في طفولتي كنت وإخوتي نراقب النجوم ليلاً ونطوف بينها ونعيد اكتشاف الدب الأكبر والدب الأصغر، ونصرخ فرحًا لرؤية شهاب يغرق في زاوية ما من الكون.. كان الكون شاشتنا الكبيرة.

تطالعني تلك الذكريات وأنا أقرأ عن طاهٍ دنماركي، ينوي إقامة وليمة لـ6 أشخاص على مشارف الفضاء، تنقلهم مركبة الفضاء (نبتون) كي يستمتعوا بـ"وجبة العمر" وهم يراقبون شروق الشمس فوق منحنى كوكب الأرض، بتكلفة تبلغ نحو نصف مليون دولار.

اليوم لم يعد التجول في الفضاء حلمًا ولا ضربًا من الخيال مع انطلاق الشركات التجارية للسياحة هناك، ولكن ينتابني فضول لأن أسأل كلاًّ من الركاب الستة: ماذا تتوقع من رحلة تجوب الفضاء أن تضيف لك؟

قبل أقل من سنة حين طار رائد الفضاء السعودي علي القرني إلى محطة الفضاء الدولية (ISS)، حدثنا عن فقدان الجاذبية والنوم على الجدار ومحاولاته المستحيلة لخلط الدجاج مع الأرز، لكني شخصيًّا وقفت متأملاً عند قوله إنه حين كان يدور حول الكرة الأرضية بسرعة هائلة وبزمن لا يتجاوز 90 دقيقة لكل دورة، يعبر خلالها الليل والنهار والقارات والمحيطات والغابات، نسي "كل حدود العالم" وشعر أن "العالم بأكمله دولة واحدة". وأضاف "بعضنا يرى الأمور هنا (يقصد على الأرض) بتسرع، في الوقت الذي لا بُدَّ أن يستمتع بالحياة والعائلة". 

رائدة الفضاء اليابانية يامازاكي ناوكو بعد رحلتها (قبل 14 عامًا) قالت "كنت مندهشة جدًّا، الأرض بدت نشيطة وديناميكية للغاية، ومع ذلك فقد بدت أيضًا هشة للغاية لأن طبقة الغلاف الجوي كانت رقيقة مثل الورق"، وأضافت: "للأرض مكانة خاصة جدًّا في الكون، وكل من رأى الأرض من الفضاء يدرك هذه المكانة".

رواد فضاء آخرون من القرن الماضي عاشوا مشاعر وأفكارًا مشابهة. الأمريكي جين سيرنان، واحد من الأشخاص الذين ساروا على سطح القمر، تمنى لو أن كل قادة العالم يستطيعون فعل هذا وكتب: "لن يعني ذلك أن الحياة ستتبدل بغتة إلى حياة مثالية أو مدينة فاضلة، لكن ما سيتمخض عن هذه التجربة قد يصنع فارقًا على الأقل".

مايكل كولينز، رائد الفضاء الأمريكي كتب في مذكراته (Carrying the Fire): "في رحاب لحظات كهذه، تتلاشى الحدود بطريقة ما، وننأى كثيرًا عن صخب الأرض وضجيجها، وتخرس فجأة النزاعات كافة، وتدلف أخيرًا إلى الصمت".

راسل روستي شويكارت، رائد الفضاء الأمريكي الذي أمضى 10 أيام يدور حول الأرض في مهمة "أبولو-9" عام 1974، وصف مشاعره بالقول: "كلما ابتعدت عن الأرض، ستبدو لك بقعة صغيرة ثمينة مُفرطة الضعف والهشاشة، تسبح في هذا الكون الشاسع وتتضاءل شيئًا فشيئًا إلى أن تتمكن من حجبها بأحد أصابع يديك".

إن فكرة مشاهدة الأرض من شرفة الفضاء البعيدة، غدت اليوم أكثر واقعية وأقرب منالاً، لا تحتاج إلى محترفين بقدر حاجتها إلى من لديه فضول المعرفة وشغف المغامرة، ويرغب في اختبار وجوده من خارج القوقعة التي تحيط به.

يوجد على الأرض كثيرٌ من دعاة السلام ونبذ النزاعات، ممن يعملون بلا كلل لحماية كوكبنا الجميل من التلوث وخطر الاحتباس الحراري. هؤلاء لم يذهبوا إلى الفضاء ليشكلوا قناعاتهم، ولكن من ذهبوا إلى الفضاء أضافوا على القناعات مشاعرهم وتجربتهم الخاصة، تكلموا عن الأرض كأنها بيتهم ومن عليها كأنهم أطفالهم، وعبروا عن رغبتهم بحماية "الكرة الزرقاء الهشة المتدلية في الفضاء" برموشهم.

واسمحوا لي بجرعة من الرومانسية أن أتساءل: هل نستطيع أن نعيش تجربة مماثلة دون أن نغادر الأرض؟ كيف لنا أن نتجرد من رحى النزاعات واشتراطات المكان؟ كيف يمكننا أن نفك التصاقنا بمطارحنا تحت عناوين لا تنتهي؟ هل يمكننا أن نتمثل رؤيتهم لهذا الكوكب الجميل، ببحاره وقاراته وأعراقه وشعوبه وانقساماته، وكأنه كائن بشري متكور على نفسه، هش وجميل، يسبح في الفضاء بقلب واحد وجسد واحد وبحاجة إلى من يخاف عليه ويضمد جراحه ويمسح عن جبينه مشاعر التعب والاغتراب؟!

لن يكون -على الأقل حتى الآن- في مقدورنا جميعًا أن نذهب للفضاء، ونتمتع برحلة لم يعشها حتى اليوم سوى بضع مئات من البشر، ولكن بانتظار أن يتحقق الحلم، دعونا نُغمض عيوننا لحظة، ونتخيل كما لو أننا نلقي نظرة من شرفة الفضاء العالية، بعيدًا عن انقسامات الخرائط والقلوب، لنرى بيتنا وحياتنا من زاوية جديدة ومختلفة، ونشعر بالارتباط العميق والقوي مع الوجود ومع بعضنا.