تقع على الساحل الشمالي الإسباني قرب الحدود الفرنسية

جامعة بين الطبيعة الساحرة والتاريخ العريق.

 

من زمن الأوقات الكلاسيكية الباذخة، والحقب الأوروبية الجميلة وصفحات التاريخ الوردي، تطل المدينة المرفأ برأسها بغنج، قبل أن تنبعث ماثلة أمام خاطبي الود، الحاملين رحالهم من كل ركن ومكان، الحاضرين ليقدموا ولاءهم لمدينة تشبه الأحلام، ولرقعة لا تزال تستحضر أمجاد الفن والأدب والموسيقا، وتذكّر بكل أناقة بعهد التفتح الثقافي في أوروبا الفتية والحية، أوروبا ما قبل الحرب والحرق والدمار، أوروبا ما قبل الحرب العالمية الأولى.

 

 مسرح فيكتوريا يوجين حيث وقف المشاهير، وعلى سجادته الحمراء مشى كثير من النجوم.

مسرح فيكتوريا يوجين حيث وقف المشاهير، وعلى سجادته الحمراء مشى كثير من النجوم.

 

من موقعها الفريد في الشمال الإسباني وعلى مشارف الأرض الفرنسية، تهلل سان سيباستيان، أو كما يدعوها قاطنوها الأصليون من الباسك دونوستيا، للحياة وللاحتفال. ولعل مشاهد السجادة الحمراء - تفترش الممر المؤدي لقاعة الاحتفالات في مسرح فيكتوريا يوجينيا الذي يتخذ من أحد أقدم مباني المدينة مرتعًا له ضمن مهرجان سان سيباستيان السنوي للأفلام الذي يحتفي بأسماء لامعة من نجوم الصف الأول من عوالم السينما والشاشة - يحضر ببال كثير من الناس حين تُذكر المدينة.

 

 قصر ميرامار، من بلاط ملكي صيفي إلى فضاء مفعم بالموسيقا ومفتوحٍ أمام الزوار.

قصر ميرامار، من بلاط ملكي صيفي إلى فضاء مفعم بالموسيقا ومفتوحٍ أمام الزوار.

 

للمدينة الساحلية سحرها الخاص، فهي تجمع دون تكلف بين أسلوب الحياة الفرنسي والمذاقات الإسبانية الأصيلة، في تآلف فريد يأسر القلوب. تجذب شواطئ سان سيباستيان اللؤلؤية الخلابة، وإطلالتها على بحر كانتابريا الممعن في زرقته، بجمالها الهادئ أصحاب الذائقة العالية. لا عجب أن اختارتها الملكة ماريا كريستينا، المتحدرة من أسرة هابسبورغ النمساوية، مقرًا لإقامتها الصيفية، وهي التي منحت بدورها شاطئ اللؤلؤة الشهير لا كونشا La concha صيته الحالي كأجمل الشواطئ في العالم بعد أن سمَّت الملكة المدينة قبلة السياحة الصيفية في أوروبا، مدشنة بذلك بدء توافد الطبقات الأرستقراطية لسان سيباستيان وتسابقهم في تشييد قصورهم على امتداد الساحل المختار.

 يحتفي متحف سان تيلمو بالإرث الباسكيّ العريق.

يحتفي متحف سان تيلمو بالإرث الباسكي العريق.

 

قد يكون جمال المدينة التي ترتع بسواحلها بين جبلين يحرسان شواطئها الثلاث: لا كونشا، وأونداريتا، وزوريولا، سببًا للمآسي التي شهدتها في تاريخها البعيد والقريب. لعنات حروب تسببت في أن تُحرق سان سيباستيان عن بكرة أبيها مرتين، واحدة مع غروب عهد العصور الوسطى وأخرى في عام 1813 حين دافع الإسبان عن مدينتهم أمام جيوش نابليون قبل أن يدحروها من أراضيهم ويعيدوا للمرة الثانية بناء مدينتهم التي تحولت إلى رماد. والزائر لسان سيباستيان اليوم يمكنه أن يستدل برفقة المحليين على شارع يتيم، نجا وحده من النيران. يحمل الشارع اليوم اسم شارع الحادي والثلاثين من أغسطس، Calle 31 de Agosto، في دلالة تاريخية على انبعاث المدينة التي تخفي قوتها خلف رداء من الوداعة والسكينة.

 

 أجمل الإطلالات على المدينة الحلم تتأتى من على قمة جبل ايغويلدو.

أجمل الإطلالات على المدينة الحلم تتأتى من على قمة جبل ايغويلدو.

 

تفاخر جوهرة الساحل الشمالي أيضًا بما يزيد على 16 نجمة ميشلان تتوزع على تسعة من المطاعم الشهيرة، الأمر الذي وضع سان سيباستيان في قلب خارطة المذاقات العالمية وجعلها مزارًا لعشاق الأطباق الإسبانية، والمطبخ الباسكي على وجه الخصوص. لعل أهم تلك المطاعم التي يأتيها الزوار من زوايا العالم مطعم موغاريتز Mugaritz ومطعم أرزاك Arzak. يحتل المطعمان على الترتيب مواقعهم في المرتبتين التاسعة والحادية والثلاثين على قائمة أفضل خمسين مطعمًا عالميًا لعام 2018.

 

 ساحة الدستور حيث قلب المدينة العتيق وموطن الاحتفالات.

ساحة الدستور حيث قلب المدينة العتيق وموطن الاحتفالات.

 

من أعلى نقطة في المدينة، لا ضير أن يملأ المرء رئتيه بنسيم المحيط، متأملاً الميناء الهلالي الشكل، في مشهد مهيب يذكر بأزمنة الحصون والمتاريس التي ما زال بإمكان المرء أن يلمحها من علٍ،  أو أن يجول إن أراد ضمن الممرات الحجرية لجبل كان في الأصل مأوى وقلعة، قبل أن تأخذه الطريق الملتوية باتجاه المقابر الإنكليزية والتي تحولت لحديقة وارفة، في تذكار آخر على عهد مضى حاربت فيه إنكلترا جنبًا إلى جنب مع الجيوش الإسبانية الحامية للمدينة.

 

لا بد لمن يقصد المدينة من جرعة إضافية من المعرفة والتاريخ. لذا، فحري بمن تحط به الرحال في سان سيباستيان أن يغتنم الفرصة لتفقد المتحف الباسكي الشهير سان تيلمو الذي يؤرخ حكاية عرق وشعب لا تزال جذوره مضربًا للتكهنات. يحوي المتحف الذي أنشئ في عام 1902 أكثر من 26 ألف قطعة عرقية أثرية، ويعد المبنى وحده مثالاً رائعًا على عمارة عصر النهضة، حيث يقبع ضمن دير دومينيكي عتيق دمج مؤخرًا بمبنى أكثر حداثة ليصبح المتحف بأكمله حالة فريدة من البناء القوطي المتوائم بشقيه الأثري والحديث، وروح العصر.

 

"يعد المتحف الباسكي سان تيلمو الذي أنشئ عام 1902 من أشهر معالم المدينة،

ويضم أكثر من 26 ألف قطعة أثرية، ويجسد المبنى وحده مثالا رائعا على عمارة عصر النهضة" 

 

أما الجبل الآخر في المدينة فيمكن بلوغه عبر سكة حديدية معلقة، هي الأقدم في الإقليم. يقع مدخل القطار الجبلي المائل في نهاية شاطئ أونداريتا، ويصعد لقمة جبل أيغويلدو مرتفعًا لأكثر من 180 مترًا عن سطح البحر. يمكن للمرء من قمة الجبل أن يحظى بإطلالات لا مثيل لها على شاطئ لاكونشا وعلى المدينة بأجمعها. أما وإن اكتفى من المرتفعات وباتت الأرض أقرب، فلا أفضل من أن يقصد الحي الرومانسي. يكتظ هذا الحي الواقع في جنوب المدينة بمبانٍ جميلة تعود لأواخر القرن التاسع عشر ويمتاز بنفحاته الباريسية العذبة، كما يعج بالمتاجر والمطاعم الراقية وبأطياف من الموسيقيين الذين تصدح آلاتهم بأنغام الكمان والتشيلو، محولين المتع البصرية في المكان إلى متع حسية مكتملة.

 

 قاعة المدينة، مركز الإدارة المحلية، شاهدٌ جمالي على عمارة عصر النهضة.

قاعة المدينة، مركز الإدارة المحلية، شاهد جمالي على عمارة عصر النهضة.

 

جولة أخيرة على الممشى الساحلي المسيج بزخارف بيضاء على امتداد النظر، ووقفة عند قصر ميرامار، مستقر الملكة الصيفي الذي بات الآن كلية موسيقية يؤمها العازفون من كل مكان. يفتح القصر ذو الطراز المعماري الإنكليزي بوابات حديقته الغناء للعامة، داعيًا إياهم للتجول برفق ضمن مساحات مذهلة من تداخل الألوان ورقع ذات أعشاب تختلط خضرتها بزرقة البحر الهائل الممتد حتى الأفق.