يُعد القول إن التطورات التقنية التي تنبثق عن عالم الفورمولا 1 تجد طريقها في نهاية المطاف إلى السيارات التقليدية ادعاءً مستهلكًا. لكن ما قد لا يدركه كثيرون هو التأثير العميق لهذه الرياضة على مسارات متعددة من البحث والتطوير.
في الموسم الخامس والسبعين من بطولة الفورمولا 1، يواصل المهندسون والمصممون والخبراء اللوجستيون تحسين العمليات لتحقيق أقصى قدر من الكفاءة (وصولاً إلى أجزاء من الثانية وأجزاء من الغرام) في سياق سعيهم المستمر إلى تعزيز القدرة التنافسية.
وفي هذا يقول جايسون سميث، مدير قسم العلوم التطبيقية في فريق مرسيدس-إيه إم جي بتروناس للفورمولا 1: "نفهم الجانب الفيزيائي من المشكلة، ونطرح الأسئلة الصحيحة، ما يمكّننا من الوصول إلى جوهر الخلل وإيجاد الحلول بسرعة فائقة."
تفوّق الفورمولا 1 في تقديم حلول مبتكرة للمشاكل يُلهم قطاعات أخرى
يمتد تأثير الابتكارات المتأتية من سباق الفورمولا 1 إلى صناعات تراوح بين الطيران والرياضة، ويشمل ذلك استخدام ألياف الكربون في أحذية الجري التي ظهرت في إحدى التجارب الأولمبية العام الماضي.
لكن أحد أبرز المستفيدين من هذه الابتكارات هو القطاع الطبي، إذ أثبتت الفورمولا 1 قدرتها على إحداث تغيير جذري في هذا المضمار.
نفق الرياح الخاص بمرسيدس يُستخدم لاختبار مزايا الديناميكية الهوائية في قطاعات غير مرتبطة برياضة السيارات.
على سبيل المثال، اعتمد مستشفى غرايت أورموند ستريت للأطفال في لندن، خلال تسعينيات القرن الماضي، عناصر من بروتوكول التوقف في محطات الصيانة الخاصة بفريق فيراري لتنسيق مناوبات الفرق الطبية، ما أدى إلى زيادة الكفاءة وتعزيز السلامة، وتقليص الأخطاء بشكل ملحوظ.
وخلال جائحة كوفيد-19، تطلّب الوضع تطوير أجهزة إنقاذ الحياة وتوزيعها بسرعة قياسية، ما دفع مجموعة من مهندسي ريد بُل، ورينو، ومرسيدس، ورايسينغ بوينت، وويليامز، وهاس إلى التعاون لتسريع إنتاج أجهزة التنفس الصناعي.
بل إن فريق مرسيدس اضطلع بدور رئيس في تصنيع أجهزة الضغط الهوائي الإيجابي المستمر CPAP. تقول بيكي شيبلي، أستاذة هندسة الرعاية الصحية في كلية لندن الجامعية والرئيسة التنفيذية للأبحاث في مجموعة UCLPartners: "قمنا بأبحاث كثيرة على سبل تحسين دائرة التنفس للحد من استهلاك الأكسجين." وفي ما يتعلق بأجهزة التنفس الصناعي، أعيد توظيف منشآت التصنيع الخاصة بالفورمولا 1 لتلبية الحاجة الملحّة. وقد سمحت الحكومة البريطانية بإنتاج 10,000 وحدة تنفس، جرى توزيعها على أكثر من 130 مستشفى، فبلغ معدل الإنتاج ذروته عند أكثر من 1,000 وحدة يوميًا.
يشير برونو بوتيلو، مدير العمليات الرقمية والابتكار في مؤسسة تشيلسي أند ويستمنستر لمستشفيات صندوق مؤسسة NHS، إلى أن تعاونه مع توتو وولف، مدير فريق مرسيدس، وممثل الفريق برادلي لورد، ساعد في دمج أفضل ممارسات الفورمولا 1 في مؤسسته الطبية. وفي هذا يقول: "إن أسلوبهم في العمل وفهمهم لسبل التواصل، بالإضافة إلى ثقافة عدم إلقاء اللوم، كلها مزايا جعلتني أدرك كيف يمكن توسيع هذا النهج ليشمل قطاعات غير مرتبطة برياضة السيارات."
استعان جاكي ستيوارت وابنه مارك بقدرات الفورمولا 1 لدعم مؤسستهما الخيرية Race Against Dimentia.
على أن إحدى الخصائص التنظيمية الأكثر إثارة للفضول في الفورمولا 1 أثمرت عن شكل مختلف من التعايش والتكامل. في عام 2021، فرضت الفورمولا 1 حدًا للميزانية قدره 145مليون دولار لكل فريق لتحقيق تكافؤ الفرص. وفي هذا يقول جايسون سميث: "كان علينا إما أن نُقلص حجم فريقنا ونتخلى عن منفعة احتواء هذه المهارات الهندسية المتفردة، وإما أن نُنشئ نظامًا يتيح للمهندسين العمل على مشاريع خارج إطار الفورمولا 1." وإذ اعتمد فريق مرسيدس الخيار الثاني، أبصرت وحدة العلوم التطبيقية النور.
باتت هذه الاستراتيجية اليوم معتمدة في فرق أخرى، على ما تشهد وحدة ريد بُل للتقنيات المتقدمة ووحدة فريق ويليامز لتقنيات الجائزة الكبرى. تشهد أيضًا على جدوى نموذج الأعمال وحدة مماثلة في ماكلارين باعها صانع السيارات إلى مؤسسة استثمارية خاصة.
يؤكد سميث أن تأثير الفورمولا 1 يظهر في تطبيقات متخصصة أكثر من انتشاره في الأسواق العامة، مشيرًا إلى مشروع يتعلق بأسرع أفعوانية في العالم في مدينة القدية بالمملكة العربية السعودية.
عندما أدرك المطورون أن السرعات العالية تتطلب نظارات واقية للركاب، ابتكر فريق سميث دروعًا جانبية تسمح بانحراف الدفق الهوائي، ما يُلغي الحاجة إلى استخدام نظارات الحماية.
صُمم قارب فريق Ineos Brittania المشارك في كأس أمريكا من قبل وحدة العلوم التطبيقية التابعة لفريق مرسيدس – إيه إم جي بتروناس للفورمولا 1.
بموازاة ذلك، تُسهم فرق مثل ريد بُل وفيراري ومرسيدس-إيه إم جي وماكلارين في دعم كأس أمريكا، المنافسة الأرقى في عالم الإبحار، عبر إمداد هذه البطولة بالخبرات الهندسية المتطورة.
قد تكون الشراكة الأشد تأثيرًا والأكثر شخصية التي انبثقت عن الفورمولا 1 هي التي تجسدت في مبادرة لأحد أبطالها السابقين، وهو جاكي ستيوارت، الفائز ثلاث مرات ببطولة العالم للسائقين.
بعد تشخيص زوجته هيلين بالخرف الجبهي الصدغي، أسس ستيوارت مؤسسة Race Against Dementia (سباق ضد الخرف) في عام 2016، مستلهمًا آليات العمل السريعة في الفورمولا 1 لمواجهة هذا المرض.
وقد جمع البرنامج منذ ذلك الحين19 مليون دولار، وأسهم في تمويل أكثر من 129 ألف ساعة بحثية، كما أطلق 69 شراكة بحثية بين مؤسسات مختلفة. يقول مارك ستيوارت، نجل جاكي ورئيس مجلس أمناء المؤسسة: "تزدهر الفورمولا 1 من خلال سرعة التفكير، والابتكار، والدفع الدائم لتجاوز الحدود. هذا تمامًا ما نفعله في مؤسستنا فيما نعمل مع ألمع العقول لنكسر الحواجز وندفع الأبحاث المتعلقة بالخرف إلى آفاق غير مسبوقة."
منذ عام 1950، بات اسم الفورمولا 1 مرادفًا للتحولات السريعة والحلول المبتكرة. واليوم، وفي ظل تزايد شهرتها العالمية وتدفق العائدات الضخم، من المرجح أن يستمر توظيف هذه القدرات في شتى القطاعات، مع تزايد إدراك المعنيين لحقيقة أن أعظم الانتصارات قد تكون تلك التي تتحقق خارج مضمار السباق.