"لا شيء يتم إنجازه بالنصف".. بهذه الفلسفة حوّل ستيفانو ريتشي Stefano Ricci شغفه بجمع رابطات العنق في طفولته إلى إمبراطورية عالمية لنمط الحياة الفاخرة، بما يشمل الأزياء الرجالية، والمستلزمات المنزلية، والعطور، والتصميمات الداخلية للملاذات السكنية والفنادق واليخوت والطائرات الخاصة.

لم يكن دخول ريتشي عالم تصميم الأزياء مصادفة. فقد ولد عام 1949 بمدينة فلُورَنْسَة الإيطالية، التي يتناغم التصميم في كل مكان فيها، وينعكس بدوره على كل من يعيش فيها، ما يفسر احتضانها علامات تجارية فاخرة مثل غوتشي Gucci وبوتشي Pucci وفيراغامو Ferragamo وإيرمانو سيرفينو Ermanno Scervino وروبيرتو كافالي Roberto Cavalli. 

وبالرغم من أن ريتشي نشأ في كنف عائلة تعمل في مجال الإتجار بالملابس النسائية، إلا أن ميوله كانت متجهة إلى عالم الحياكة والتصميم. ففي طفولته، كان ريتشي مهتمًا بجمع رابطات العنق، قبل أن يبدأ في تصميم وحياكة نماذجه الخاصة منها في ورشة خياطة تملكها عائلته، وبها أسس شركته الخاصة STEFANO RICCI S.P.A  عام 1972، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، متبنيًا فلسفة "صنع في إيطاليا بنسبة 100%".

بدايات ستيفانو ريتشي الحقيقية

كان عام 1974 بمنزلة البداية الحقيقية في مسيرة ستيفانو ريتشي المهنية، عندما شارك بتصميماته من رابطات العنق في معرض Pitti Immagine Uomo، وهو حدث رفيع المستوى في عالم الموضة الرجالية، تستضيفه فلورنسة مرتين سنويًا.

حوّل ستيفانو ريتشي رابطة العنق إلى نجمة خزانة الرجال

Stefano-Ricci


حظيت إبداعات ريتشي، آنذاك، بترحيب حار من قبل أكبر تجار الملابس في العالم، وتلقى طلبات من نيمان ماركوس وهارودز وغيرهما. في تلك اللحظة، كاد ريتشي يقفز من الفرحة. فقد تأكد أن التصميم بات مهنة حياته، وبدأ في تصدير إنتاجه من رابطات العنق إلى أسواق أمريكا وبريطانيا واليابان.

حرص ريتشي منذ بدايته على الجودة والفخامة الفائقة. فمختلف إبداعاته من رابطات العنق تُصنع من أفضل خامات الحرير، المادة المفضلة عنده، وتدخل بلورات سواروفسكي في عدد من ابتكاراته الفاخرة. بفضل ريتشي، تغير دور رابطة العنق من كونها مجرد مكمّل للإطلالة إلى نجمة أساسية في خزانة ملابس الرجال.

اعتمدت ستيفانو ريتشي النسر الملكي شعارًا لها عام 2005

Stefano-Ricci

رحلة توسع ستيفانو ريتشي

لم يتوقف ستيفانو ريتشي عند رابطات العنق، بل عمل على إضافة منتجات جديدة وسّع بها آفاق علامته التجارية. فبعد تلقي طلبات من متاجر بارزة، قدّم ريتشي في عام 1980 مجموعته الأولى من القمصان.

في عام 1986، ساهم ريتشي مع مجموعة من أرباب صناعة الموضة في تأسيس اتحاد "كلاسيكو إيطاليا" Classico Italia لتعزيز مكانة فلورنسة ومعرض بيتي إماجيني أومو في عالم موضة الرجال على المستوى الدولي. سرعان ما أصبح الاتحاد رمزًا للمنتجات المصنوعة حصريًا في إيطاليا، وهو يضم حاليًا 23 شركة رائدة في مجال صناعة الأزياء الإيطالية.

خلال التسعينيات، وسعت شركة "ستيفانو ريتشي إس.بي.إيه" تشكيلة منتجاتها من الملابس الرجالية لتشمل السترات والبدلات والملابس الصوفية والرياضية والأحذية، إضافة إلى خط إنتاج خاص بالأحذية والسلع الجلدية. وتناغمًا مع تاريخ فلورنسة العريق في صناعة الجواهر، أطلقت الشركة مجموعة فاخرة من أزرار الأكمام وأبزيمات الأحزمة باستخدام الذهب والبلاتين والألماس والياقوت وغيرها من الأحجار الكريمة.

في عام 1993، بعد تعزيز وجود الشركة بالولايات المتحدة من خلال صالة عرض في نيويورك، اتخذ ستيفانو ريتشي خطوة جريئة بفتح أول متجر مباشر تحت إدارته الخاصة في مدينة شنغهاي، مستشرفًا مستقبل الصين الواعد. أثبتت هذه الخطوة صوابها، ومثلت البداية الحقيقية لبناء اسم "ستيفانو ريتشي إس.بي.إيه" بوصفه علامة تجارية عالمية.

في عام 1997، كشف ريتشي عن عطر "كلاسيك"Classic  للرجال، وهو أول عطر للعلامة التجارية بمناسبة مرور 25 عامًا على تأسيسها. كان ذلك بداية لمجموعة أخرى من العطور الفاخرة التي أطلقتها الشركة وتركت بصمتها، بما يشمل رويال إيغل Royal Eagle وروثينيوم Ruthenium وفيرنزي Firenze.

انضمام الجيل الجديد

في بداية الألفية الجديدة، انضم نيكولو Niccolò وفيليبو Filippo، ولدي ستيفانو ريتشي، إلى الشركة، فشغل الأول منصب الرئيس التنفيذي فيما أوكل إلى الثاني منصب المدير الإبداعي.

في عام 2005، اعتمدت الشركة النسر الملكي Royal Eagle شعارًا لها؛ كونه يمثل القيم التي تتبناها، وبخاصة الشرف والقوة والفخر. وفي عام 2009، أطلقت خطًا متكاملاً للمستلزمات المنزلية تحت اسم ST Home Interior Design، إثر قرار من ريتشي بتوسيع إطار عمل الدار لتحتضن مفهوم الحياة الفاخرة، بعد أن حققت اسمًا عالميًا بتصاميمها الحصرية والجودة التي لا تضاهى

ستيفانو ريتشي وولداه نيكولو (يمين) وفيليبو (يسار)

Stefano-Ricci


يتميز هذا الخط الإنتاجي بتقديم أطقم عشاء من البورسلين والكريستال المصقول يدويًا، وأطقم ملاعق وشوك وسكاكين صُنعت من الذهب والفضة والبلاتين باستخدام الحرف اليدوية التقليدية، إضافة إلى الأقمشة والإكسسوارات الفاخرة للمنزل.

لضمان استمرار استخدام التقنيات التقليدية في منتجاتها وإنتاج نسيجها الخاص، استحوذت الدار في عام 2010 على محترف Antico Setificio Fiorentino من عائلة بوتشي، وهو مصنع حرير تاريخي في منطقة أولترارنو بفلورنسة اشتهر بإنتاج أقمشة لأبرز العائلات في العالم منذ عام 1786، ويعمل حتى اليوم باستخدام أنوال يدوية عتيقة.

وفي عام 2011، قررت الشركة توحيد مختلف عمليات الإنتاج في مركز واحد، فافتتحت مقراتها الجديدة على مساحة تزيد على 9 آلاف متر مربع في فيزولي Fiesole   على تلال خارج فلورنسة، فيما بقي المقر الرئيس الأصلي في فلورنسة مخصصًا بوصفه ورشة لتقديم خدمة التصميم حسب الطلب Bespoke، وتدريب الحرفيين الشبان بهدف صون أسرار الحرفة.

توسعات متتالية لستيفانو ريتشي

في السنوات اللاحقة، توالت التوسعات في نشاط العلامة التجارية. فقد أطلقت الدار في عام 2012 قسمًا خاصًا بالتصميمات الداخلية لليخوت الفاخرة Luxury Yacht Division، تحت خط إنتاج SR HOME. وفي عام 2016، أطلقت مجموعة SR JUNIOR، وهو خط إنتاج خاص بأزياء الأولاد. وفي عام 2017، عززت SR HOME بمجموعة الأثاث. بل إنها قدمت في عام 2020 مجموعة ساعات أوكتاغون Octagon.

وفي سياق توسيع نشاط خط SR HOME، ضخ ريتشي، أيضًا، استثمارات كبيرة لاستكمال مجموعة المنتجات لتشمل التصميمات الداخلية والمفروشات للملاذات السكنية والأجنحة الفاخرة بالفنادق والطائرات الخاصة. وقد جاء ذلك تلبية لرغبة زبائن الشركة في إسقاط مقاربة العلامة الإبداعية على المساحات الداخلية لمنازلهم ومكاتبهم.

متجر ستيفانو ريتشي في براغ

فلسفة ستيفانو ريتشي: نهج فريد للنجاح

خلال 52 عامًا، تحولت ستيفانو ريتشي من شركة صغيرة لإنتاج رابطات العنق إلى دار عالمية تمتلك 72 متجرًا فخمًا في 30 دولة حول العالم، بما في ذلك في روسيا والصين وآسيا والشرق الأوسط. 

فكيف تمكن ريتشي من بناء هذه الإمبراطورية الضخمة؟

يُنسب الفضل في نجاح هذه العلامة إلى فلسفة ريتشي الفريدة في العمل، والتي تركز على:

1- الالتزام بالهوية الإيطالية:

يُصرّ ريتشي، الذي يتسم بروح إيطالية خالصة، على نقل الموضة الإيطالية وأسلوبها اللافت إلى مختلف أنحاء العالم، مُتبنيًا شعار "100% مصنوع في إيطاليا". 

2- خلق شخصية مميزة للعلامة:

يُقدم ريتشي تجربة مميزة للرجال الذين يبحثون عن الأناقة الكلاسيكية والفخامة غير المتكلفة. وبمرور السنين، رسخت الدار هويتها لتكون رمزًا للإبداع الفني أكثر من كونها علامة للأزياء الراقية. فتجربة التسوق في متاجرها تُشبه زيارة متحف فني يستكشف الزبائن في أرجائه الابتكارات الجديدة، ويتأملون التفاصيل والنقوش والألوان، ويختبرون ملمس المواد الفاخرة.

3- ربط العلامة بالفخامة المطلقة:

نجح ستيفانو ريتشي في جعل علامته مرادفة للفخامة المطلقة. وقد حقق ذلك من خلال استخدامه للمواد الفاخرة مثل الحرير وجلود التماسيح والألماس والذهب والأحجار الكريمة. كما أظهر ريتشي اهتمامًا كبيرًا بتصميمات متاجره ومواقعها. فهي وجهات أنيقة، وتقع عادةً ضمن فنادق عالمية فاخرة أو معالم بارزة أو بمكان خاص بها، وليست مجاورة لمتاجر أخرى بمركز تسوق. ويُكمل ريتشي تجربته الفريدة من خلال تنظيم احتفالات داره  في أماكن استثنائية مثل معبد الملكة حتشبسوت ومتحف أوفيتزي وقصر بيتي.

4- السعي الدائم للكمال والجودة:

تمثل ستيفانو ريتشي علامة فريدة تسعى بشكل دؤوب لتجسيد قيم الكمال والجودة المطلقة. بل إن الكمال ليس مجرد هدف، بل فلسفة يطبقها المؤسس في كل خطوة من خطوات عمله. فريتشي يُدرك أن تركيزه على أعلى معايير الجودة يمنحه ميزة تنافسية قوية، ويضمن له التفوق على كثير من منافسيه الذين يضحون بالجودة في سبيل تحقيق أرباح هائلة.

يتجسد هذا الشغف بالكمال والجودة في بحث الدار الدائم عن أرقى الخيوط المتاحة، واستكشافها لنظم التلوين الجديدة، وحرصها على نسج الخيوط بأبطأ سرعة ممكنة للحفاظ على سلامة الألياف. ولا تتوقف عناية ستيفانو ريتشي عند النسج فقط، بل  تشمل أيضًا إزالة القماش من عملية الإنتاج قبل انتهاء عملية التشطيب، وحفظه في غرفة خاصة لتعتيقه كما يحدث مع العطور، في خطوة تُسهم في استعادة مختلف جوانب الألياف الطبيعية.

5- الالتزام بالصناعة اليدوية:

يُعدّ ستيفانو ريتشي من أشدّ المدافعين عن الصناعة اليدوية، إيمانًا منه بأنّ أيّ شيء يُصنع بشغف وبعناية فائقة يدويًا يكتسب لمسة خاصة وروحًا إنسانية تفتقر إليهما المنتجات المشغولة باستخدام الآلات الحديثة.

6- تقدير الخبرات الحرفية:

يُؤمن ريتشي بأن الخبرات الحرفية هي الركيزة الأساسية للجودة العالية، وأنّ مشاركة هذه الخبرات مع الجيل الجديد يضمن استمرار العلامة في تحقيق النجاح على المدى الطويل. لذا تستثمر الدار في كفاءات حرفية خبيرة، مُتيحة  نقل المهارات إلى جيل الشباب من خلال برامج تدريبية مُنظمة.

يُدير ستيفانو ريتشي علامته بمساعدة عائلته

Stefano-Ricci

7- ضمان تواصل الأجيال:

يُدير ستيفانو ريتشي الدار بمساعدة عائلته، إيمانًا منه بأهمية تواصل الأجيال لتكون طاقة إضافية للمشروع. فبعض منافسيه كانوا أيقونات له، لكن لم يحالفهم الحظ بتغيير الجيل كما فعل. ولم يجبر ريتشي ابنيه على العمل معه، بل كان هذا خيارهما الخاص، إذ نشأ نيكولو وفيليبو في بيئة مشبعة بالحرفية والأناقة . 

8- التوازن بين العمل والحياة الشخصية:

يُؤمن ريتشي بأهمية تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية. فرغم مشغولياته الكبيرة إلا أنه يحرص على قضاء وقت ممتع مع عائلته، ويُمارس هوايات مثل سباق السيارات والصيد. وعن ذلك يقول: "عندما نكون جميعًا معًا في المكتب نكون مجلس الإدارة، وعندما نكون في المنزل لا نتحدث أبدًا عن العمل، بل نصطاد ونتسابق بالسيارات معًا".

9- التركيز على مصادر الإلهام:

يعرف ريتشي جيدًا مكامن نفسه، ومصادر الإلهام التي تساعده على تطوير أفكاره الإبداعية، إذ تُعد الطبيعة في إفريقيا، وبخاصة الصيد في غابات وأدغال تنزانيا، من أهم مصادر إلهامه. فلطالما ألهمت الطبيعة الإفريقية بتفاصيلها وألوانها ابتكاراته وتصميماته، وجعلته يرى الأشياء أمامه بالطريقة الصحيحة.

10- التمتع برؤية ثاقبة للمستقبل:

يُعرف ستيفانو ريتشي برؤيته الثاقبة للمستقبل، وحسه للمخاطرة المحسوبة، وثقته بنفسه في كل ما يفعله. فعلى مدار تاريخ الدار، اتخذ ريتشي قرارات جريئة غيّرت قواعد اللعبة وحددت مسار عمله ودفعته إلى الأمام. افتتاح أول متجر لريتشي في شنغهاي عام 1993 كان، مثلاً، خطوة جريئة ومحفوفة بالمخاطر، إذ لم تكن الصين، آنذاك، قد سادت العالم تجاريًا كما هو الحال الآن، لكنه تنبأ بذلك عندما رأى الشباب يعملون بجد ويحدوهم الأمل. واليوم، تمتلك ستيفانو ريتشي في الصين 19 متجرًا.

11- السعي إلى الارتقاء المستمر:

من ضمن فلسفات ريتشي البدء من حيث توقف الآخرون والسعي إلى الارتقاء المستمر. فإذا ابتكر منتجًا يظن أنه الأفضل لهذا الموسم، فلا بد أن يجد ما هو أعلى جودة للموسم المقبل. لذا لا ينقطع مسار الأبحاث والتطوير في داره أبدًا.

12- الحذر من الغرور:

يُحذّر ستيفانو ريتشي من مخاطر الغرور، ويُؤكد على أهمية التواضع واليقظة الدائمة؛ "فلا ينبغي للمرء أن يمتلئ زهوًا وغرورًا كما لو أنه يجسد ظاهرة متفردة. فمثل هذا الشعور سيطغى على تنبهه إلى التفاصيل. وعندما يشرع في النظر إلى الأمور الأخرى بوصفها ثانوية وغير مهمة، سيبدأ في الانحدار إلى أسفل".