في الخريف، يتخفّف العالم من أوزانه كأن الأرض تتدرب على البساطة. تنفصل أوراق الأشجار عن أغصانها بهدوء، ليس لتعلن الفقد، بل لتذكرنا بأن الرحيل قد يكون الوجه الآخر للبقاء. فالأصفر ليس موتًا بل إشراقة أخيرة قبل أن يدخل الضوء في صمته الطويل.
الخريف ليس فصلاً انتقاليًا بين صيف وشتاء فحسب، بل حالة تتيح للروح فسحة للتأمل، وفيه يتعلم الإنسان أن النهاية ليست سقوطًا بل بداية متنكرة بثوب الغياب.
في مقاهي الخريف، يطول الجلوس وتصير الكتب غزيرة المعنى والحوارات أكثر صدقًا.. كل شيء يميل إلى البطء والإنصات إلى الهواء وهو يعبر خفيفًا إلى سماء تغيّر نبرتها وإلى داخل يعلو صوته حين يخفت ضجيج الفصول الأخرى.
تتسلل روحك في هذا الفصل إلى الفنون فيما ألوانه قصيرة العمر تتحول إلى موسيقا حالمة ولوحات تمزج الحنين بالدهشة، وإلى موضة تستعير من أوراقه لغتها الخاصة.. الأقمشة بتدرجات البني والرمادي والعنّابي ليست زينة عابرة، بل صدى صادقًا لمزاجك، ولأناقة هادئة تعرف أن الجمال يزداد قيمة كلما اقترب من الأفول.
هكذا يصبح الخريف أكثر من فصل في تقويم الطبيعة. إنه مرآة تكشف هشاشتنا وعمقنا في آن. يعلّمنا أن البطء حكمة، وأن الفن والأناقة طريقتان للقبض على لحظة زائلة، وأن كل سقوط يحمل في طياته وعدًا بنهضة جديدة.
في الخريف، تسكننا النوستالجيا مثل طيف قديم لا يفارقنا.. فهذا الفصل يفتح أبواب الذاكرة على حين غرة على ذكريات لم نخطط لعودتها، ذكريات تُنهض من غبار السنين رائحة زخات المطر الأولى وهي تلامس التراب، وصدى أجراس المدارس في صباح بعيد، والدفء في مقهى صغير على ناصية مدينة نسينا ملامحها، وصورًا باهتة في ألبوم منسي.. كأنه يقول لنا إن الماضي لا يموت، بل ينام فينا حتى توقظه نفحة هواء باردة أو ورقة صفراء تهوي أمامنا.
يوقظ الخريف الحنين لكنه لا يعيده، بل يتركه يتجوّل فينا ببطء مثل ظل طويل يرافقنا أينما مشينا.. الحنين في الخريف ليس ندمًا ولا رغبة في الرجوع، بل هو مرآة نرى فيها أنفسنا كما كنا وكما صرنا، ونكتشف أن الذكريات ليست أوطانًا نعود إليها، بل منازل داخلية نسكنها حين تضيق بنا الحياة.