ماذا لو كان منزلك قادراً على تغيير لونه بحسب الفصول، فيبرد في الصيف ويدفأ في الشتاء؟ هذه ليست فكرة خيالية من أفلام الخيال العلمي، بل ابتكار واقعي يحمل توقيع المصمم الأمريكي جو دوسيه، أحد أبرز الأسماء في عالم التصميم المبتكر والمستدام.

خلال أعمال تجديد منزله في نيويورك، واجه دوسيه سؤالاً بسيطًا في ظاهره ومعقدًا في عمقه: أي لون سيضمن أقصى قدر من كفاءة الطاقة؟ الأبيض يعكس الحرارة ويُبقي الداخل بارداً، فيما الأسود يحتفظ بالدفء خلال الأشهر الباردة. 

ولكن ماذا عن المدن ذات المناخ المعتدل مثل نيويورك، حيث يتعاقب الصيف الحار والشتاء القارس؟ الجواب جاء من عالم الطفولة، وتحديداً من خاتم المزاج، وهي خواتم تحتوي على أحجار صناعية يتغيّر مظهرها بحسب درجة حرارة إصبع من يرتديها، ليبتكر طلاءً حراريًا (ثرموكروميًا) يتغير لونه تلقائيًا عند وصول درجة الحرارة الخارجية إلى 25 درجة مئوية، فيتحول من اللون الداكن إلى الفاتح بحسب الحاجة الحرارية. 

ومن هذه النقطة، انطلقت الفكرة: ماذا لو تمكنا من تطبيق هذه التقنية في طلاءات المباني؟

اعتمادًا على المبدأ العلمي، المعروف باسم "الاستجابة الحرارية اللونية" Thermochromic Response، طوّر دوسيه مكوّنًا يحتوي على بلورات سائلة تتبدّل بنيتها الجزيئية مع تغير درجة الحرارة، ما يؤثر مباشرة على الأطوال الموجية التي تمتصها أو تعكسها، ومن ثم على اللون الظاهر للعين. النتيجة؟ طلاء يمكنه أن يتحوّل من الأسود إلى الأبيض والعكس تلقائيًا، بحسب درجة الحرارة الخارجية، تحديدًا عند عتبة 25 درجة مئوية.

بدأ دوسيه بطباعة نماذج مصغرة ثلاثية الأبعاد لمنزله، مكتملة بمستويات عزل مماثلة، وطلائها بألوان مختلفة. على مدار عام، وجد أن درجة الحرارة الداخلية للنموذج الأسود في الشتاء أعلى بمتوسط 13.9 درجة مئوية من النموذج الأبيض. أما في الصيف، فكانت درجة حرارة المنزل النموذجي الأبيض أقل بـمقدار 11 درجة مئوية، وهي نتائج تنسجم مع ما توصلت إليه الدراسات العلمية الحديثة.

ولكن، كالعادة، لا تأتي الابتكارات الثورية من دون تحديات. في البداية، واجه دوسيه مشكلة كبيرة: تحلل البلورات السائلة بفعل التعرض المستمر للأشعة فوق البنفسجية. ولحلّ هذه المعضلة، ركّز المصمم على تطوير طبقة حماية تمنع تدهور المادة من دون التأثير على حساسيتها الحرارية. وعلى ما يقول دوسيه، بعد عام من الاختبارات،  نجح في مساعيه وأثبتت المادة التي طوّرها مقاومة عالية للتحلل مع الحفاظ على فعاليتها التامة.

هل يمكن للمنزل أن يغيّر لونه مع تغير الفصول؟ طلاء ذكي يُعيد ابتكار العمارة المستدامة

Joe Doucet

يمكن استخدام المكوّن مع أي طلاء بأي لون أساس، لكن دوسيه يوصي بأن يكون الطلاء الأساسي بلون فاتح، مثل الأبيض أو الرمادي الفاتح، للاستفادة القصوى من خاصية عكس الحرارة. فعندما تكون الحرارة أقل من 25 درجة مئوية، تمتص البلورات السائلة معظم الضوء، فيظهر الطلاء أسود. وعندما ترتفع الحرارة فوق 25 درجة، تصبح هذه البلورات شفافة، فينعكس اللون الأساسي للطلاء، ما يمنح المبنى مظهرًا أبيض. التغيّر في اللون لا يجرى تدريجيًا، بل يحدث بشكل شبه فوري، ما يعني أن المبنى يتبدّل بين لونين رئيسين فقط من دون تدرجات.

ورغم أن الابتكار قد لا يكون ذا أهمية قصوى في المناطق ذات المناخ المستقر مثل المناطق القطبية أو الاستوائية، يقر دوسيه في حوار لشبكة سي إن إن،  أن الطلاء الحراري الذي ابتكره يمكن أن يحدث نقلة نوعية في المدن الواقعة ضمن المناخات المعتدلة، وهي تشمل أجزاء واسعة من أوروبا، وأمريكا الشمالية، وشرق آسيا، حيث الشتاء بارد والصيف حار، ويكون التحدي الأكبر هو التوازن بين التدفئة والتبريد.

دوسيه يرى أن الابتكار ليس مجرد استجابة تصميمية، بل "ردّ مباشر على تغيّر المناخ". في حديثه لمجلة ديزاين، أشار إلى أن "هذا الابتكار كان من الممكن تنفيذه قبل سبعين عامًا، لكن الحاجة إليه لم تكن موجودة آنذاك"، مؤكدًا أن الاستدامة أصبحت الآن ضرورة وليست رفاهية.

وقدّرت النماذج التجريبية التي استخدمها المصمم أن الطلاء الحراري يمكن أن يخفض فواتير استهلاك الطاقة بنسبة تراوح بين 15% و30%، وذلك من خلال تقليل الاعتماد على أنظمة التبريد والتدفئة. وبحسب بيانات وكالة الطاقة الدولية، فإن تشغيل المباني يستهلك ما يقارب 30% من إجمالي الطاقة العالمية، ما يجعل أي ابتكار يحدّ من هذا الاستهلاك خطوة ثمينة في الاتجاه الصحيح.

اليوم، يبحث دوسيه عن شريك تصنيعي لدفع المشروع إلى المرحلة التالية، سواء من حيث التوسّع في الاختبارات طويلة المدى أو الاستعداد للإنتاج التجاري واسع النطاق. ويعتقد أن الطلاء لن يكون مفيدًا للمنازل فحسب، بل أيضًا للمباني العامة مثل المدارس، والمستشفيات، والمصانع، حتى المنشآت المعمارية الكبرى، حيث يكون التحكم الحراري أحد أكبر التحديات.

هذا الابتكار يضع دوسيه في طليعة مصممي الجيل الجديد، الذين يمزجون بين الجمال الوظيفي والتصميم المستدام، مقدمين حلولًا بسيطة في شكلها وعميقة في أثرها. ففيما كان العالم يتطلّع إلى التكنولوجيا الذكية وأنظمة التبريد المعقدة، اختار دوسيه أن يعود إلى لون الطلاء، لكنه عاد إليه من منظور علمي ومستقبلي في آنٍ.

عادةً ما يرتبط طلاء المباني باللون الأبيض بتأثير الألبيدو، أي قدرة السطح على عكس أشعة الشمس وتبريد الهواء المحيط. وقد استخدمه الباحثون لتقليل درجات الحرارة، حتى طوروا طلاءً أبيض فائق يعكس 98% من ضوء الشمس، ومواد طلاء تعتمد على الغرافين قادرة على تغيير لونها في الأشعة تحت الحمراء.

أخيرًا، اقترح مهندس بريطاني يدعى توم غرينهيل حلاً بسيطًا جدًا لموجات الحر: طلاء النوافذ بالزبادي لتوفير حماية مؤقتة من الحرارة الشديدة!