شهدت العاصمة الفرنسية باريس إعادة افتتاح القصر الكبير Grand Palais بعد الانتهاء من أكبر عملية ترميم في تاريخه الممتد لأكثر من 120 عامًا، في مشروع معماري دقيق قاد المكتب الفرنسي للهندسة المعمارية Chatillon Architectes، المعروف بحرفيته العالية في إحياء المباني التاريخية وإعادة صياغتها بحسّ معاصر، يجمع بين الإخلاص للهوية الأصلية والابتكار الجمالي.

طيلة العقود الماضية، ظلّ القصر الكبير فضاءً نابضًا بالحياة، يستضيف أعرق المعارض الفنية والعلمية، ويؤوي فعاليات ثقافية طبعت ذاكرة المدينة. على أن التحديات التقنية وتغيّر احتياجات الجمهور فرضت الحاجة إلى مشروع ترميم شامل.

فلسفة معمارية بروح المستقبل

اعتمد فريق شاتيون للهندسة المعمارية على أكثر من 3,000 مخطط أصلي محفوظ في الأرشيفات، بوصفها مرجعًا أساسيًا لاستعادة نقاء الخطوط المعمارية وإحياء التكوينات الأصلية التي طمستها الإضافات الحديثة. 

شمل ذلك إزالة الحواجز التي شوّهت تماسك الفراغات الداخلية وقيّدت الإطلالات المفتوحة، لتعود المساحات إلى تناغمها الأصلي، وإعادة ربط الأجنحة الداخلية بطريقة تُعيد الانسيابية البصرية والحركة الطبيعية بين الممرات والقاعات.

القصر الكبير في باريس يفتح أبوابه مجددًا بعد مشروع تجديد شامل

Cyrille Weiner

ومن بين أبرز إنجازات الترميم، إعادة فتح المنصة البانورامية الرحبة بين صالة القبة الكبرى وقصر الاكتشاف.

 ما يعيد للزائر لذّة التفاعل البصري مع الفراغات الداخلية، ويمنحه تجربة حسية تُغذّي فضوله وتوقه للاكتشاف، وتدعوه إلى تأمل التفاصيل المعمارية التي طالما ميّزت هذا الصرح الباريسي الفريد.

يمتد القصر الكبير بحلّته الجديدة، على مساحة شاسعة تصل إلى 77 ألف متر مربع، وتحتضن صالات عرض معاصرة، وممرات زجاجية رحبة، وقاعات متعددة الاستخدامات. كما استُحدث ممشى داخلي واسع يربط بين باليه دانتان Palais d’Antin، الجناح الجنوبي التاريخي الذي لطالما احتضن معارض فنية، وبين الصالة الكبرى المغطاة بالقبة الزجاجية، التي تشكّل القلب الرمزي للمبنى. يمتد هذا الممشى من ساحة جان بيرين، وصولاً إلى ضفاف نهر السين، ليمنح الزائرين تجربة غامرة تنسج خيوط التاريخ بالمشهد الباريسي الطبيعي.

القصر الكبير في باريس يفتح أبوابه مجددًا بعد مشروع تجديد شامل

Cyrille Weiner

وفي إطار تعزيز استدامة المبنى، جرى إضافة نظام عزل متقدّم في أرضية الصالة الكبرى، يسهم في خفض استهلاك الطاقة وإطالة عمر المنشأة، تجسيدًا لرؤية معمارية توازن ببراعة بين الحفاظ على الإرث الثقافي وتطلعات المستقبل.

لم يقتصر التحديث على الجوانب المعمارية والهيكلية فحسب، بل امتد ليشمل توفير خدمات متكاملة تضمن أقصى درجات الراحة وسلاسة الحركة داخل أرجاء القصر الكبير؛ إذ جرى تزويده بأكثر من 40 مصعدًا و30 سلّمًا داخليًّا، ليصبح مُهَيَّأ بالكامل لاستقبال مختلف الزوار، بما في ذلك ذوو الاحتياجات الخاصة.

كما جرى تصميم قطع أثاث مخصّصة على يد أتيليه سينزو Atelier Senzu الفرنسي، المعروف بحرفيته الرفيعة وابتكاراته التي تمزج بين البساطة الراقية والتفاصيل الغنية. أما لوحة الألوان، فأضافت لمسة من الحيوية والدفء، إذ تقف الأعمدة الخضراء في حوار بصري مع الأرضيات الوردية والمرجانية، في توليفة لونية تبث في الزائرين روح الدهشة والتجدد.