صحيح أن الطائرة حطت بي في شنغهاي، لكن ليس إلا لأبتعد عن كثافة الصلب والزجاج التي تميّز معالمها العمرانية. وسرعان ما وجدت نفسي في الصين الحقيقية التي قلّما يعرفها الغرباء: الصين التي نُسجت حكايتها من الحرير، والثبات، وقرون من التأمل الهادئ، وليس من مصابيح النيون والضوضاء. فقد كنت في زيارة إلى هانغتشو وسوتشو، الجوهرتين التوأم في منطقة جيانغنان، واللتين تبوحان همسًا بأسرارهما بمنأى عن صخب المدن الكبرى. هنا، ينساب الوقت ببطء كما حركة المجاديف في زورق عابر، وتصون التطريزات الحريرية وأكواخ الشاي حكاية النبل التي طبعت الصين القديمة. وكلتا المدينتين تعكس عالمًا بعيدًا عن الصورة النمطية للصين.
سحر الشرق في سوتشو
لم أقطع سوى رحلة قصيرة لبضع ساعات بالسيارة بعيدًا عن صخب شنغهاي وأفقها المتلألئ بالأضواء، ومع ذلك شعرت كأنني انتقلت إلى أرض بعيدة جدًا. تقع سوتشو في مقاطعة جيانغسو الصينية، وتتجلى واحة تهمس فيها الحدائق الكلاسيكية بحكايات الأباطرة والشعراء، فيما الحياة تمضي بإيقاع أقدم من الزمن نفسه. تُعرف سوتشو أيضًا باسم "بندقية الشرق" بفضل شبكتها الواسعة من القنوات والجسور الحجرية، وتتباهى بتاريخ يمتد لأكثر من 2,500 عام، فيما أنا في المقابل أرجع طفلة في السادسة من العمر ولا أطيق صبرًا لاستكشاف إرثها الفني الخالد وجواهرها الثقافية، من أوبرا كونكو، إلى مطرزات سوتشو، وفن سرد القصص Pingtan.
ولحسن حظي، فيما أستكشف أسرار هذه الوجهة الساحرة، المشهورة بحدائقها الكلاسيكية التسع المدرجة على قائمة اليونسكو، يكون منزلي هنا هو الملاذ الحصري القائم على جزيرة خاصة: فندق فورسيزونز سوتشو Four Seasons Hotel Suzhou المطل على امتدادات بحيرة جينجي الوادعة.
ينبسط فندق فورسيزونز سوتشو فوق جزيرة خاصة، متباهيًا بإطلالته الآسرة على امتدادات بحيرة جينجي الوادعة
فيما أقصد الفندق مرورًا بالجسر الذي يربط الجزيرة بالبر الرئيس، أطلق زفيرًا طويلاً وهادئًا إذ أستشعر سكينة مؤنسة يعز نظيرها. وفي ما يشبه ترجمة مثالية لتقليد سوتشو القائم على مقولة "مشهد جديد مع كل خطوة"، تفتنني المشاهد المتغيرة باستمرار، من الواجهات المائية ومسارات الحدائق إلى الجسور المقوسة والفناءات الهادئة.
فهنا ملاذ يتنفّس عبق المواسم، من أزهار الكرز في الربيع إلى أوراق الجنكة التي تشكّل سجادة ذهبية في حديقة الورود خلال الخريف. وفي مدينة تتميز أيضًا بالتناقضات الحادة، وتلتقي المباني الحديثة بالضباب المتدحرج وإطلالات البحيرة الساحرة، تبدو غرف الفندق، وأجنحته، وفيلاته المطلة على البحيرة، أقرب إلى واحات للفخامة الهادئة، كل منها يكرّم سكينة الطبيعة. تطل فيلتي على البحيرة، وتتمايز بواجهات زجاجية ضخمة تبدد الحدود بين المساحات الداخلية والأفق الخارجي وتؤطر كل مشهد بشكل مثالي.
ينظم الفندق جولات ليلية إلى حديقة Humble Administrator.
أما لإمتاع ذائقتي، فأستكشف في الفندق خيارات طهوية متنوعة، لكن أكثر ما يترك أثرًا عميقًا في ذاكرتي هو عشاء الوداع في مطعم Jin Jing Ge الذي يحتفي بالمطبخ الصيني وتُقدَّم فيه المأكولات في إحدى غرف الطعام الخاصة السبع (كل غرفة تحمل اسم صنف من اليشم). تُعد الوجبات هنا تحية للمواسم، ويوصيني النادل بتناول الأطباق الموسمية فحسب، فيضع فوق مائدتي طبقًا من سلطعون سوتشو المشهور، مصحوبًا بشاي لونغجينغ Longjing وبتلات الأقحوان الرقيقة. أستكشف مذاقات أرضية، عابرة، ومثالية في توقيتها. ولاحقًا، وفي أثناء تجوالي في حدائق الفندق بعد العشاء، يملأ عبق زهرة العبقة "أوسمانثوس" الجو بحلاوة لا يمكن أن تغفلها حواسك.
خارج حدود الفندق، تتجلى سوتشو للزائرين كأنها متحف حي. أمضي الصباح في تجربة "الرسم بالإبرة" في معهد أبحاث متخصص في فن تطريز الحرير، يمتد عمره لأكثر من 2,000 عام. أما في المساء، فأنهل من أنس جولة في حديقة Humble Administrator (الحاكم المتواضع)، واحدة من تسع روائع مدرجة على قائمة اليونسكو. هناك تكسو الإضاءة الخافتة كل شيء برداء من الغموض. ومع ذلك، أجدني توّاقة للعودة إلى جزيرة فورسيزونز سوتشو، حيث التعبير الأمثل عن روح سوتشو الشاعرية.
أنس على ضفاف البحيرة
كتب ماركو بولو في القرن الثالث عشر يقول: "تمنحك الرحلة عبر بحيرة ويست انتعاشًا ومتعة لا تتيحها أي تجربة أخرى على وجه الأرض". وأنا أقف على الرصيف عند البحيرة في هانغتشو، أنتظر الصعود إلى القارب الخشبي، أدرك مقصده. الضباب يتماوج فوق المياه الهادئة التي تتباهى بلون اليشم، والمعابد الصينية تتلألأ في انعكاسها، فيما قاربي المصقول بطلاء اللك ينساب بهدوء عبر سيقان القصب.
Ken Seet
يتجلى فندق فورسيزونز هانغتشو عند بحيرة ويست على نسق حديقة إمبراطورية تزخر بأشجار الصفصاف، وبرك زهور اللوتس
وجهتي هي فندق فورسيزونز هانغتشو عند بحيرة ويست Four Seasons Hotel Hangzhou at West Lake، الذي أستكشف لاحقًا في رحابه ملاذًا أثيرًا يستمد إيقاعه من الحركة الوئيدة لأمواج البحيرة. عندما يرسو بي القارب على رصيف الفندق المعزول عند ضفة هادئة من البحيرة، يستقبلني الطاقم بواحد من أرقى طقوس الفندق الشاعرية: مراسم الشاي الأبيض. تحت جناح منحوت، يؤدي خبير الشاي طقسًا يبدو مزيجًا من الفن وجلسات التأمل فيما شاي لونغجينغ الأبيض، المزروع في التلال القريبة، يطلق عبيرًا يستحضر رائحة المطر في الربيع، وكل رشفة تذكرني بأني دخلت عالمًا آخر.
يتيح الفندق رحلة على متن قارب خشبي لاستكشاف مفاتن البحيرة التي فتنت الشعراء والأباطرة والمستكشفين.
يتجلى الفندق نفسه على نسق حديقة إمبراطورية تحتفي بعظمة هانغتشو في عهد أسرة سونغ. هنا ساحات تصطف على جانبيها أشجار الصفصاف، وبرك زهور اللوتس، ومسارات متعرجة تُرجع أصداء معالم المدينة المدرجة على قائمة اليونسكو، حيث يكشف كل منعطف عن مشهد يستحق تخليده في لوحة حريرية. في الداخل، الشاشات المزخرفة، وخشب الساج الدافئ، والهواء العابق بعبير الياسمين، تستثير شعورًا آسرًا بالسكينة.
في الداخل، الشاشات المزخرفة، وخشب الساج الدافئ، والهواء العابق بعبير الياسمين، تستثير شعورًا آسرًا بالسكينة
في فجر اليوم التالي، أعود إلى القارب. هذه المرة، أتناول فطورًا يليق بإمبراطور فيما أستمتع بجمال بحيرة ويست الأسطوري الذي أسر الشعراء والمستكشفين لقرون. بعد الظهر، أتاح لي الفندق خيار المشاركة في تجربة استكشاف الطيور البرية في بحيرة ويست، وهي تجربة بيئية تُنظم بالتعاون مع جمعية الطيور البرية في تشجيانغ. لكنني قررت أن أستكشف كنز هانغتشو المخفي الآخر: حقول شاي لونغجينغ التي تشكل شهادة حية على الحرفة الصينية القديمة لصناعة الشاي.
تُعد مزارع شاي لونغجينغ، التي تتدرج عبر التلال الخضراء، من أعرق مناطق زراعة الشاي في العالم. من دون عناء، أجد نفسي بين المزارعين، أقطف الأوراق الرقيقة وأملأ سلتي المصنوعة من الخوص بسرعة. أساعد بعد ذلك في تحميص هذه الأوراق يدويًا في أوانٍ حديدية صغيرة، وبمرور الوقت، أغوص أكثر في الفن الاحتفالي لإعداد الشاي.
بحلول المساء، أعود لتناول العشاء داخل الفندق في مطعم Jin Sha الحائز نجمة ميشلان، وحيث كل وجبة تكرّم المطبخ المحلي في هانغتشو ولكن بلمسة عصرية. وبالرغم من أني كنت أتطلع لتذوق الدجاج المقرمش الأسطوري الذي يشتهر به المطعم، إلا أن أكثر ما أمتعني كان حلوى كريم بروليه بنكهة شاي لونغجينغ التي اختتمت بها تجربتي قبل أن أعود أدراجي إلى غرفتي لأتأمل في القمر يتلألأ فوق البحيرة، ويغطي المعابد في الأفق بنور فضي.
Ken Seet
في مطعم Jin Sha الحائز نجمة ميشلان، كل وجبة تكرّم المطبخ المحلي في هانغتشو
الحياة في وسط المدينة
في ختام رحلتي الساحرة في الصين، أنطلق بالسيارة مرة أخرى، وفي أقل من عشر دقائق أجد نفسي أرفع رأسي لأرى قمة فندق فورسيزونز هانغتشو في مركز هانغتشو Four Seasons Hangzhou at Hangzhou Centre. على غير ما كان عليه الحال في إقامتي السابقة، يشمخ هذا الفندق فوق حي وولين المركزي للأعمال، كأنه صاروخ زجاجي يتجه نحو السحب.
يتجلى هذا الفندق الجديد تمامًا مثل ملاذ شاهق صيغت معالمه من الرخام المتلألئ، والحرير الفاخر، والبلور النقي. من جناحي الفسيح للغاية، تستأثر بناظريّ إطلالة بزاوية 270 درجة على القناة الكبرى التي تنسدل مثل شريط فضي، وبحيرة ويست التي تتلألأ في الأفق.
وبما أن الفندق يقف على ضفاف القناة الكبرى المدرجة على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، أستيقظ مبكرًا لأستقل القارب في رحلة عبر الممر المائي القديم، ما يتيح لي الاستمتاع بالمعالم التاريخية والجسور القديمة، وفهم ثقافة النقل المائي التقليدية في الصين. ومع انسياب القارب فوق المياه الخضراء المكسوة بالطحالب، أستطلع الحياة اليومية في هانغتشو: أفراد يحتشدون عند المتاجر القديمة التي تحوّلت إلى محال صغيرة لبيع الطعام، وكبار في السن يشاركون في دروس الرقص الجماعي في الهواء الطلق، وجدات يصطحبن الأطفال في جلسة تمدد صباحية.
Ken Seet
يشمخ فندق فورسيزونز هانغتشو في مركز هانغتشو فوق حي وولين المركزي للأعمال، كأنه صاروخ زجاجي يتجه نحو السحب
لاحقًا، أتجول في معلم التسوق الشهير، برج هانغتشو المُدرج على التلال الخضراء، حيث تصطف على امتداد الممرات الرخامية متاجر كبرى الدور العالمية لتعكس الثقة بهانغتشو الجديدة، عالمية الجذور وأنيقة الطابع. هنا أيضًا يمكن لهواة الفنون أن يثروا ذائقتهم في متحف تشجيانغ للفنون، حيث تُعيد المعارض المعاصرة تفسير الجماليات الصينية.
في اليوم التالي، كان الوقت مثاليًا لتجربة المجلس The Lounge في الفندق، حيث ينكشف الخريف بوصفه فنًا حيًا. فتجربة الشاي بعد الظهيرة Golden Paper Dream Afternoon Tea، التي تُنظّم بالتعاون مع خبير محلي في فن طي الورق، تشبه لوحة عرض مصغرة: حلوى على شكل نحلات، وقطع من الجيلي بطعم زهرة العبقة، ولقيمات من الكمأة والفطر، جميعها مصفوفة مثل تماثيل مصغرة. كل طية من الورق وكل نكهة من المعجنات تعكس نبض الإبداع في المدينة، حيث تتشابك الحرفية والثقافة والفخامة الحديثة.
Ken Seet
يحتضن الفندق حجرات خاصة لتجارب الطعام الحصرية، استُلهمت أسماؤها من الفنون الصينية الأربعة
في المساء، أختبر جرعة إضافية من الإبداعات القابلة للأكل في مطعم Song الصيني الحائز نجمة ميشلان، وحيث كشف الطاهي التنفيذي نيل زينغ عن قائمة للخريف بعنوان "حصاد الجبال والبحار، نكهات نينغبو" شملت أطباقًا مبتكرة مثل الروبيان البري المقدّم مع صلصة الثوم والفلفل الحار، المعزّز بزيت litsea cubeba والكرفس، والمطهو بالطرق التقليدية. بدت الأطباق مثل درس متقن في المذاقات والتوليفات، كفيل بأن يرفع سقف معايير المطبخ الصيني في كل مكان.
ممتلئة المعدة والقلب، أعود إلى جناحي لأغوص في واحة هادئة معلّقة بين أفق المدينة والسماء. وإذ تهدأ حواسي، أتأمل مرة أخرى القمر الصيني النيّر فوق بحيرة ويست، وأفق هانغتشو المتلألئ بالأنوار.




![أوليس ناردين تحتفل بمرور 75 عامًا على تأسيس شركة أحمد صديقي بإطلاق ساعة Diver [AIR] 75th Anniversary Seddiqi Edition](/sites/default/files/styles/single_article_900_x_493/public/2025-11/Copy20SDQ_110925_24_1x1.jpg)
