الرئيس التنفيذي لدار ستيفانو ريتشي يمضي قدما على طريق ترسيخ مكانة العلامة عالميا بموازاة صون إرثها الحرفي وتاريخها الفلورنسي

 

إذا كان الإرث الحقيقي هو مجموع تلك القيم والمعتقدات والتقاليد التي تتناقلها الأجيال، فإن نيكولو ريتشي، الرئيس التنفيذي للدار التي أسسها والده المصمم الإيطالي ستيفانو ريتشي، ووالدته كلوديا، في سبعينيات القرن الفائت، لا يختبر هذا الإرث فقط من حيث كونه يحمل اسم مبدع أسطوري سلّمه مقاليد الإدارة وغرس في نفسه شغفًا راسخًا بالسعي إلى التميز. فريتشي الابن، الذي ألِف أصول المهنة وأسرارها منذ حداثة سنه، لا ينفك يقارب تلك التعاليم والقيم التي ورثها عن والديه بوصفها مرجعًا يسترشد به في يوميات مهمة لا تنحصر اليوم في العمل على إعلاء شأن الدار وتوسيع نطاق حضورها عالميًا، أو تطوير مساراتها الإبداعية وتقنياتها اللوجستية. فإلى هذه الأهداف يُضاف سعي دؤوب لصون تلك العلاقة المتمايزة التي جمعت على مر السنين بين عائلة ريتشي وتاريخ موطنها في فلورنسة، وبين عمل إبداعي يعز نظيره وتقاليد حرفية يُصر نيكولو ريتشي على أن تظل تعكس البعد الثقافي لدار تختصر بهويتها أجمل حكايا الإبداع الفلورنسي والصناعة الإيطالية الأصيلة.

 

Aldo Fallai

Aldo Fallai

 

أين يكمن التحدي الأكبر الذي تواجهه بوصفك ابن مبدع أسطوري يتربع على عرش تصميم الأزياء الرجالية الراقية؟

ترعرعت وأخي فيليبو، المدير الإبداعي للدار، في فيلا جدتنا حيث أقام والداي محترفهما في الطابق الأرضي، فنشأنا وسط الحرفيين وألِفنا منذ الصغر تفاصيل العمل الإبداعي الذي شكل نواة دار ستيفانو ريتشي. عندما كبرت، تدرجت لبعض الوقت في محال نيمان ماركوس في دالاس، حيث اكتسبت كثيرًا من المعارف والخبرات من خلال العمل مع إدارة المتجر. وعندما عدت لتولي مسؤولياتي في دار ستيفانو ريتشي كنا لا نمتلك سوى متجرين، لكني شعرت بأن ثمة إمكانات هائلة للنمو وتوسيع شبكة متاجرنا. نمتلك اليوم ما مجموعه ثمانية وستين متجرًا في مختلف أنحاء العالم، فضلاً عن مساحات خاصة ضمن عشرين متجرًا كبيرًا. وإذا ما حسبنا أماكن بيع قطع الأثاث الممهورة بتوقيعنا، فإننا نكاد نرسّخ حضورنا في تسعين موقعًا على مستوى العالم. يسرني أن أرى المشروع الذي سعيت إلى تحقيقه يمضي في الوجهة الصحيحة، لكن التحدي الأكبر الذي لا أنفك أواجهه هو الحرص دومًا على ترسيخ حضور العلامة على المستوى التجاري في مواقع متميزة، خصوصًا أننا نواجه من حيث كوننا شركة عائلية منافسة شرسة من الشركات العملاقة، ما يفرض علينا ضغوطًا لتحقيق الأفضل على الدوام.

 

وما أبرز العبر التي أخذتها عن والدك لتصقل بها مسيرتك المهنية؟

لطالما أوصانا الوالد بأن نحاول دومًا الدفع بإمكاناتنا إلى أقصى حدود الممكن. إن كنا مثلاً قد ابتكرنا ما نظنه أفضل مادة لهذا الموسم، فلا بد لنا من أن نجد ما هو أعلى جودة للموسم المقبل. لذا فإن مسار الأبحاث والتطوير لا ينقطع أبدًا في مقرنا. علّمنا الوالد أن نفرح بما ننجزه اليوم بشرط أن نظل نسعى للارتقاء إلى مستوى أعلى تميزًا.

 

يحرص نيكولو، منذ تسلّمه زمام الإدارة، على أن يبقى إرث والده المبدع الإيطالي ستيفانو ريتشي جزءًا لا يتجزأ من مستقبل الدار.

يحرص نيكولو، منذ تسلمه زمام الإدارة، على أن يبقى إرث والده المبدع الإيطالي ستيفانو ريتشي جزءا لا يتجزأ من مستقبل الدار.

 

نجحت ستيفانو ريتشي بمرور السنين في ترسيخ هويتها من حيث كونها رمزا للإبداع الفني أكثر منه علامة للأزياء الراقية. فكيف يتجلى هذا الواقع في رؤية الدار اليوم؟

الواقع هو أن الإبداع الفني يتماهى مع واقعنا الحياتي اليومي. فمنذ أن انطلق والداي في عام 1972 في ابتكار رابطات العنق الحريرية التي تزهو بالنقوش والألوان، أخذنا على عاتقنا مهمة الإتيان دومًا بإبداعات متجددة. لكننا لا نقدم لزبائننا منتجات فحسب، بل تجارب عاطفية يختبرونها إذ يزورون متاجرنا. لا يقصدنا زبائننا في العادة لأنهم يحتاجون إلى سترات أو قمصان أو بذلات إضافية. فخزائنهم تغصّ بقطع الملابس. إنهم يرغبون عوضًا عن ذلك في أن يستكشفوا الابتكارات الجديدة التي يرون فيها عملاً فنيًا إبداعيًا، بحواسهم كلها، بدءًا من التأمل في التفاصيل والنقوش والألوان ومرورًا باختبار ملمس المواد الفاخرة. هذا هو على سبيل المثال حال صديق العائلة أندريا بوتشيلي وابنه ماتيو. إننا نتولى دومًا تصميم ملابس الأب وابنه.

 

لطالما اعتمدت الدار في كل ما تبدعه مقاربة تحتفي بثقافة الصناعة الإيطالية المتفردة. فكيف تصونون اليوم الفنون الحرفية الأصيلة؟

يتصدر الحفاظ على الفنون الحرفية قائمة أولوياتنا. فلطالما كانت دار ستيفانو ريتشي خير داعم للصناعة الإيطالية، ونأت بنفسها عن النهج الذي تتبعه علامات أخرى من حيث المساومة على مراحل الإنتاج والتصنيع. فعلى غير ما هو عليه وضع علامات أخرى، تنجز نحو %40 من عمليات الإنتاج في الخارج وتزعم أن ابتكاراتها إيطالية الصنع، ينحصر كامل مسارنا الإنتاجي والإبداعي في إيطاليا حيث نصنع منتجاتنا بما يتماشى مع القوانين الإيطالية، ونلتزم حماية صحة العاملين لدينا وتوفير بيئة عمل مثالية لهم. ينضوي اليوم تحت مظلتنا ما مجموعه 600 حرفي وموظف، وقد انتهينا مؤخرًا من بناء مصنع جديد ينبسط على مساحة عشرة آلاف متر مربع فوق هضاب فيزولي في إحدى ضواحي فلورنسة. يمكن لمن يتجول في أرجاء المصنع أن يصادف الحرفيين يصنعون أواني المائدة الفضية، والصاغة يشكلون قطع الجواهر، والسيدات يحكن القمصان. وفي المصنع نفسه حرفيون يبتكرون الأحزمة والحقائب الجلدية، وحائكون متمرسون يخيطون البذلات بحسب المقاس في محترف الحياكة بحسب الطلب. في هذا المحترف كما في غيره من الأقسام، نحرص على توظيف حرفيين متمرسين يشرفون أيضًا على نقل معارفهم ومهاراتهم إلى مجموعات من المتدربين الشباب. فتدريب هؤلاء هو ما يتيح لنا الحفاظ على ثقافتنا وإرثنا الفلورنسي. بل إننا نشعر بأن الحفاظ على التقاليد الحرفية في المنطقة واجب ومسؤولية. عندما أزور بعض المدارس في منطقتنا وأتحدث إلى الطلاب، أشجعهم دومًا على التفكير في التخصص في عمل حرفي. فالأعمال الحرفية اليوم تدر الربح بقدر ما تضمن لأصحابها مكانة متميزة وتتيح لهم اختبار تجارب فريدة. يشهد على ذلك مثلاً الحظوة التي يتمتع بها كبار الحائكين لدينا إذ تتسنى لهم فرصة لقاء ملوك وأمراء ورؤساء.

 

 

وهل كان الحفاظ على التقاليد الحرفية الدافع لإعادة إحياء مصنع الحرير التراثي؟

استحوذنا منذ نحو تسع سنوات على مصنع الحرير القديم The Antico Setificio Fiorentino الذي كان قد تأسس في قلب فلورنسة في عام 1786. لا أخفي أن استثمارنا في هذا المصنع وحرصنا على إعادة إحيائه لم يكونا بدافع تحقيق ربح مادي، وإنما بسبب قناعتنا الراسخة بأنه يشكل جزءًا من تراثنا ورغبتنا في الحفاظ على علاقتنا العاطفية بفلورنسة.

 

ارتقت دار ستيفانو ريتشي بنشاطها من تصميم الأزياء الرجالية إلى الإتيان بابتكارات مختلفة تعكس نمطا حياتيا خاصا. فماذا تخفون للمستقبل، وما الذي تسعون إلى تحقيقه؟

لطالما شكل زبائننا القوة المحفزة التي تدفعنا للارتقاء بإبداعاتنا إلى مستويات أعلى. كانت البداية من مشروع تصميم خزانة ملابس أوحت إلى شقيقي فيليبو بالعمل على إطلاق خط متكامل للمستلزمات المنزلية. بدأنا أولاً بابتكار أوان من الخزف والكريستال، ثم ابتكرنا، باستخدام الأنوال في مصنع الحرير القديم، أقمشة فاخرة لكسوة الأرائك التي نبدعها. كما أننا أطلقنا خدمة التصاميم الداخلية تلبية لرغبة زبائننا في إسقاط مقاربتنا الإبداعية على المساحات الداخلية لمنازلهم ومكاتبهم ويخوتهم. وفي درج مكتبي اليوم مشروع لتصميم مجموعة من الساعات. وإذا ما حققنا هذا المشروع، فأظن أننا سنكتفي بطرح الساعات في إصدار محدود يقتصر على عشرة نماذج.

 

 

نيكولو ريتشي مع شقيقه فيليبو، المدير الإبداعي للدار، في مصنع الحرير التراثي.

 

 

افتتحت الدار مؤخرا متجرا جديدا في مركز دبي مول التسوقي. فما هو تقييمكم لإمكانات السوق في منطقة الشرق الأوسط؟

تشكل دبي بصفة خاصة سوقًا من أهم الأسواق التي ننشط فيها. تحتضن الإمارة اليوم أربعة متاجر لعلامة ستيفانو ريتشي، يُضاف إليها متجر خامس في العاصمة الإماراتية أبو ظبي. تحقق هذه المتاجر كلها نجاحًا ملحوظًا حتى في أوساط السائحين ممن يزورون دولة الإمارات العربية المتحدة، بينما زبائننا الإماراتيون يتسوقون من متاجرنا في مختلف أنحاء العالم، فنلقاهم في لندن، وباريس، ونيويورك، وميلانو. لكننا نخطط للتوسع في منطقة الشرق الأوسط عمومًا، ونسعى لإيجاد الشركاء المناسبين لافتتاح متاجر إضافية في مختلف أرجاء المنطقة، خصوصًا في المملكة العربية السعودية.

 

ما قصة جائزة ستيفانو ريتشي التراثية؟

انبثقت هذه المبادرة عن شغف راسخ لدى أفراد العائلة بجمع السيارات عتيقة الطراز. في عام 2008، أطلقنا جائزة ستيفانو ريتشي التراثية لنعيد إحياء مسابقة الأناقة للسيارات Concorso di Eleganze per Automobili التي كانت تُنظم في خمسينيات القرن الفائت لاستعراض السيارات الرياضية الإيطالية الأشد تفردًا. نظمنا المسابقة بالتزامن مع أسبوع الموضة في معرض Pitti Uomo الشهير، وعرضنا نحو ثماني عشرة سيارة قديمة في حدائق بوبولي. أما في العام الفائت، فأطلقنا الدورة الثانية من جائزة ستيفانو ريتشي التراثية في سياق الحدث الخيري العالمي Celebrity Fight Night الذي تدعمه كل من مؤسسة أندريا بوتشيلي ومؤسسة محمد علي، ونجحنا في استقطاب نحو أربعين مركبة عتيقة الطراز افتُتن بها الحاضرون في ساحة قصر بالاتزو بيتي Palazzo Pitti.

 

درج أفراد العائلة من قبل على المشاركة في سباق الألف ميل للسيارات عتيقة الطراز. فهل ما زلتم تواظبون على هذا التقليد؟

نمتلك أسطولاً يضم خمسًا وعشرين مركبة عتيقة الطراز. لكننا كنا ندخل سباق الألف ميل بثلاث سيارات فقط. شاركت في هذا السباق خمس مرات من قبل، فيما خاض والداي فضلاً عن ذلك سباقات تراثية أخرى عديدة في إيطاليا، على غرار سباق تارغا فلوريو الشهير. وبالرغم من أننا انقطعنا عن المشاركة في سباق الألف ميل في السنوات الأربع الأخيرة، إلا أننا ننوي خوضه مجددًا. فالتجربة التي يتيحها هذا السباق لا تنحصر في قيادة سيارات قديمة، بل تتعداها إلى استكشاف أماكن ساحرة في إيطاليا نادرًا ما تتسنى الفرصة للتعرف إليها خارج أنشطة السباق.

 

أوصانا والدي بأن نحاول دوما الدفع بإمكاناتنا إلى أقصى حدود الممكن. علمنا أن نفرح بما ننجزه اليوم بشرط أن نظل نسعى للارتقاء إلى مستوى أعلى تميزا

 

 

 

بعيدا عن عالم السباقات، هل تستهويكم عوالم أخرى؟

أهوى الصيد، وقد شرعنا مؤخرًا نستكشف الصيد بالصقور على أرض ملكية العائلة في توسكانا. سيسرني أن أتعمق في المستقبل القريب في هذه الرياضة. يمثل الصقر رمز علامتنا، وسنسعى إلى إحياء رياضة الصيد بالصقور في منطقتنا.

 

 

في أسفارك الكثيرة، أي البلاد تركت أثرا بالغا في نفسك؟

حظيت منذ الصغر بفرصة زيارة وجهات قصية، على غرار بوليفيا وباكستان وإندونيسيا، والجزء الأعظم من المناطق الأفريقية. وأعتقد أن لا مكان يرقى إلى المناطق الشمالية من تنزانيا عند الحدود المتاخمة لكينيا. فتلك المناطق تزهو بفتنة يعز نظيرها، وفيها اختبرت متعة مشاهدة الهجرة الكبرى للحيوانات المفترسة. كانت تلك تجربة غاية في التميز.

 

لطالما كانت دار ستيفانو ريتشي خير داعم للصناعة الإيطالية. بل إننا نشعر بأن الحفاظ على التقاليد الحرفية في المنطقة واجب ومسؤولية

 

في محترف الحياكة بحسب الطلب، يتأنى الحائكون المتمرّسون في خياطة بذلات تعكس ذروة الإتقان في الصنعة.

في محترف الحياكة بحسب الطلب، يتأنى الحائكون المتمرسون
في خياطة بذلات تعكس ذروة الإتقان في الصنعة.

 

ما هي الرفاهية عندك، وكيف يختبر المرء السعادة؟

أختبر اليوم ذروة الرفاهية عندما تتسنى لي الفرصة للتوقف عن استخدام الهاتف الجوال، وهذا ما يحدث مثلاً عندما أزور وأفراد عائلتي أفريقيا حيث نمضي بضعة أيام في أماكن نائية تنعدم فيها شبكة تغطية الاتصالات الخلوية، فلا يتوافر لنا سوى هاتف للاتصال عبر الأقمار الصناعية نستخدمه بين الحين والآخر للتحقق من حسن سير الأمور في الوطن. جميل هو الشعور بالرفاهية الذي تتيحه المقدرة على الانعتاق أحيانًا من ضغوط العمل والاستمتاع بمباهج الحياة. أما السعادة، فأختبرها من خلال وجودي مع عائلتي والأصدقاء. لا شعور يُضاهي مثلاً تلك البهجة التي تعتريني حين تهرع طفلتي البالغة من العمر ثلاث سنوات لمعانقتي إثر عودتي من رحلة عمل ما.