يحار المرء على أيِّ فهم يحمل آراء مَنْ يخوِّفهم الحُسْنُ، ويضلهم بالضرورة الحَسَنُ الجميل، فيصيرِّون كل جمال فتنة من الشر المستطير، أو شرًّا من أقبح الفتن التي تعرض للرجال من بني آدم خاصة.

هؤلاء الأقوياء بفظاظتهم، الضعاف بيسر افتتانهم، وسهولة انقيادهم، يستعيدون بهذه الأفهام السقيمة أسطورة أن حواء لا بد وقد أخرجت آدم من الجنة، حسب جهالة من لا يعلم، فإنَّ النساء أجمعين، من حيث كونهن سبب كل شر وفتنة، لا بد أن يخرجن هؤلاء الأشداء الذين يستجلبون عطفًا يشبه العطف على الضحايا المساكين، يخرجن أولئك الذين امتلأت قلوبهم غلظةً ونفوسهم قسوةً وجلافةً، من جنان الدنيا والآخرة!... وكأنَّ ليس للنساء عندهم من همٍّ إلا أن يفتنَّ أولئك الذين انحبست نفوسهم الجاهلة في صومعة التقوى المزيفة! فما دام الجمالُ مستصحبًا دومًا نُذُر الخطر، وأسباب الشر، حسب بعض من تعلقت أفهامهم القاصرة ببعض قشور التدين على مرِّ الأزمان وتعدُّد الأديان، وحسب بعض مَنْ أعياهم فهم النساء فانتهى بهم هذا العيّ إلى كرههم في الغدو والرواح - فإنه لا بد من عزل هذا الجمال ضرورةً، أو اعتزاله على أرجح السبل في اجتناب الفتن، ما ظهر من عيونها، أو استتر من أصواتها وهمساتها.

هذا الاستصحاب الضال للحُسن، ولزوم ما ينبغي أن يلزمه من شر فتان، يستتبع فهمًا «تطهّريًا» مضادًا يحسِّن القبح الذي يأمن فيه الرجال فتنَ الجمال. ويطَّرد مثل هذا «التطهّر» المزيَّف، وتحسين القبح، ليتردد في غلوِّه بين منزلتين أدناهما التحسين، وأعلاهما التقديس. وإن كان مثل هذه الأحوال قد يصدق من يطلب تفسيرها، بل وعلاجها، عند الأطباء النفسيين، فإنَّ تفسيرًا آخر قد يُطلب فلسفيًا إذا ما تشقَّق التحليل إلى جدليات النفور من الجمال وكرهه أو الخوف منه على مذاهب شتى قد يعود بعضها إلى شعوذات تاريخية تجمع بين الخوف من اقتران الجمال، من حيث كونه على وجه من الوجوه قوة تولِّد في النفس معاني سامية ولكنها مخيفة، بالنساء، من حيث كونهن أجمل تجليات الجمال وصوره وإبداعه، وأعظمهن تأثيرًا في النفس واستلابًا للبِّ كلِّ ذي لبٍّ. وكأنَّ أولئك الأشداء الضعاف لا يخلص إليهم من ذاك القران إلا القوة والخضوع الملازم للقوة، أي قوة الجمال الفتَّان عند النساء.

والابتلاء، لا ريب، أعظم إذا ما استذكرنا أن النفوس السوية فُطرت على عشق الجمال والصور الجميلة. هذا الجمال الذي تفجرَّت في قلوب شعرائه قصائدُ العشق دررًا معلّقة وغير معلّقة، وحبَّبَ أصفى الأرواح بالنساء كعشق الروح للطيب في اجتماع سامٍ بين أجمل ما يرقى بالنفوس السوية حبًا وتعطيرًا.

فمن ذاك الذي يفجر في القلوب عشق القلوب؟ ومن الذي يستنبت في حدائق النفس وردها وزهرها ورياحينها؟ ومن الذي يجعل الدنيا فرحًا وسرورًا وسعادة؟ ومن الذي يسمو بالروح إلى الآفاق العُلا كما يتضوّع شذا الورد في سماء العشق؟ وأي إبداع كان لأي مبدع يصنعه شعرًا، ونثرًا، وفنًا، ورسمًا، لو لم تكن سببه الأحلى حُسَّانة بين النساء، جميلة؟ وهل كان للألوان مغزى، وللشعر معنى، وللعشق محل في القلوب، وللدنيا، كل الدنيا، رونق لو لم يكن حسن الحسان سبب كل جمال؟

ليس ثمة أعظم من ذلك الجمال المنظور وغير المنظور الذي تبعث قوته أجمل ما في النفس من مشاعر. وليس ثمة أرقى من ذلك «الافتتان» السامي إن شئت أن تسمو بفهمك وعقلك وحسك، ومن ذلك الانجذاب إلى قيم الجمال التي تعظم قيمتها الخُلُقية بعلو نفس صاحبها، وتنزل بنزولها.

بالمقابلة بين الأمور، يصح أن يقال إنه لا ينبغي لذلك الحُسْن الراقي إلا أن يولِّد في النفوس السوية الحس الراقي، وبعض أجمل مشاعرها. ومن لم يجرب من هذه المشاعر إلا أسوأها وأرداها فذلك سببه ما انحطّ به من نفسه إلى دَرَك حقَّر به المرأة، فلم تزد أن تكون عنده إلا فتنة جسد يضطرم فساده بين من يراها بنصف عقل ومن لا عقل له أبدًا، لا نصفَ ولا ربعَ!

إن جمعنا ذلك بعضه إلى بعض، من أول فتنة المرأة و«شرها» إلى آخر ذرة في عقل المسكين المفتون، وقفنا على بعض أسباب اضطهاد المرأة في عالمنا وتخلفها. فالسعي لقتل ملالة الأفغانية ذات الأربعة عشر ربيعًا من الأمل، أو خريفًا من الشقاء، لطلبها العلم إنما كان درءًا لفتنة عقلها. ومنع نينا مرادي الإيرانية من أن تكون عضوًا في مجلس مدينة قزوين، إنْ صحَّ الخبر، رغم انتخابها، كان درءًا لفتنة جمالها، وربما عقلها أيضًا وذكائها. والأَوْلى على هذا أن يتقدم القبح العقلي والنفسي والثقافي الذي يفضح الحسنُ بعمومه الخُلُقي، لا الخَلقي خاصةً، دواخلَه. ذلك أن في التقبيح ما يحبس النفس على اعوجاجها المتطهر من «أدران» الحسن ومفاتنه.

على هذا فليس غريبًا، بسبب ذلك التراكم التاريخي من العزل والاضطهاد والتوجس والتحقير، ألا تجد دولة عربية أو إسلامية بين مقدمة الدول التي يتساوى فيها المواطنون رجالاً ونساءً في الحقوق والواجبات وفرص العمل والمواقع القيادية. ولقد تزاحمت هذه الدول، حسب التقرير الذي كان قد أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي عن الفجوة بين الجنسين في العالم العام المنصرم، على المراتب الدنيا في قاع الترتيب العالمي.

غير تلك الحيرة التي قُدِّمت لهذا الحديث في الخوف من الجمال وفتنته وتحقيره على أظهر الوجوه، ثمة حيرة أخرى تهجم أيضًا على من يعنته أن يفهم سبب أن يستبدل بتبجيل الحسن وتقديره حق قدره بما تطلبه النفس السوية من سمو – أن يستبدل بالتبجيل التقبيحُ والتحقيرُ والتقليلُ والتشويهُ. إن كان في اعوجاج بعض النفوس بقبحها تفسير، أو بعض تفسير، عند من أبوا أن يستقيموا على جمال الحس ولطف ما تستشعره الروح الجميلة من معان، فما الذي يقبّح الجمال عند من كان الجمال دينًا من دينه إذ يذكر، إن شاء أن يتذكر، أن الله جميل يحب الجمال؟

لا ريب أن أفقًا من ترقّي النفس أو ترديها ممتد بين من يجعلون الحُسن عورة على إطلاقه معابًا، وبين من يعظّمون ذلك الجمال الذي صنعه الجميلُ الأعظم ربُّ الجمال.