أن يتمكن فيلم عربي وثائقي-درامي من جذب الانتباه وكسب التقدير على منصات السينما العالمية وسط منافسة شديدة وبيئة فنية عالية الاحتراف والإمكانات، فهذا أمر يستحق "رفع القبعة" بقدر ما يستحق -كونه نموذجاً إيجابياً- التأمل والبحث في المرتكزات التي استند إليها في نجاحه.

الفيلم التونسي "بنات ألفة" الذي تصدر المشهد السينمائي العالمي، لم يكن ترشيحه لجائزة الأوسكار إنجازه الوحيد. فمنذ عرضه الافتتاحي في مهرجان "كان" السينمائي عام 2023، خاض منافسة شرسة على جائزة السعفة الذهبية ونال عدة جوائز مهمة: "السينما الإيجابية"، و"العين الذهبية"، وتنويه خاص من لجنة تحكيم جائزة الناقد "فرنسوا شالي". كما حصد جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان جوثام الدولي، وجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان البحر الأحمر السينمائي.

وبلا شك أن ما فعلته مخرجة الفيلم التونسية كوثر بن هنية، لم يكن ضربة حظ، فهي تستثمر موهبتها في قصة حقيقية تجري أحداثها في تونس في فترة ما يُعرف بـ"الربيع العربي" وتروي قصة أم لديها أربع فتيات، تنضم اثنتان منهن إلى "داعش" وتهربان إلى ليبيا لينتهي بهما المطاف في السجن، بينما تكافح الأم لإنقاذ ابنتيها من السجن، والحفاظ على سلامة ابنتيها الباقيتين، بلا سند حقيقي وبلا بوصلة، وفي سياق سياسي مضطرب ولحظة حرجة من حياة الأم وبناتها.

الطريقة غير التقليدية والتكنيك الذي استخدمته المخرجة بن هنية لتناول قصة الفيلم بالمزاوجة بين الوثائقي والدرامي "الدوكودراما"، زادت من جاذبية العرض وإثارته. لقد دمجت بين الشخصيات الحقيقية للقصة مع ممثلات محترفات، وأسقطت الحدود الفاصلة بين الواقعي والمتخيل، لتتمكن بحرفية من إعادة بناء المشاهد، مشهداً مشهداً وجملة جملة، بأسلوب يشبه لعبة المرايا، جعلت الشخصيات تنطق بالمسكوت عنه، وكأن كل "فتاة" لا تمثل ما جرى معها بل تعيشه من جديد.

قوة الفيلم تأتي من محاولاته تقديم جواب "واقعي-روائي" على سؤال لماذا تنضم مراهقتان في مقتبل العمر إلى "تيار متطرف"؟ وهذا ما قدمته المخرجة ببراعة، الأم ضحية تسلط مجتمع ذكوري، تستبطن العنف في تربية بناتها، فيتمردن عليها، ويقعن ضحية التطرف.

بداهةً إن أي عمل إبداعي لا يبنى على الموهبة فحسب، فكم من المواهب دفنت في أرضها ولم تر النور، لأنها لم تجد الحاضنة والبيئة المحفزة؟ فالمسار الطبيعي للموهبة هو صقلها ودفعها إلى الاحتراف والإنضاج في الأكاديميات المتخصصة واختبارات الواقع، وهذا لا يقتصر على السينما فحسب، بل يشمل كل مجالات الحياة.

إن الفوز بالأوسكار أو السعفة الذهبية بل الفوز بالمونديال العالمي لكرة القدم، ليست أموراً مستحيلة، طالما أن الطريق معروف وطالما توفرت الحاضنة والبيئة الملائمة لنمو الموهبة وتطويرها إلى الاحتراف، الأهم أنك تسير في الطريق الصحيح، وهناك من يأخذ بيدك ويوفر لك كل أسباب الاستدامة.

فيلم "بنات ألفة" الذي حظي بدعم مباشر من صندوق مهرجان البحر الأحمر، يؤكد حقيقة استمرار حضور السينما كقوة ناعمة، تعمل بكفاءة على جبهة الثقافة والفكر وإيصال رسائل شجاعة ومسموعة رغم كل الصخب الذي نعيشه.

هذا الفيلم مثال واحد على مسار يضم مئات المشاريع والمبادرات لدعم الفن والثقافة والرياضة وتشجيع المواهب الشابة على الابتكار والتفوق والانتقال من المحلي إلى العالمي، مسار بدأ ولن يتوقف، والبقية قادمة بلا ريب.