تحتشد في أذربيجان واحات من الإبداع في

الطبيعة والعمارة تزين تاريخا ثريا للبلاد.

 

منذ اللحظة التي لامست رئتاي فيها النسمةَ الرقيقة الأولى عند بوابة مطار حيدر علييف في باكو عاصمة أذربيجان، لاحت لي سطور نقشها في ذاكرتي الروائي التركي أورهان باموق في كتابه «إسطنبول: الذكريات والمدينة» عن نقاء هواء مضيق البسفور إلى درجة أن أحد الأطباء نصحه بالتداوي هناك من اعتلال في الصدر، وربما كان ذلك وراء مصاحبة صفة عليل لكل نسيم ناعم.

 

يعد برج العذراء أحد أشهر معالم المدينة القديمة، ويرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر.
يعد برج العذراء أحد أشهر معالم المدينة القديمة، ويرجع تاريخه إلى القرن الثاني عشر.

 

تستقبل أذربيجان بحكم موقعها الجغرافي تيارات باردة قادمة مباشرة من صحراء سيبيريا الروسية. ولولا مرتفعات القوقاز لاكتسح البياض كل شيء. الجميل في الأمر أن برد باكو إنما هو البرد الذي تستفيق فيه حواسك، برد لا يقعدك عن الخروج ومزاولة المشي أو العمل الذي أتيت من أجله. وهكذا لم يخيّب كانون الثاني يناير أملي في أنه كان اختيارًا موفقًا لزيارة هذه الدولة المستلقية بوداعة على بحر قزوين.

«مسافرون يشمُّون الهواء» نقولها مجازًا عندما نقرر السفر لبلاد جديدة. وها هو هنا الهواء البديع الذي يُشم. ولو طبّقت خطة علماء المستقبل فستصبح لهذا الهواء قيمة مرتفعة إذا ما وافق أهل البلاد على بيعه! لكل مدينة درجة كثافة محددة تتسلل إلى روح التلقي والتجاوب في الزائر، فالألوان مثلاً والرائحة والضباب الخفيف، والساحات المنعشة، والحجر الأبيض تعقد جميعها علاقات خفية معنا. ويتفاوت التجاوب بين كل منا تبعًا لمعايير التلقي.

كما نرى شركات النفط والغاز من حيث كونها أهم مصادر الدخل لهذه الدولة، نرى الحمام يطير فوق القلاع والأبراج الأثرية ملوحًا بسلام مقيم. ومنذ بداية ظهور الإسلام في القرن السابع تلاه انتشار عربي واسع، فحكم روسي ووجود فارسي وتركي.

 

باكو وعبق الفنون

أطلق اسم الشاعر الأذري نظامي كنجوي الذي لم يغادر بلاده نهائيًا في أثناء فترة عيشه من عام 1141م إلى 1209م على أهم شارع في البلدة القديمة تكريمًا له، ويمثل المشي هناك ممارسة للحياة على نحو باعث على البهجة. إذ ليس بالإمكان إدراك قيم بلد وجمالها دون العروج على وسط البلد مشيًا على الأقدام، على ناصية شارع مرسم بديع، وفنان خلّد اسمه بالرسم على جذوع الأشجار، نزولاً إلى ميدان النافورة حيث المحال التجارية والمطاعم متراصة على الجانبين بحدائق تشبه الشرايين تربط الخارج بالداخل لا تخلو من أنفاس الطبيعة البرية برغم لمسات التشذيب المنمقة. ومنها يقودك مسار إلى مول الأفنيو للوقوف على العلامات التجارية الشهيرة واجتماعات القهوة والصباحات الندية لأصحاب الياقات البيضاء. ويشرع مسار آخر إلى لسان ممتد يعاكس أمواج البحر، تلفه ذاكرة المدينة الوفية المشبعة بتماثيل نحاسية ومنحوتات بديعة تشيد بكل من عبروا بها وأثروا فيها.

يختار كثير من السياح قلب العاصمة للسكنى، لأن كل شيء في متناول الجوار، وربما يمنحهم ذلك شعورًا بالأمان والاندماج المتناهي مع روح البلد. بل يبدو جليًا أن قلب باكو يبدو شبيهًا بقلوب شعرائها ورساميها مرهفًا محبًا للجميع على اختلافهم، لا صخب فيه إلا أصداء العطاء، وهذا ما يجعل أذربيجان دولة التعايش والتسامح بامتياز بين تيارات من الأعراق والأديان. لا يقتصر الحضور الثقافي بإغوائه على البلدة القديمة، لأن الحضور يرتبط بالشعوب وما يتمتع به هذا الشعب المحب من هدوء وسكينة انعكست بكل الحيل على جوهرة القوقاز المختبئة، باكو.

 

يقع شارع نظامي وسط العاصمة باكو، ويعد أهم شوارع المدينة ومركزا رئيسا للتسوق فيها.

يقع شارع نظامي وسط العاصمة باكو، ويعد أهم شوارع المدينة ومركزا رئيسا للتسوق فيها.

 

باكو وعبق التاريخ

بينما تبحث مدن صغيرة عن هويتها، تتحلى باكو بميول متشعبة ومتجانسة في آن بعيدًا عن شعارات أو نظريات أنثروبولوجية، تتجسد الوحدة على أرض الواقع، تجاوزت هذه الدولة الجميلة المقطوفة من شجرة الاتحاد السوفيتي سابقًا المزدانة بوشاح التراث الإسلامي والتركي والفارسي انتهاكات الحروب وحافظت على كينونتها واعتزازها.

 

الطعام في باكو

الأطباق الأذرية على غرار الشعر تقدم مفهومًا مغايرًا للمتعة، وبأسلوب رقيق لكن مؤثر على غرار الخطوط الهندسية. تتسم أشهر الأطباق بروح من الطبيعة وكأن أنفاسها اختلطت بالجبن واللحوم والخبز. على سبيل المثال مطعم «تنديري» في المدينة القديمة يقصده كثيرون لتناول وجبة الإفطار. قيل لنا لو فاتتكم زيارة هذا المكان فأنتم لم تتذوقوا طعم باكو. على الرغم من صغر المكان استقبلتنا سيدة كبيرة بعصابة بيضاء بدت لي أم المكان رحبت بلغتها وابتسامتها السخية، واختارت لنا طاولة خشبية تتطابق مع الجدران الخشبية والأطر التي احتفظت بزيارات أهم الشخصيات للمكان. تذوقت حقًا أجمل شاي بالليمون في قائمة طعام ثابتة تحتوي على العسل الطبيعي والجبن الأبيض و«الشكشوكة» على الطريقة الآذرية الشهية. هذه هي قائمة الطعام فقط. لكن التجربة متغلغلة في القلب لا تنسى. وهنا سألت ابنة السيدة التي كانت تساعد والدتها على إشعال التنور وتفرد أقراص العجين عن أفضل مكان لابتياع هذا النوع من الجبن. فدلتني على تازا بازار. ذكر لي السائق أن ذلك إنما يعني السوق الجديدة بينما هي أقدم سوق في باكو.

 

أنشئ المتحف الوطني لأدب أذربيجان عام 1939، ويعد واحدا من أكبر خزائن الثقافة الأذربيجانية وأغناها.

أنشئ المتحف الوطني لأدب أذربيجان عام 1939،
ويعد واحدا من أكبر خزائن الثقافة الأذربيجانية وأغناها.

 

نزهة بين النار والثلج والطين

«ينار ذاع» جبل النار التي لا تنطفئ أبدًا يعني حرفيًا الجبل المحترق. يقع في شبه جزيرة أبشيرون إحدى ضواحي العاصمة المشتعل منذ الأزل. احتل قديمًا مكانة أسطورية مقدسة حتى سميت المنطقة ببلاد النار. لكن التفسير الفيزيائي المحتمل أن النار تشب طوال الوقت بسبب تفاعلات غير طبيعية للغاز ومواد كيميائية أخرى. ونظرًا لأن أذربيجان تملك مقادير عالية من النفط والغاز فقد يكون الأمر قابلاً للتصديق.

 

صمم متحف السجاد على هيئة سجادة ضخمة مطوية، ويضم آلاف القطع من السيراميك والأشغال المعدنية التي يرجع تاريخها إلى قرون خلت.  

صمم متحف السجاد على هيئة سجادة ضخمة مطوية، ويضم آلاف القطع
من السيراميك والأشغال المعدنية التي يرجع تاريخها إلى قرون خلت.

 

متحف حيدر علييف

 إذا كانت العمارة أحد أدلة تفوق الإنسان على النسيان والفناء، فإن الهندسة المعمارية أولى وسائل التعبير عن الرؤية التي تحملها الدولة وتقدمها لشعبها وللزوار الذين ربما لا يجيدون لغة البلد لكنهم يدركون تمامًا أن هذا البلد يتطلع إلى التطور والتقدم. في تصميم مركز حيدر علييف الثقافي تعكس المعمارية المبدعة العالمية زها حديد رؤية عصرية تتسق بتماس متناظر والعقود المقبلة التي يخطط لها الآذريون. مبهرة هي مساحات السلاسة والسلم التي يمكن التعبير عنها بخطوط هندسية متمايلة في نظام! مبهرة هي مساحة البياض التي عكست الأفق من الخارج وجمالية التباين في المعروضات من الداخل.

تصطف سيارات الرئيس الأب الفاخرة في الطابق الأول من المركز، ولكل سيارة حكاية بالطبع وزيارة مهمة شكلت مفرقًا مفصليًا في تاريخ البلاد. وللمكانة الأثيرة للهندسة المعمارية يتجول الزائر في طابق يضم بين جنباته مجسمات غاية في الإتقان لأهم معالم البلاد العمرانية: المطار، ومتحف السجاد، والمراكز الحيوية والجوهرية للمؤسسات والجامعات. وعندما تأتي على إتمام الجولة لا بد من الصعود إلى مكان محبب لدى الأطفال والكبار وعشاق الرسم والتفاصيل والنحاتين والمصورين هو متحف الدمى الأشهر في العالم، كونه يحتوي على قطع نادرة من مصانع أوروبا كافة. بعضها يخبر روايات حديثة، وبعضها جرى إخضاعه لكثير من عمليات الترميم ليعلن أن الدمى ليست للعب فحسب، وإنما لتجسيد شخصيات متنوعة وتحركاتهم الصامتة وتجميدها ضمن إطار لحظي من الزمن.

 

 

أما التأريخ لدور الأزياء العريقة فتلك هي قصة الطابق الثالث في المركز الثقافي، حيث تعكس فساتين ديور وشانيل، وبيير كاردان، وإيف سان لوران، وتصاميم الحقائب والكماليات العتيقة التقدم الفكري لدى المرأة وفي التعاطي معها من قبل المهتمين بالأزياء، والتافتا المتفاخر، والحرير المنسدل، والاستعمال المحدود للدانتيل، والفهم الشفيف للشيفون. جميعها قصص تروى هنا كأننا نطالع تاريخ الثورات القديمة وما اعترى الملابس منذ ذلك الحين حتى اليوم من ثورات في الألوان والتحكم في القصات والإطلالات.

  

نقوش قديمة في حديقة جوبستان الوطنية.

نقوش قديمة في حديقة جوبستان الوطنية.

 

جوبستان الحجر وفوهات الطين

تبعد ولاية جوبستان ومتحفها حوالي 70 كم عن باكو، تضم بين أنحائها المنفتحة على الهواء الطلق موضعًا تراثيًا عالميًا تم تسجيله في اليونسكو عام 2007، تتلو على ذاكرتنا حكاية الإنسان الحجري وكيف بعبقرية ليست بدائية عمل على تذليل الحجر لتلبية متطلبات حياته، وتحويل الحجر لأداة حادة كي تصبح وسيلة قطع وبناء وسلاح أيضًا. ثمة متحف في أعلى الجبل يعرض رسومات أثرية وفلوحًا صخرية يثير العجب وقوفها بين الكهوف.

 

تضم أذربيجان نحو 400 بركان طيني، منها هذه الفوهات في ولاية جوبستان، حيث تجذب كثيرا من طالبي العلاج.

تضم أذربيجان نحو 400 بركان طيني، منها هذه الفوهات في
ولاية جوبستان، حيث تجذب كثيرا من طالبي العلاج.

 

يوجد في أذربيجان أكثر من نصف عدد البراكين الطينية الموجودة حول القارات. وهي موطن لقرابة 400 بركان طيني، ستجعلك مندهشًا من قرب قدميك إلى جانب فوهة مياه فوارة ترتفع سخونتها على مدار الساعة، ناجمة عن تحولات جيولوجية في أغوار الأرض. يتعانق دخانها مع رذاذ السماء، وتجذب كثيرًا من طالبي العلاج، لكنها بلا شك لن تتحول لحمم بركانية نارية نهائيًا. وهنا وجب تحذير الصاعدين بضرورة إحضار حذاء لا يخشون عليه من الاصطباغ بلون معدني دائم لن يزول.

 

جبال القوقاز

إذا فكرت في مغادرة أطراف باكو إلى جابالا فسوف تستهويك الرحلة، فالطريق هو الرحلة. عليك فقط بدء الاستمتاع بمهارة الترقب. ترقب قمم جبال القوقاز من بُعد وتحولها بين الألوان ودورانها بين المنعطفات. جبالا مدينة تبعد 218 كم تقريبًا. الطبيعة هنا لن تقارن إلا بنفسها، فالمنطقة في شهر حزيران يونيو يكسوها الربيع وأصوات الشلالات والعصافير في درجة حرارة لا تتجاوز العشرينيات. بينما في يناير يكون الناس على موعد مع ندف الثلج وأفق يتوارى على استحياء وعذوبة خلف البقاع والسفوح وخمس درجات تحت الصفر. يصعد المتزلجون وخطوات العابرين وركّاب التلفريك في مغامرة شائقة تخوضها مع ظلال الأخضر ثم تدرجات الرمادي، انتهاءً بالسكون الأبيض.

بعض الأماكن تكتفي باستقبالك مرة ووداعك مرة، وثمة بلاد تترك في روحك عبقًا منها لتعود إليها. وأذربيجان تمنح هذا الشوق الطاغي لزيارتها مجددًا ولشعورك الفياض هناك.

 

مدينة شاكي

مشهد بانورامي جميل لمدينة شاكي الواقعة شمال أذربيجان
على مقربة من الحدود الروسية. تقع المدينة على حافة سلسلة جبلية ترسم
حدود أذربيجان الشمالية، وتشتهر البلدة بجبالها الخضراء وطبيعتها الساحرة.