ظلّت مايكلينا ووتيير واحدة من أكثر الأسماء غموضًا في تاريخ الفن الأوروبي؛ فنانة بلا أثر تقريبًا، بلا لوحات مشهورة ولا سيرة مكتملة، مجرد إشارات متفرقة لا تكشف سوى القليل. حتى تاريخ ميلادها غامض ويراوح بين عام 1604 أو بعده بعقد كامل في 1614، لتظل حياتها لغزًا بلا إجابة.
عودة مايكلينا إلى الضوء
وفي عام 1993، وفيما كانت المؤرخة البلجيكية كاتلين فان دير ستيجيلن تبحث في مستودعات متحف الفن التاريخي بفيينا عن لوحة تُنسب لأنطوني فان ديك، لاحت أمامها لوحة ضخمة، تبلغ تسع أقدام ارتفاعًا واثنتي عشر قدمًا عرضًا، عمل هائل لا يحمل توقيعًا مألوفًا. اقتربت بدهشة، حتى قال لها أحد القائمين: "لا نعرف عنها الكثير، لكن هذه اللوحة من إبداع امرأة".
واليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود على ذلك الاكتشاف المصيري في الممرات المغبرة للمتحف، تعود مايكلينا ووتيير إلى دائرة الضوء، في المؤسسة نفسها التي كانت على وشك أن تُنسى فيها. فقد افتُتح أخيرًا في 30 من سبتمبر 2025 معرض بعنوان Michaelina Wautier Painter (مايكلينا ووتيير، الرسامة)، في متحف كونست هيتوريسشس Kunsthistorisches في فيينا، ومن المقرر أن يستمر حتى 22 فبراير 2026، وهو أول معرض رئيس لأعمال هذه الفنانة التي خرجت من الظل لتستعيد مكانتها المستحقة.
المعرض المهيب يضم 29 لوحة ورسمًا واحدًا، إلى جانب مواد نادرة، في وقت لا يُعرف فيه سوى نحو 40 عملاً للفنانة حتى الآن. تولت جيرلينده جروبر، أمينة قسم اللوحات الفلمنكية، تنسيق المعرض، بالتعاون مع فان دير ستيجيلن التي كرّست عامين كاملين للتحضير لهذا الحدث. ومن المقرر أن تنتقل نسخة من المعرض إلى الأكاديمية الملكية في لندن عام 2026، لتواصل رحلة إعادة اكتشاف هذه الموهبة الفريدة.
هذا الاهتمام انعكس أيضًا على سوق الفن، إذ ارتفعت أسعار أعمالها النادرة بشكل لافت في المزادات. ففي عام 2019، بيعت لوحتها A Garland of Flowers, Suspended Between Two Animal Skulls, a Dragonfly Above (إكليل من الزهور مع جمجمتي حيوان، وذبابة اليعسوب) في مزاد سوذبيز لأعمال الرسامين الرئيسين بأكثر من 470,000 دولار أمريكي، بعد أن كانت قد بيعت عام 1998 بحوالي 15,900 دولار فقط. إنها قفزة مذهلة تؤكد أن مايكلينا ووتيير لم تعد مجرد اسم غامض، بل أصبحت رمزًا يعيد تشكيل تاريخ الفن الفلمنكي.
Sotheby’s
روائع مايكلينا في قلب المعرض
كانت مايكلينا ووتيير صاحبة تنوع استثنائي في أعمالها؛ فقد رسمت البورتريه، والطبيعة الصامتة الزهرية، والمشاهد اليومية، حتى اللوحات التاريخية التي كانت نادرة للغاية بالنسبة للنساء في عصرها. هذا النوع الأخير كان يتطلب دراسة النماذج الحية، وهو أمر كانت النساء محرومات منه، ما يجعل إنجازها أكثر جرأة وتفردًا.
أما أعمالها الموقعة، فكانت تحمل عبارة لاتينية واضحة: Michaelina Wautier fecit، أي مايكلينا ووتيير صنعت هذا، وهو توقيع يوحي بتدريب مهني رفيع المستوى، ويعكس ثقة فنانة كانت تقتحم مجالاً يهيمن عليه الرجال.
من أبرز الأعمال في المعرض لوحة Self‑Portrait (بورتريه ذاتي)، التي أبدعتها مايكلينا في مطلع أربعينيات القرن السابع عشر. هذه القطعة ظلت منسوبة لجنتيليتشي لعقود، قبل أن يُعاد نسبها إلى ووتيير عام 2013. في اللوحة، تظهر الفنانة بثقة لافتة، مرتدية ثوبًا أسود بياقة دانتيل، تتلألأ حول عنقها ومعصمها حبات اللؤلؤ، فيما تحدّق مباشرة في عين المشاهد، ممسكة بالفرشاة ولوحة الألوان.
Museum of Fine Arts, Boston
كما يضم المعرض لوحة Two Boys Blowing Bubbles (صَبيان ينفخان الفقاعات) من مجموعة متحف سياتل للفنون، وقد نُسبت طويلاً إلى جاكوب فان أوست. هذا الالتباس لم يكن مصادفة، بل نتيجة ندرة الوثائق، والفجوة الزمنية بين آخر أعمالها ووفاتها، إلى جانب غياب النسخ المطبوعة التي كانت وسيلة شائعة لترويج الفنانين آنذاك. لكن السبب الأعمق يكمن في التحيز التاريخي ضد الفنانات، الذي جعل أعمالهن عرضة للتجاهل أو النسبة الخاطئة لغيرهن.
Seattle Art Museum
وللمرة الأولى، يُعرض عمل فريد لمايكلينا ووتيير بعنوان The Five Senses (الحواس الخمس)، وهو سلسلة من اللوحات التي تجسد خمسة صبية يمثلون حواس الإنسان: البصر، السمع، الشم، التذوق، واللمس. وتُعد هذه المجموعة من أبرز ابتكاراتها الفنية.
Museum of Fine Arts, Boston
بدلاً من التصوير المثالي للحواس كما كان شائعًا في عصرها، اختارت ووتيير أن تقدم مشاهد واقعية نابضة بالحياة، تُظهر الأطفال وهم يختبرون العالم ببراءة وطرافة. ففي لوحة الشم، يمسك صبي أنفه متأففًا فيما يحمل بيضة مقشرة فاسدة، وفي لوحة اللمس، يبرز الطين تحت أظافر الصبي في إشارة إلى التجربة الحسية المباشرة. وهذا النهج يختلف جذريًا عن الصور المثالية التي كانت تهيمن على الفن آنذاك.




