في عالم الميديا إن تترك جمهورك قبل أن يتركك فذلك من احتراف الصنعة، بمعنى أن تحافظ على زخم ودفق المتعة والثراء والمؤانسة فيما تقدمه، وتنسحب في وقت لا يزال جمهورك يرغب في المزيد.

وحياتنا لا تختلف أيضًا عن ذلك، وقد يصح أن نقول اترك الأشياء قبل أن تتركك، أي ابتعد عما تحب مؤقتًا قبل أن ينطفئ حبك له، كنتيجة لزوال الشغف لأنك ألفته واعتدته.

ابتعد لترى الصورة كاملة، ابتعد لتشتاق ليفتقدوك لتستكشف أن للابتعاد سحرًا، يمكن أن يعيد لك ذلك الطعم الذي لم تعد قادرًا على التلذذ به وتذوقه.

الأمر ينطبق على جميع مصادر البهجة بدءًا من طعامك المفضل مرورًا بأصدقائك، وليس انتهاء بعلاقتك الزوجية ووجهتك السياحية المفضلة.. ولك أن تأكل طعامك المفضل يوميًا لمدة شهر، لتصاب بشلل القدرة على نيل اللذة التي تنتظرها مما تحب.

ببساطة ابتعد لأن شدة القرب من الشيء تحجب عنك تفاصيله، وتلك اللذة مكمنها في التفاصيل.. وكلما اقتربنا واجهنا صعوبة في تمييزها.. فكم من الجمال والكمال والنعم حجبها عنا التشبع وانحسار اللذة بالألفة؟!

شخصيًا جربت أن أصوم عن القهوة لمدة شهر.. كانت تجربة صعبة لي، أنا مدمن هذا المشروب، خضت تلك التجربة لأحظى بلذة فنجان القهوة بحدودها القصوى.. بعد شهر هيأت الأجواء، وأعددت فنجانًا من القهوة، طحنت حبوبه بيدي.. لا أبالغ إن قلت إن الرشفة الأولى تسللت إلى جميع خلايا جسدي.. عندما تشتاق وتبتعد وتُحرم.. ومن بعدها تقترب وتنال وتلتقي.. ستتلقف بكل حواسك وجوارحك.

عندما تبتعد بشكل مدروس يزداد وهج الأشياء وألقها.. وإن تحدثنا عن العلاقات الإنسانية.. فلا تبتعد كثيرًا فتنسى، ولا تقترب كثيرًا فتمل.. دع العلاقة تتنفس.. فالشوق يفجر الجمال بداخلك.. يجعلك تتوهج.. مارس الابتعاد بذكاء، فالقرب الشديد يحجب عن عينيك جمال ما لديك.

عندما تصبح أشياؤك الجميلة ومصادر استمتاعك وتلذذك تحصيل حاصل، فأنا أتحدث في هذا المقال عنك.. فقد وصلت إلى مرحلة الاحتراق في علاقتك.

قبل سنوات نُشر مقال في صحيفة نيويورك تايمز أطلق شهرة واسعة لما يعرف اليوم بـ"صيام الدوبامين". والدوبامين مادة عضوية في دماغ الإنسان، يُعرَف تبسيطًا بـ"هرمون السعادة"، برغم أنّ دوره وفق علم الأدوية هو دفع سلوك الكائن الحيّ تجاه تحقيق نتيجة مرغوبة، ويبرز دوره في حالات التحفيز والرغبة.

وصيام الدوبامين تقليعة جديدة انطلقت من بين موظفي وادي السيليكون في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو محاولة الصيام عن كل الأنشطة التي تحقق اللذات، مثل الأطعمة السريعة والمقرمشة، وتفحص التفاعلات على حساباتك الاجتماعية.. شرب القهوة الساخنة مع الحليب، التي يغطي وجهها الرغوة.. وقس على ذلك.
 
أما الهدف من هذا الصيام فهو "ضبط نظام المكافآت في الدماغ"، والحد من انطلاق الدوبامين في أدمغتهم لفترة معينة.. حتى يستشعروا تأثيره العظيم بعد انتهاء فترة الصيام.

أستاذ الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا كاميرون سيباه أصدر دليلاً خاصًا بفكرة صيام الدوبامين، يقول إن صيام الدوبامين يشبه علاج الإدمان، ويمنح الإنسان قدرة على التحكم في التحفيز حتى في لحظات الانطفاء، وشعورك بغياب ما تستيقظ من أجله كل صباح.

هو عبارة عن تمارين لقدرتك العاطفية والنفسية للتعامل مع ظروف حياتك صعودًا أو هبوطًا، وإعادة النكهة لما أصبح بلا طعم ولون ورائحة.

فإن أصبحت بعض مفضلاتك بلا نكهة فاحرم نفسك منها لتحيي تلك اللذة فيها، فقد تكون الوفرة سببًا لذلك، فكما قيل "أصل اللذة الحرمان".