدورهم الالتفاف على القوانين من خلال إدراج مقتنياتهم في مؤسسة، والإفادة من الخصومات الضريبية، ثم استعارة الأعمال الفنية مجددًا لعرضها في منازلهم. لكن سلوكهم هذا خطير حقًا، ومثله وصف أحدهم لفناء الدار التي يمتلكها في الضواحي بحديقة منحوتات. تقول محامية تنشط في العمل مع المؤسسات، لكنها طلبت إبقاء اسمها مغفلاً لأن شركتها لم تجز لها التحدث في هذه المسائل، إن الحكومة تنظر أيضًا في غالب الأحيان بعين الارتياب إلى المؤسسات الفنية التي تقع على مقربة من بيوت مؤسسيها، ما يتيح لهم أن «يقطعوا الشارع إلى الجهة المقابلة ليتأملوا مقتنياتهم الفنية فيما يحتسون قهوتهم الصباحية». كان يمكن لنسخة من مشروع القانون الضريبي الذي قدمه الحزب الجمهوري سنة 2017 أن يضيّق الخناق على عدد من المؤسسات الأكثر طيشًا التي يبقى اطلاع العامة على مقتنياتها محدودًا. لكن تلك القوانين التنظيمية سقطت قبل التصويت النهائي عليها.

 

تعرض لوحة كليمت الشهيرة Adele Bloch-Bauer I، من عام 1907، في معرض Neue Galerie.
تعرض لوحة كليمت الشهيرة Adele Bloch-Bauer I، من عام 1907، في معرض Neue Galerie. 

 

ثمة ممارسة شائعة أخرى تثير الاستغراب بالرغم من أنها قانونية، وتتمثل بحسب المحامية بإنشاء مؤسسة إنما الحفاظ في الوقت نفسه على ملكية الجزء الأعظم من المجموعة. تبرع الثنائي هول على سبيل المثال إلى مؤسستهما بجزء يسير من مقتنياتهما الفنية التي يقارب عددها ستة آلاف عمل. يقول هول، البالغ من العمر سبعة وستين عامًا: «لما أبلغ بعد تلك المرحلة من حياتي التي أرغب فيها بالتخلي عما تبقى من مجموعتي الفنية». لكنه يسارع ليقول: «لو أن شاحنة، لا سمح الله، صدمتني وكريستين غدًا، فإن المؤسسة ستحظى بالغالبية العظمى من المقتنيات ضمن مجموعتنا».

يظل بمقدور جامعي الأعمال الفنية الاستمتاع بها في عزلة منازلهم الخاصة، ولدى إعارتها لمؤسساتهم، يمكن لهذه المؤسسات أن تتحمل تكاليف المخزون كنفقات التخزين والنقل والتأمين. تقول المحامية: «يمكنهم إذًا الانتفاع من كلتا الحالتين». يُضاف إلى المأزق الأخلاقي واقع أن قيمة أي عمل فني ترتفع في غالب الأحيان إذا كانت مصادر عرضه متنوعة، فيستفيد جامعو الأعمال الفنية من عرض المؤسسة لمقتنياتهم الشخصية. كما أنهم ينتفعون من إعارة الأعمال الفنية للمتاحف العامة. وليست مصادفة على الأرجح أن يكون مالك لوحة هوكني المعروفة باسم Portrait of an Artist (Pool with Two Figures)، الذي يُشاع أنه تاجر العملات البريطاني جو لويس، قد قرر بيع اللوحة التي تعود إلى عام 1971 في المزاد هذا الخريف، أي بعد مرور بضعة أشهر فقط على عرضها ضمن معرض مهيب لأعمال هوكني السابقة استضافه متحف ميتروبوليتان. في مرحلة التحضير للمزاد، توقعت دار كريتسيز بكثير من التلهف أن تحقق اللوحة أعلى سعر دُفع يومًا في عمل لفنان لا يزال على قيد الحياة.

 

 " إن الاختبار الحقيقي الذي يواجه أي متحف خاص لا يتمثل بما سيؤول إليه وضعه

بعد خمس سنوات أو عشر سنوات، وإنما بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة "

– آدم واينبرغ Adam Weinberg، متحف ويتني       

 

عمل فني تركيبي في موقع قلعة شلوس ديرنيبورغ التابع لمؤسسة هول للفنون.

عمل فني تركيبي في موقع قلعة شلوس ديرنيبورغ التابع لمؤسسة هول للفنون.

 

في المقابل، تبرع الثنائي رايلز بالجزء الأكبر من مجموعتهما لمتحف غلينستون الذي يمتلك اليوم ما يزيد على 1٫300 عمل، فيما أبقيا ضمن كنزهما الشخصي على مئتي عمل فقط. فضلاً عن ذلك، تأنى الثنائي في التخطيط لمستقبل غلينستون بعد وفاتهما، وشملت مخططاتهما أحكامًا تقضي بأن يستمر المتحف في حصر استحواذاته بأعمال الفنانين الذين تندرج روائعهم أصلاً ضمن المجموعة، وبأن يتحول منزلهما الواقع ضمن ملكية غلينستون، الذي يحمل تصميمه توقيع تشارلز غواثمي، إلى جزء من المتحف. وبالرغم من أنهما خصصا أيضًا هبة مالية للمتحف، إلا أن رايلز رفض تحديد قيمتها.

يقول واينبرغ من متحف ويتني: «إن الاختبار الحقيقي الذي يواجه أي متحف خاص لا يتمثل بما سيؤول إليه وضعه بعد خمس سنوات أو عشر سنوات، وإنما بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة». عرف متحف ويتني أوقاتًا عصيبة عندما بات جليًا أن عائلة ويتني ما عادت قادرة على تسديد الفواتير. وعن هذا يقول واينبرغ: «تصبح المؤسسات نوعًا ما مكلفة للغاية. فعدد الموظفين يزداد، والأبنية تشيخ. إني على يقين من أن آل بارنز اعتقدوا أن المتحف سيحقق الاكتفاء الذاتي». لكن الخلاصة هي أنه لم يفعل.

يصر الثنائي رايلز على أن تُسلط الأضواء على الفنانين وليس عليهما، لذا لا يشكل اسمهما جزءًا من اسم المتحف. ولا يمكن لأحد أن يتوقع يومًا رؤية لوحة زيتية تجسّد المؤسسين في ردهة المتحف. تقول إيميلي رايلز: «لا لوحات شخصية ولا تماثيل نصفية»، يبدو قولها هذا أقرب إلى شعار تلتزم به العائلة.