حوّل سطح أحد المباني إلى منحدر للتزلج، وبنى هرما في مانهاتن،

ولوى ناطحات شاهقة على هيئة مثقاب، وشيد متحفا مستلهما لعبة الليغو.

إنه المعماري بياركيه إنغلز. لعل هذا ما يفسر كون الرجل لا يستطيع البقاء ساكنا.

 

عندما قابلت بياركيه إنغلز في كوبنهاغن في مبنى شركته التقليدي، المشيد من الطوب الأحمر على نحو مستغرب، كان المهندس المعماري يُشع طاقة كأنه نمر مُتوثب، على الرغم من أنه كان قد هبط في الحال من الطائرة قادمًا من المكسيك. لا تشير ملامحه إلى أدنى إرهاق بسبب وعثاء السفر وهو يجلس لتجاذب أطراف الحديث، أو على الأقل يحاول ذلك. يبدو إنغلز دائم التململ وهو جالس على كرسيه وكأنه يتوق جاهدًا للنهوض وذَرع الغرفة جيئة وذهابًا، أو ربما للقيام ببعض تمارين الجمباز. مع هذا فإن ذاك التململ سيغدو ضروريًا لإنجاز مجموعة المشاريع المتميزة قيد التنفيذ حاليًا، وهي كثيرة جدًا، في الواقع، ما يعني أن شركته ذات الأربعة عشر عامًا ستضاعف إنتاجها الإجمالي في الثمانية عشر شهرًا المقبلة.

 

مبنى ليغو هاوس في بيلوند في الدنمارك.

مبنى ليغو هاوس في بيلوند في الدنمارك.

 

تشمل المشاريع رفيعة الشأن التي كُلفت بها شركة بياركيه إنغلز غروب «BIG» معلمًا جديدًا من معالم الشانزليزيه يخص غاليري لافاييت، ومتحف أوديمار بيغيه الجديد للساعات في سويسرا، ومجمعين لشركة غوغل في كاليفورنيا (أحدهما بالتعاون مع المصمم توماس هيذرويك)، بالإضافة إلى عدد من الأبراج السكنية الشاهقة في مانهاتن. لكن مع ذلك، يبدو أن بياركيه غير متخوف، وليس تحت ضغط عمل بسبب دفقة الالتزامات هذه، بل على النقيض، يظهر عليه أنه يستعذب ذلك. يتحدث بياركيه، فيما ينفش شعره الأشعث المزين ببراعة، يشبه تسريحة شعر كالفن وهوبز، بعبارات بليغة، تتخللها وقفات متفاوتة توحي بأنه يحدث أو يراجع ما يدور في خلده وهو يتكلم. يقول بياريكه: «ينبغي لكل مشروع ننفذه أن يُبرِز للعيان كيف أن العالم يتغير، أو أنه قد تغير حقًا.» ثم يتوقف قليلاً ويقول: «ثم تُعالج العواقب المترتبة، والنزاعات، والمشاكل والإمكانات المتاحة.»

 

في الواقع، يدفع بياركيه نفسه، مع كل مشروع جديد، صوب الابتكار مجددًا. تكسر تصاميمه القواعد دون وجل، وتتفنن في استخدام علوم الهندسة والمواد بغية استحداث عالم إنشاءات جدير بإبداعات القرن الحادي والعشرين، سواء أكانت الأسطح المنحدرة الخاصة بمبنى Sunnyvale التابع لشركة غوغل الذي سيستخدم أيضًا استخدامًا مزدوجًا بوصفه منحدرات للمشي أو الدحرجة، أم كانت مساكن هوالين في تايوان التي تحاكي هيئة الجبال القريبة منها (محاكاة تامة تشمل حتى الواجهات المنحدرة المكسوة بالخضرة). إن كان لدى إنغلز بصمة يتميز بها فهي مجافاة التوقعات.

 

 

تعد كل من الهمة العالية والشجاعة الجسورة أبرز صفات هذا الدنماركي البالغ من العمر 45 عاما، على الأقل بحسب أولئك الذين يعرفونه جيدًا. يقول هانز أولريخ أوبريست، وهو نصير قديم له والمدير الفني لمعارض سربنتين في لندن: «إن ما استرعى انتباهي، منذ الانطلاقة الأولى، هو طاقته المذهلة. حتى في أثناء لقائي الأول به، قبل أن ينشئ شركته بأمد طويل، كانت فكرة التطلع إلى الصدارة موجودة دائمًا.»

 

 إن «الطاقة» كلمة جوهرية لبياركيه، بينما «كبير» هي كلمة أخرى. إن الأمر ليس في اسم شركته حصرًا، مع أن إنغلز الميال لأسلوب التورية مولع، على نهج طلاب المدارس، بإعادة توصيف مدى سعادته بسبب أصله الدنماركي. يقول وهو يهز كتفيه: «في نهاية الأمر، لا أمانع من تكرار سرد القصة نفسها.» إن مقاربته تجاه كل شيء أن يكون الأكبر، والأكثر جرأة، والأرحب مطلقًا. إنها أيضا لجرعة صادمة من التبختر في بلد عُرِف بالمساواة ووازع الانضباط، والامتثال الهادئ المنضوي عُرْفًا ضمن منظومة الانضباط السلوكي. حينما طلب منه توضيح هذه الفكرة، لجأ إلى استخدام استعارة محببة، وإن كانت مغلوطة: إنها أداة ضبط الحرارة. يقول إنغلز بثقة وهو يبتسم، على الرغم من أنه على خطأ (فقد ابتكرت أصلًا في اسكتلندا)، نظرًا لقدرتها على تنظيم درجة الحرارة والحفاظ عليها، مبقيةً كل شيء عند المستوى نفسه. يقول: «إن منظومة الانضباط السلوكي هي أداة قياس اجتماعية تبقي جميع الناس على قدم المساواة.» يتوقف إنغلز قليلا ثم يقول: «أفترض أني كنت سأصاب برهاب الأماكن المغلقة فيما لو بقيت في كوبنهاغن.»

 

منظر جوي لمبنى Via 57 West في نيويورك

منظر جوي لمبنى Via 57 West في نيويورك.

 

لا شيء في حياته المبكرة كان يوحي بأن إنغلز، الابن الأوسط لطبيبة أسنان ولمهندس، قد يغادر الدنمارك، فما بالك أن يغدو مهندسًا معماريًا عبقريًا على مستوى العالم. لعب إنغلز، الذي نشأ في منزل متواضع من طابق واحد في ضواحي العاصمة، بمكعبات الليغو شأنه شأن أي فتى دنماركي (على الرغم من أن إنغلز، على عكس أقرانه، أفلح لاحقًا في تصميم متحف ليغو هاوس التفاعلي الجديد، الذي افتتح في مقر الشركة عند ساحل الدنمارك الغربي منذ عامين). لم يكن هدفه المبكر يتضمن الهندسة المعمارية. كان مهووسًا إلى حد الانغماس التام في القصص المصورة. يقول إنغلز: «لم يكن الأمر متعلقًا بأبطال خارقين على الإطلاق، بل بالأوروبيين، وخصوصًا الإيطاليين، ورواياتهم الحافلة برسومات مثيرة للغاية.» يقول إنغلز مبتسمًا: «كنت أرسمها بنفسي.» من المؤكد، أن صفة الهوس الصبيانية صحبته حتى مرحلة البلوغ، سواء كان ذلك عندما حث صديقه نيكولاي كوستر- والداو، الذي أدى دور جيمي لانيستر في مسلسل لعبة العروش، على توفير دور ممثل ثانوي له في المسلسل أو عندما دافع بحماس عن ثلاثية فيلم ماتريكس بأكملها. يقول وهو شبه جاد: «أدافع كثيرًا عن الجزأين الأخيرين. أن تصف الأجزاء التالية بالفشل فهو سلوك متوقع للغاية، لكنها ناجحة حقًا. إن عقلك لا يمكن أن يختبر الروعة نفسها بالأسلوب نفسه مرتين أو ثلاثًا.» مع أن إنغلز لم يسع للعمل الاحترافي في المصورات الهزلية، إلا أنه حقق حلم طفولته في عام 2009، بنشر كتاب مصور باسم «Yes Is More» وهو صيغة معدلة لمقولة «less is more» للمهندس المعماري ميس فان دي رو.

 

جناح المعرض الدنماركي في إكسبو شانغهاي

جناح المعرض الدنماركي في إكسبو شانغهاي.

 

اكتشف إنغلز، في أثناء الدراسة في الأكاديمية الملكية الدنمركية للفنون الجميلة في كوبنهاغن، الهندسة المعمارية، في فترة تدريب قضاها في شركة OMA الخاصة بالمهندس المعماري رِم كوولهاس. أدى التدريب إلى حصوله على وظيفة بدوام كامل بعد التخرج تحت إشراف كوولهاس، حيث التقى أوبريست هناك وإنغلز لأول مرة، عندما كان المشرف المنسق ذو الباع الطويل يعمل بالتعاون مع كوولهاس على تأليف كتاب مع مؤسس شركة OMA. يستذكر أوبريست الشركة قائلاً: «كان ذاك المكتب في وضع أشبه بلوحة لوارهول فحواها الهندسة المعمارية، سببه وجود شباب كُثُر متعاونين مدهشين ممن سيصبحون لاحقًا مهندسين مرموقين». خَرَّجَت الشركة عددًا غفيرًا من مواهب جديدة مميزة، بداية من فرناندو روميرو حتى جوشوا برنس- راموس، ما أكسبهم لقب كوول غانغ، أو لقب بيبي ريمز. يقول أوبريست: «إنه حتى بين هذه الوفرة من العقول الموهوبة، تألق بياركيه منذ أول محادثة أجريتها معه.» إنها، إلى حد ما، قوة شخصيته وحجمها، التي تتحدى رصانة الشعور العقلاني المعلن مما هو شائع بين المهندسين المعماريين. ومرد ذلك أيضًا إلى جرأة إنغلز، إذ لم يستمر المقام طويلاً لدى شركة OMA، بل غامر بالعمل منفردًا وهو فتى غض في السابعة والعشرين قبل تأسيس شركة BIG بأربع سنوات في عام 2005. إنها خطوة جريئة في أي صناعة لكنها جبارة في مجال الهندسة المعمارية، حيث حقق كثير من المميزين إنجازاتهم وهم في الخمسينيات من عمرهم أو بعدها.

 

مع ذلك، بدت شركة BIG واعدة، والسبب يعود في جزء كبير إلى فطرة إنغلز ونزعته إلى الحماسة. لّما عانت شركته الناشئة من شُح العمل، عمد إلى نشر جميع تصاميمه على موقع الشركة الإلكتروني، سواء أكانت تصورًا لفكرة ما، أم نموذجًا فاشلاً جرى الاشتراك به ضمن إحدى المنافسات، أم اقتراحًا يخص زبونًا، بهدف المساعدة على تحفيز الاهتمام وللإيحاء، وإن كان على نحو غير مباشر، بأن حجم شركته كان أكبر مما كان عليه. لم يعد إنغلز في حاجة إلى التظاهر الآن: فلديه في الوقت الحالي 500 موظف أو نحو ذلك، منتشرين بين هذا المكتب في الدنمارك ومكاتب أخرى في لندن، وبرشلونة وحي دامبو  في بروكلين. لا تزال الشركة تقوم بتحميل التصاميم على الموقع الإلكتروني بشفافية ملحوظة، على الرغم من أن زوار مكتب كوبنهاغن لا تتاح لهم ذات المكرمة الإبداعية، إذ تحذر لافتات صارمة الزائرين من التقاط صور من داخل المبنى ونشرها.

 

مجمع غروف في غراند باي في ميامي.

مجمع غروف في غراند باي في ميامي.

 

إن حظر النشر أمر مثير للسخرية على وجه الخصوص كون إنغلز مستخدمًا نهمًا لتطبيق إنستغرام، ويشارك جمهور متتبعيه، البالغ 653 ألف متتبع، صورًا تخص الدائرة المقربة منه التي تضم، بالإضافة إلى الممثل كوستر- والداو، الطاهي رينيه ريدزيبي مالك مطعم نوما، وتخص عمله وحياته الشخصية، مثل رحلات سنوية إلى مهرجان الرجل المحترق، حيث التقى وشريكته المهندسة المعمارية الإسبانية روث أوتيرو  (التي تتسم بطباع لاتينية أكثر، وهي أكثر تنوعا مقارنة بي، وهو شيء أود الاستزادة منه). إن الثنائي والدان لابن صغير، يدعى دارون. بينما يسخر بعض المراقبين من ترويجه الصريح لنفسه، يستنكر آخرون، من ضمنهم صديقته وأمينة متحف الفن الحديث باولا أنتونيللي، مثل هذا الافتراء. تقول: «إنه محاور رائع ، ولديه قدر عظيم من الفضول، والحماس والمغامرة، يمكنك رصد ذلك من حسابه على إنستغرام. إنه ماهر في فعل ذلك، إذ بمقدوره سبر مدى الاختلاف الذي طرأ على الأماكن العامة والخاصة.»

 

إن الجمع بين الموهبة والحماسة أكسب إنغلز صفقات عدة مرموقة في بداية مسيرته المهنية، مع أن غالبها كان محليًا في الدنمارك. شكّل عام 2010 نقطة تحول لـشركته، ولإنغلز نفسه. حينما انتقل إلى نيويورك للعمل بدوام كامل، كاسرًا أغلال منظومة الانضباط السلوكي ليلحق بركب عالم الأعمال في سوق أرحب كثيرًا، في الوقت نفسه، وخلال معرض شنغهاي إكسبو، عرضت الدنمارك لأول مرة جناحًا رائعًا تحت إشرافه. استطاع إنغلز، كونه بطبعه حلو المعشر وقوي العلاقات، أن ينتزع الحق في استعارة التمثال الأصلي للحورية الصغيرة Little Mermaid من موقعه عند الواجهة المائية لكوبنهاغن وأن يضعه في الصين لأشهر عدة. ملأ إنغلز بركة بماء جُلِب من المرفأ في موطنه، ومن ثم ابتكر متتالية مسارات ملتوية لركوب الدراجات حول البركة، متيحًا للزوار بذلك إما المشي على الأقدام أو استعارة إحدى الدراجات المتوافرة في الجناح للدوران حولها، على نسق مضمار الدراجات، ما شكل إيماءة أخرى لمدينة كوبنهاغن المهووسة بركوب الدراجات. يقول إنغل: «كان الأمر أشبه بنقل تمثال الحرية لستة أشهر، لذا عمدنا إلى تركيب آلة تصوير للمراقبة في الجناح، كانت تبث صورة حية مباشرة عبر شاشة عملاقة نُصبت عاليًا حيث اعتادت الحورية أن تجلس». حصد إنغلز جراء ذاك المشروع، الذي نال استحسانًا على نطاق واسع، أوسمة تقديرية، وفاز بتكليفات مشاريع، ودعوات استضافة، تشمل حضور معرض بينالي البندقية للهندسة المعمارية في العام ذاته. في أثناء حضوره حفل عشاء هناك، وُضِع طَبْع شخصه المتفائل على المحك. إذ قيل إن حماسته الانفعالية حول الإمكانات المتوافرة للبشرية هوجمت من زملائه الضيوف، ممن عُدت نظرتهم للمستقبل أكثر سلبية. كانت لحظة نادرة عندما خرج عن طوره: يُقال إنه غادر حفل العشاء على نحو عاصف، صافقًا الباب خلفه بعنف، بعد أن صاح بحدة أنه يجب على الآخرين ألا يغادروا حتى يقرأ كل واحد منهم بعض الأعداد من مجلة Wired (ومن ثم، من الناحية النظرية، الاقتناع بوجهة نظره تجاه عالم متآلف مع المستقبل). هل جرت تلك الحادثة حقًا؟ إنه يتفادى السؤال بدهاء رجل محنك، ممسكًا بهاتفه بدلاً من ذلك لعرض مقطع فيديو ما. يقول: «شاهد هذا.» عند الإلحاح عليه مجددًا، يضحك إنغلز. يقول: «لست متأكدًا. لا أستطيع قول إنني أذكر، لكن الأمر يبعث على الضحك.»

 

مبنى VM Houses في كوبنهاغن

مبنى VM Houses في كوبنهاغن.

 

حظيت بعض الدعوات الأخرى بترحيب أكثر، من ضمنها واحدة من لدن نصيره القديم أوبريست الذي تعاقد مع بياركيه عام 2016 لتشييد الجناح الصيفي لصالة معارض سربنتين. كان أوبريست يكلف، في كل عام، مهندسًا معماريًا بمهمة إنجاز مبنى أسطوري التصميم في موقع ما، فكان أن نال إنغلز شرف اللحاق بركب الكبار أمثال فرانك غيري وزها حديد، وصاحب عمله القديم كوولهاس. أما تصميمه، الذي يصفه أمين المعرض بأنه «أحد أكثر الأجنحة إثارة وروعة ضمن السلسلة»، فقد أبدع من طوب ألياف زجاجية، مرصوص ببراعة ليتخذ هيئة بناء متغاير الأشكال يشبه جدار تسلق إبداعيًا. يظهر حال رؤيته من زوايا مختلفة، إما كامدًا وإما شفافًا، ثنائي الأبعاد أو ثلاثيها. يقول أوبريست: «إن لديه قوة إقناع مذهلة Force de conviction، كما يقولون في اللغة الفرنسية، ولديه القدرة على التفاوض، لأنه متحدث بارع جدًا، ومستمع جيد للغاية.»

 

منذ ذلك الحين، تعاظم علو إنغلز على نحو أسرع، ولا يوجد مكان آخر يمكن أن تحظى شركته برواج هائل فيه مثل نيويورك. إذ إن الطفرة في مجال البناء هناك في أعقاب إدارته لنيويورك كانت فرصة لازدهار كثير من المهندسين المعماريين. وقد بادر إنغلز، اليقظ لترصد الفرص على الدوام، إلى طرح خدماته مباشرة على زبائن مأمولين، بما يتصف به من حماسة متقدة.

 

مبنى متحف أوديمار بيغيه.

مبنى متحف أوديمار بيغيه.

 

أدت ولادة ابنه، أواخر العام الماضي، إلى جعله أكثر تعلقًا بكوبنهاغن، لكن بقيت نيويورك محور أعماله، ومكانًا يقصده بانتظام. أكملت شركته حقًا تنفيذ مبنى واحد في مانهاتن، إنه المجمع السكني هرمي الشكل Via 57 West المكون من 44 طابقًا، ولديها أبراج عدة أخرى قيد التنفيذ. يقول إنغلز، متطلعًا إلى متعة التحديات الخاصة الناجمة من العمل ضمن نيويورك: «لو كانت نيويورك دولة لاستأثرت بغالب مشاريعنا. إذ عندما تتفكر في نيويورك، تدرك أنها مدينة متكاملة حقًا، تحظى بأفق تحده جبال من صنع الإنسان، لكنْ هناك كثير من الجيوب غير المستغلة. هناك كثير من الطاقة، لكنها في غاية الانضباط، إلى أبعد حد. إذا أدمج ذلك مع القيمة العقارية القصوى فستجد أن بعض الأشياء المعينة تصبح فجأة ممكنة على الرغم من أنها قد تكون غير قابلة للتنفيذ في مكان آخر.»

 

 انظر إلى برجي إكس آي XI، على سبيل المثال، هما زوج من الأبراج قيد الإنشاء في تشيلسي يشبه زوجين راقصين، ملتفين متقابلين في دلال بينما يحلقان عاليًا في السماء. إن التصميم يزيد من المساحة الأرضية دون المساومة على الإطلالات. يتذكر زيل فيلدمان مالك مجموعة HFZ، المطور العقاري المشرف على المشروع، لقاءه بإنغلز على الغداء لمناقشة ذلك، إذ مع انتهاء الوجبة، كان المهندس المعماري قد خط تصورًا أوليًا على منديل ورقي. يقول: «إنه ليس مغرورًا، لديه طاقة شبه خارقة. إنه يعمد إلى التصميم بدءًا من الداخل باتجاه الخارج، وليس من الخارج باتجاه الداخل. إنه لا يصمم مباني جميلة معماريا لا يتأتى لك أن تعيش فيها.»

 

جناح معارض سربنتين في لندن من تصميم إنغلز.

جناح معارض سربنتين في لندن من تصميم إنغلز.

 

استمتع إنغلز بالتحدي القائم في تصميم تلك الفكرة على وجه الخصوص. يقول: «في حالة برجي إكس آي، غدا التصميم حوارًا بين هذين المبنيين ومحيطهما، فقد جرى تنظيمه ليستوفي جل أنواع متطلبات منطقة هاي لاين: أي الحد الأدنى للمسافة، والحد الأقصى لأطوال الواجهات، وأشياء من هذا القبيل. لقد كان الأمر حقًا أشبه بإعادة ابتكار جذري (للموقع) أكثر من كونه اقتراحًا حقيقيًا.»

 

يُعد متحف أوديمار بيغيه في سويسرا نموذجًا آخر قيد التنفيذ من عشرات المباني وغيرها من شركة BIG. تعاون مايكل فريدمان، مؤرخ أوديمار بيغيه، تعاونًا وثيقًا مع إنغلز فيما يخص المشروع، الذي هو جناح غائر جزئيًا يتمدد، على نحو نصف مخفي، ضمن مناظر طبيعية حول وادي فاليه دي جو. يستمتع فريدمان بجدية المهندس المعماري وحماسته في الاجتماعات، حيث غالبًا ما يدير كرسيه، على نسق أسلوب آرثر فونزاريللي، ويستوعب مداخلات الآخرين. يقول فريدمان عنه: «إنه لا يتورع عن التصرف على سجيته، هذا ما تعلمته منه. إنه لا يريدك إن دخلت مرة واحدة إلى أي من أماكنه أن تنبهر جراء ذلك. بل يريد منك أن تنبهر كلما دخلت وإن كان للمرة الخمس مئة.» فيما يتعلق بإنغلز، فهو يرى أوجه تطابق بين عمل أوديمار بيغيه وعمله. يقول إنغلز: «اليوم، يدور العالم بأسره حول مفهوم المعدات والبرمجيات الحاسوبية، لكن المعدات هي حاوية فقط، انظر إلى أي (جهاز) محمول، إنها جميعًا الشيء نفسه في الوقت الحاضر، أليس كذلك؟ أما المحتوى، الشيء المهم، فهو البرمجيات. لكن هذا ليس في الهندسة المعمارية أو في صناعة الساعات، حيث الشكل هو المضمون. وكلمة «إبداع الشكل» هي التعبير الدنماركي المرادف لكلمة تصميم.»

 

مبنى فانكوفر هاوس.

مبنى فانكوفر هاوس.

 

على هذا، فإن مرجع ممارسات إنغلز يشتمل الآن على مكاتب لا تحصى، ومبان عامة، وأبراج سكنية، ومجمعات ثقافية، لكن هناك قليلا من منازل خاصة ضمن سجل شركة BIG. لماذا؟  يقول إنغلز على نحو واقعي: «عندما بدأت، لم يكن لدي أي أصدقاء موسرين في الدنمارك ليكون باستطاعتي تصميم منزل لهم، على هذا انتهى بنا المطاف إلى ممارسة جميع أنواع الأشياء الأخرى». بالطبع، انهالت عليه العروض إذ ذاع صيته، ورفض معظمها، إذ تبين أن المالك المحتمل غير راغب في الالتزام بالكامل بالمشروع بحسب ما احتاج إنغلز. يقول: «إن تنفيذ منزل لشخص ما هو هندسة معمارية بأسلوب فن التصوير الشخصي، فهي تلتقط جوهر الموضوع، وليس المظهر فقط، بل شخصيتهم، لذلك ينبغي لهم قضاء بعض الوقت معنا». سيبحث إنغلز تكليفات مستقبلية، لكن حصرًا من زبائن على استعداد للانخراط والاستكشاف معًا. يقول: «لا بد أن يحقق التصميم حلم أحدهم، ليس حلمي، بالضرورة، بل حلم شخص ما. إذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا علينا أن نهتم حتى بتنفيذه؟». على أي حال، يطلق إنغلز العنان لفكره الإبداعي فيما يتعلق بالمنازل الخاصة ضمن رسومات منظور تصاميمه التي تعرض فكرة لم تُطرق من قبل على الإطلاق تخص مجمعًا في الكاريبي: هو مجمع جيد التهوية ومُشرع، بالإمكان إغلاقه مثل علبة صدفية عندما تهدده الأعاصير، فيصبح قلعة منيعة في وجه الأحوال الجوية.

 

الصورتان لكتاب Yes Is More على نسق الروايات المصورة ويبحث في التطور المعماري (دار تاشين Tashcen للنشر).

 

يوجد منزل خاص أنجزه إنغلز حقًا، إنما ليس لسكنى البشر: فقد كان إنغلز هو من نفذ بيت باندا هاوس الجديد في حديقة حيوان كوبنهاغن، حيث سيعيش زوج من دببة الباندا العملاقة في أثناء وجودهم هناك على سبيل الإعارة من الصين، وهي الصفقة التي نالها عقب نجاحه ضمن مشاركته في معرض شانغهاي إكسبو. لا يُعد هذا مشروعه الوحيد الجديد في كوبنهاغن، المكان الذي يبدو جليًا أنه ما انفك تستهويه فرصة العمل فيه. تعمل الآن محطة توليد الكهرباء ذات التصميم الملتوي الموجودة على مشارف المدينة التي تحول النفايات إلى طاقة وتتميز بحديقة لممارسة التزلج على سطحها المتماوج. في واقع الأمر، يسارع إنغلز إلى لقاء رئيس بلدية المدينة هذه الأيام، ويقترح مواصلة الحوار معه في السيارة وهو في طريقه إلى مبنى البلدية، فهو متعدد المهام ومنشغل كالعادة دومًا. قبل أن يهرع إلى الداخل، يتوقف قليلا، ويقول قبيل انصرافه: «لطالما ظهرت بمظهر المغرور وغير المهذب على نقيض طبيعتي.» لكأنها ومضة لافتة عن الشعور بعدم الأمن، وغير منصفة إلى حد بعيد. إن إنغلز، الذي يقطر حماسة وموهبة بالقدر نفسه، هو مزيج يجمع بين كوولهاس، وبي. تي. بارنوم، وبين مراهق ناضج ثاقب الفكر وفطن في إدارة وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا ما قورن بمعظم من يماثله رتبة من المهندسين المعماريين فهو بكل تأكيد لا يعدو كونه فتى في واقع الأمر. يقول أوبريست: «لا تنس أبدًا أنه لا يزال في الأربعينيات من عمره. لقد بدأ من فوره.»


www.big.dk