المدن كالنساء.. قريبة قريبة وإن نأت المسافات، أو بعيدة بعيدة وإن كنت تنام على نبضها.

ثمة مدن تسكنها الروح، ولا تغادرها أبدًا، وإن شرَّقتَ أو غرَّبتَ. يبقى ما بينك وبينها متصلاً كحنان أم، أو دفء حبيبة. تخال نفسك وكأنك قد عشت فيها من قبل على وجه من الوجوه، أو سكنَتْ وجدانك قبل أن تلقاك بأحضانها. فأنت فيها من أهلها، ومن بعض ملامحها، أو ضوضائها، أو ذكرياتها، أو ذكرياتك التي تستحضرها نفسُك، حتى وإن لم تصنعها نفسُك، حتى وإن لم تزرها فيما تعي من حياتك. تُقبل عليها وهي عليك مقبلة ضاحكة مستبشرة، وتُدبر عنها، إذ تتحمَّل مودعًا، فتحزن حزنَك على فراق الأحبة.

وثمة مدن تجتويها، يسقمك المقام فيها ولو قلَّ المكثُ، ولو كان مكث عابر سبيل. لا تحبها ولا تحبك، تضيق فيها الصدور، وتنحبس في عتمتها الأحلام، حتى وإن أضاءت ظلمتها النجوم والكواكب. فأنت منها هارب لا محالة، كما تفر من نكد امرأة لا يُطاق فيها شيء، ولا يُصبر عليها في حال.

لكل مدينة قصة وحكاية في التاريخ والجغرافية، كما للنساء قصص وحكايات. في تلك القصص مكان للكبار والصغار، وفي تلك الحكايات أحلام، وأمجاد، وحضارات صنعتها تجربة الناس في مجتمعاتهم. ولكل مدينة، كأي امرأة ساحرة، أسرارها وأسباب عشقها، بل، ربما، بعض ما تحتال به على قلوب العشاق حتى يأتوها، عن حب، وهم عاشقون.

كل بلد وطنُ أهله، إلا بعض المدائن فهي، كالحبيبات، وطنُ عشاقها وإن تباينت الألسن، وتعددت الأعراق، واختلفت المذاهب والألوان. بلدك كأمك أنبتتك أرضه، بَيْد أن المدن هوى، تنجذب إلى بعضها دون بعض الأنفسُ.

يؤنسك أن تدنو من هواء بيروت، وأزقتها، وحجارتها، وحبات مطرها. تغسل روحك رائحة الصنوبر ورذاذ موجها، وعبق الورد، وزهر الليمون والزعتر. تهرب منها إليها، كامرأة يأبى القلب إلا أن يعشقها وإن أغضبتك، وأقلقتك، وجعلت ليلك نهارًا!

المدينة العاشقة

في بيروت، تضع على عتباتها زاد المحب المعجب المفتون المتأمل. تطرق بابها وتقول، إن فُتِّحت الأبواب، كلمة واحدة لا تجاوزها: أحبك!

أما القاهرة، ابنة العز التي تغير زمانها، فليست إلا ابنة العز التي يغريك أنسها الصاخب في نهار الناس، والهادئ في ليل النيل، أنك في بيت أمك وأبيك. لقد مررت يومًا، لا ريب، في شوارعها وأزقتها، وأمتعك ذلك الاجتماع الإنساني في حسينها وأزهرها. هنا وطِّن النفس على حقيقة أن ليس بين المحبين عتب. وأنك من أهل الدار. هنا تجد في كل مكان صفحات كتبها نجيب محفوظ، أو إحسان عبدالقدوس، أو توفيق الحكيم، في عاصمة تجري بها الحياة كما يجري النيل، يغسل بصفوه وكدره ما تغسله ابتسامة مبتسم، أو لطف متلطف، من هموم تتوزع حاضرَ الناس وغائبهم، قريبهم أو بعيدهم. لكنك، على ما تشبه به النساءُ النساءَ، ستجد في حبيبتك ما لا تشبهها فيه نساءُ العالمين، مما تدركه أو لا تدركه. هكذا أنت في القاهرة، أمران يهجمان عليك من كل حدب وصوب وأنت تدخلها أول مرة: لست غريبًا، ولقد كنت فيها يومًا قبل أن تزورها. كيف؟ لست أدري! فليست كل أسرار النساء مفهومة، وأنت إذا عقلت من أمر النساء شيئًا بعد طول تجريب أو تخريب فلن تضطرك الضرورات إلى طلب ما يشبه المعجزات. لن يهمك من بعد، إن عقلت كما يعقل المعذبون في قلوبهم، أن تفهم ما انغلق عليك من أسرار. حسبك أنك عند محبوبتك كمن يستظل بشجرة وارفة في يوم قائظ. فسلِّم النفس للنسائم العذبة، وتعلَّم هناك كيف تلوِّن الأحلام...