تروي السيدة فيروز في أحد حواراتها القديمة، أنها كانت في بداياتها تتلقى انتقادًا لاذعًا من جارها الذي كان يطلب منها أن تتوقف عن الغناء لأنها تزعجه.

ويروي لي صديق نشهد له جميعًا بصوته العذب أن زوجته تطلب منه التوقف عن الغناء، فور أن يصدح بـ "أووف".

وأقفز بالربط إلى القصة المشهورة التي تقف وراء المثل "زامر الحي لا يطرب" التي ملخصها أن زامرًا شجي اللحن كان يحجم عنه أهل حيه، فلما غادره إلى أحياء أخرى نال شهرة واسعة وتقديرًا عظيمًا.

فهل سبق أن تبادر إلى ذهنك هذا السؤال لماذا يغلب أن يكون أزهدَ الناس بالمبدع أهلُه وذووه؟ أو كما قالت العرب "مَثَلُ العَالِمِ كالحُمَّةِ يأتِيهَا البُعْدَاءَ ويَزْهَدُ فِيها القُرباءُ" (الحمة هي عين الماء الساخنة).

في الحقيقة قد تكون عزيزي القارئ جربت بنفسك أو عايشت شيئًا يشبه ما أسلفت، فإذا قوبلت إمكاناتك وقدراتك بنوع من عدم الاكتراث والتقدير من محيطك القريب فلا تلقِ بكل اللائمة عليهم، فهناك عناصر أربعة لها كبير الأثر في جعل دائرتك الاجتماعية الصغيرة لا تحتفي كثيرا بإنجازاتك:

الإلف والاعتياد

عندما يعتادونك ويألفونك يفقدهم ذلك عنصر الدهشة وعامل الإبهار، واسمحوا لي أن أسوق قصة شخصية، فقبل عام تقريبًا كنت أتداول مع مجموعة من الأصدقاء قضية من قضايا متعلقة بفلسفة الحياة لكني لم أتلقّ رد فعل يوازي ما ظننت على الأقل. تهيأت الظروف أن أصور ما قلت في مقطع فيديو فتلقيت ما يزيد على 7 ملايين مشاهدة! أنا لا ألوم أصدقائي، لكنه الإلف والاعتياد والعقل تواق للجديد والمختلف.

التوقيت

أن تختار التوقيت الصحيح لما ستقدم فذلك أهم مدخل لتقديرك.. فالتوقيت عنصر ذهبي في نقل نتاجك الفكري أو الإبداعي نقلة نوعية، فصديقنا ما ينفك ينشد في أذن زوجته لم يراع أن الإنسان لا يستطيع أن يستمع في أي لحظة.. لذلك يقول لزوجته في النهاية "الجميع يحب صوتي إلاك".

البيئة

في دراسة اجتماعية عزف فيها الموسيقار العالمي جوشوا بيل متخفيًا لمدة 45 دقيقة في محطة للمترو. مئات الناس مروا به، ولم يتوقف للاستماع له سوى 6 أشخاص، فأن يعزف موسيقار عالمي في محطة مترو يعبرها مئات ممن يتسمون بالتشتت والاستعجال وكل في اتجاه يجعل من العصي عليهم تذوق اللحن وتحسس الفن. لذلك ابحث عن ذلك المكان الذي ينتمي إليه إبداعك وقدراتك.

الجمهور

لكي تنال أقصى ما تستحقه من تقدير لا بد أن تقدم نتاجك أمام جمهور نوعي يعي حقًّا ما لديك. ففي محطة المترو العازفون كثر وإن لم يكن من يمر بك محترفًا في مجالك لن يتوقف ليستمع (ينطبق على الموسيقى وغيرها) فكم من محترف سيمر بك، وقد لا يمر بك أحد، الأمر سيختلف كليا عندما يعلن عن حفل ويتسابق عشاق هذا النوع لشراء بطاقة، ويبدأ الحفل وتشع الأضواء، وتخترق موسيقى عالمية صمت قاعة فخمة، استعد فيها الجميع لسماع ألحانك.. اختلف الوضع كليًّا.

لذلك قد لا تلقى رواجا في بيئتك ويفاجئك الاهتمام عند جمهور آخر.. ولعل المثال على ذلك مسلسل موني هايست money heist  الإسباني الشهير الذي أصبح في أوائل عام 2018 أكثر سلسلة  غير ناطقة بالإنجليزية مشاهدة على نتفليكس.. بعد أن كان على وشك أن يتوقف عن العرض في إسبانيا في جزئه الأول، بسبب عدم إقبال الجماهير عليه.

فإن كنت تعاني متلازمة "زامر الحي لا يطرب" وأن "أزهد الناس بك هم أهلك وذووك... فذلك لا يعني أن محيطك يظلمك بالضرورة، هذا يعني أنك بحاجة إلى أن تتحرك خارج أسوار منطقة راحتك، لتقدم نفسك هناك، وربما تكتشف ما سيذهلك .. وألا تكون كنزًا مخفيًّا، وعندما يحملك الحنين إلى منطقة راحتك ستعود حاملاً نجاحك معك، ومن كان عصيًا عليهم أن يعرفوا قيمتك سيقرون بك وبأهميتك.. وعندها فقط زامر الحي سيشجي ويطرب.

والتبر كالترب ملقى في أماكنه

والعود في أرضه نوع من الحطب

فإن تغرب هذا عز مطلبه

وإن تغرب ذاك عز كالذهب