يسير رجل قبل 4000 سنة في أحد الأدغال ممسكًا برمحه، باحثًا عن طعام عائلته، يفاجئه سبع جائع، فيقرر أن يواجهه! وبعد عراك يصرعه بضربة قاضية. وبينما يهم ليغادر المكان حانت منه التفاتة فإذا بوحش آخر يستعد للانقضاض عليه، فيقرر أن يهرب متسلقًا شجرة لأنه متعب من مقارعة الوحش الأول، وهو دائمًا كذلك أمام خيارين واضحين لا ثالث لهما: إما المواجهة وإما الهرب.
نحن اليوم لا نزال نمتلك أدمغة أجدادنا نفسها! لكننا نتعرض لتعقيدات ومغريات وتأثيرات لم يسبق لهم أن عرفوها. يستحثنا تشابك مجتمعنا الحديث على المواجهة أو الهروب في أنفسنا بشكل متكرر، لكن دون أن نستعمل ذلك كما يجب. فبالرغم من اتساع حدقة العين وازدياد إفراز الأدرينالين وتسارع ضربات القلب لعدة مرات يوميًّا، فإننا لا نهرب دومًا عندما يكون جسمنا مستعدًّا لذلك، كما أننا لا نواجه عندما تكون كامل أعضائنا مستعدة! ومع ذلك فإن جسمنا يجري تحضيره لذلك، وبما أن التحضير لا يستفاد منه، فهو يغدو كمن يطفئ آلة ويشغلها مرارًا.
في عالم اليوم تعقدت العلاقات، زاد الارتهان للصورة المثالية والمكانة الاجتماعية، أصبحت الحاجة أكبر إلى المجاملات، ازدحم الفضاء بنا وبتلك الصورة المثالية التي ندمن تشكيلها عن أنفسنا. وكل ذلك يستحث فينا مزيدًا من الجهد الاجتماعي، ويرفع قابليتنا للقلق والتفكير المفرط، والتعاطي مع المواقف والأحداث بسلبية أكبر. تغيب عنا في أحيان كثيرة صورة أنفسنا التي نعرف، وتغدو الحاجة ملحة إلى مكان يشعرنا بالدفء والاطمئنان، إلى برهة من الزمان نمارس فيها سلوكنا الطبيعي، ونعبر عن مكنوناتنا، بعيدًا عن التصنع والمجاملة وكبت المشاعر.
فكم مرة كان الموقف يستدعي منك مواجهة لتصحيح مسار ما لكنك آثرت فعل العكس لاعتبارات ومحاذير قهرية عديدة -اجتماعية.. تراتبية.. وظيفية.. نفعية- وكم مرة في اليوم تتمنى لو أن لك جناحين فتطير هربًا من جلسة تفرضها عليك التعقيدات نفسها، فإذا كنا لا نمتلك ترف الهروب ولا امتياز المواجهة فلا بد لنا أن نجد تكنيكًا ما للتنفس وجلاء هذا الإجهاد في خضم يوم لا تكاد تمتلك ترتيبه لكثرة المقاطعات.
هل يمكنك أن تغلق جوالك وتستجم لبضعة أيام في جزيرة استوائية مع من تحب؟ هل تمتلك ذلك الترف؟ لا أقصد الجزيرة وإنما إغلاق جوالك لأيام!
الطبيب الأمريكي ذائع الصيت هربرت بنسون أحد مؤسسي المعهد الأمريكي للإجهاد ومؤلف العديد من الكتب حول كيفية التعامل مع الإجهاد، يرى في كتابه "فن الاسترخاء"، أن شعورك بالرغبة في المواجهة تارة وبالهروب تارة أخرى يضاعف إجهاد أعضاء جسدك، ويستدعي ضرورة وجود ما يشبه "استراحة محارب" أو بحسب تعبيره، إيقاف آلة تعمل باستمرار عن العمل قليلاً.
الاسترخاء هو عصارة ما أورده بنسون في كتاب يصفه ديل كارنيجي بالعظيم.. ابحث عن مكان هادئ بلا مقاطعة بلا مشتتات، اجلس على كرسي تستطيع أن تجعل كل عضلات جسمك متحررة، وابدأ بعينيك ثم عضلات وجهك، ثم حرر التشنج في مفاصلك، وأطلق عضلات جسدك واحدة تلو الأخرى.. وبعينين نصف مغمضتين ابدأ تنفسك بشكل طبيعي. وفي زفيرك قل كلمة تختارها قد تكون دعاءً .. صلاة أو أي عبارة تختارها لنفسك.. وعندما تقاطعك الأفكار والالتزامات ادفعها جانبك وركز على تلك الكلمة وأنفاسك.
جرب ذلك لمدة 10 دقائق، "أطفئ المحرك" وستشعر بامتنان عظيم لما فعلت، استلق على الأرض وتقلب كما يتقلب الأطفال وستشعر بشحنة جديدة من الطاقة تبعث في نفسك البهجة وتجدد خلايا جسدك.