تصدر مصطلح الذكاء الاصطناعي الواجهة في أواخر العام الماضي، إذ كان للانبهار الواسع الذي صاحب إطلاق تطبيق ChatGPT مفعول السحر على المستخدمين، الأمر الذي أدى لجمع الشركات العاملة في هذا المجال لأكثر من 66.8 مليار دولار من التمويل في زمن قياسي من العام نفسه، وفقًا لأبحاث سي بي إنسايتس. وفيما أصبح تطبيق تشات جي بي تي بالنسبة للبعض مرادفًا لهذا النوع من الذكاء، يؤكد الخبراء أن هذا التطبيق لا يمثل سوى جزء صغير من الطرق التي تُستخدم بها تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم.

مع ارتفاع وتيرة الضجة حول الذكاء الاصطناعي، نمت المخاوف أيضًا، خصوصًا بعد الكشف عن إمكانياته المذهلة، وتأثيره المنعكس على أوجه حياتنا المعاصرة بمعظمها، إن لم نقل كلها، في ظل استخدامه في مجالات عديدة وبأشكال مختلفة، بدءًا من تطوير اللقاحات، مرورًا بأتمتة المهام والكشف عن الاحتيال وغيرها من التطبيقات المهمة التي نرصد بعضها في السطور التالية.

ما هو الذكاء الاصطناعي (AI)؟

حسب الخبراء، فإن مختلف التعريفات المتداولة للذكاء الاصطناعي تتفق على كونه محاكاة لعمليات الذكاء البشري بوساطة الآلات، وخصوصًا أنظمة الحاسب، عن طريق الاستدلال والتعلم التلقائي، من خلال امتصاص كميات هائلة من البيانات، بما يمنح الآلة القدرة على التحليل الشامل، ومن ثم اتخاذ الإجراءات الأفضل والأسرع لتحقيق هدف معين من دون مساعدة البشر.

تعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي من خلال استيعاب كميات كبيرة من البيانات، وتحليلها من أجل اكتشاف الارتباطات والأنماط، واستخدام هذه الأنماط لاستشراف الحالات المستقبلية. وبهذه الطريقة يمكن مثلاً للروبوت أن يتعلم المحادثة من خلال تغذيته بأمثلة وإنشاء تبادلات، أو يمكن لأداة التعرف على الصور أن تتعلم تحديد الكائنات في الصور ووصفها من خلال مراجعة ملايين الأمثلة. كما يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدية الجديدة والسريعة التحسن إنشاء نصوص وصور وموسيقى واقعية ووسائط أخرى.

وتركز برمجة الذكاء الاصطناعي على المهارات المعرفية التي تشمل أربعة محاور هي:

-التعلم، ويركز على الحصول على البيانات وإنشاء قواعد لكيفية تحويلها إلى معلومات قابلة للتنفيذ. وتوفر القواعد التي تسمى الخوارزميات لأجهزة الحوسبة إرشادات خطوة بخطوة حول كيفية إكمال مهمة معينة.

-المنطق، ويركز على اختيار الخوارزمية الصحيحة للوصول إلى النتيجة المرجوة.

-تصحيح الذات، لضبط الخوارزميات باستمرار والتأكد من أنها توفر أدق النتائج الممكنة.

-الإبداع، وذلك من خلال استخدام الشبكات العصبية والأنظمة القائمة على القواعد والأساليب الإحصائية وتقنيات الذكاء الاصطناعي الأخرى لإنشاء صور ونصوص وموسيقى وأفكار جديدة.

يعني ذلك كله أن الذكاء الاصطناعي سيكون فعالاً في عدد من المجالات التي يمكن أن يؤدي فيها المهام بشكل أفضل بكثير من البشر، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالمهام المتكررة والموجهة نحو التفاصيل، مع معالجة كمية ضخمة من البيانات وتحليلها بسرعة، وتحويلها إلى معلومات قابلة للتنفيذ.

وحسب الخبراء، فإن ثمة أربعة نماذج للذكاء الاصطناعي، منها آلات رد الفعل التي تحتوي على ذاكرة خاصة بمهمة محددة، وآلات الذاكرة المحدودة التي تتمتع بذاكرة تمكنها من استخدام الخبرات السابقة للوصول إلى قرارات مستقبلية. وثمة نموذج ثالث يعتمد نظرية العقل بما يمكن تلخيصه بالذكاء الاجتماعي والقدرة على فهم المشاعر والتنبؤ بالسلوك.

أما النموذج الرابع، المثير للجدل والمعنون بالذكاء الاصطناعي المدرك للذات، فلا يزال حتى الآن من قبيل الخيال العلمي، إذ يعتقد بعض الخبراء أن الذكاء الاصطناعي لن يصبح واعيًا أو حيًا أبدًا.

والحقيقة هي أن البعض يعتقدون في قدرة المبتكرين على تطوير أنظمة تتجاوز قريبًا قدرات البشر على التعلم أو التفكير في أي موضوع، بينما يشكك آخرون في ذلك، مؤكدين أن النشاط المعرفي كله مرتبط بأحكام قيمية تخضع للتجربة البشرية، وحتى إن تطور الذكاء الاصطناعي باستمرار فإنه لن يدركها.

وعمومًا يمكن تقسيم الذكاء الاصطناعي إلى فئتين مختلفتين: ضعيف وقوي. يجسد الذكاء الاصطناعي الضعيف نظامًا مصممًا للقيام بوظيفة معينة كـألعاب الفيديو والمساعدين الشخصيين. أما أنظمة الذكاء الاصطناعي القوية، فهي التي تقوم بمهام تعد شبيهة بمهام البشر، وتميل إلى أن تكون أكثر تعقيدًا، وهي مبرمجة للتعامل مع المواقف التي قد يُطلب فيها حل المشكلة من دون تدخل شخص ما.

ويمكن العثور على هذه الأنواع من الأنظمة في السيارات ذاتية القيادة أو في غرف العمليات بالمستشفيات. ويبدو أن التقدم التكنولوجي قد يجعل من بعض محددات الذكاء الاصطناعي قديمة، على ما يقول الخبراء. فعلى سبيل المثال، إن الأجهزة التي تتعرف على النص بصريًا لم تعد تُعتبر تجسيدًا لهذا الذكاء، نظرًا لأن هذه الوظيفة أصبحت الآن متأصلة في الحاسوب.

كيف تطوّر الذكاء الاصطناعي؟

نظرة تاريخية حول الذكاء الاصطناعي

لم يُعد الذكاء الاصطناعي وليد السنوات الأخيرة. فعلى مدى قرون طويلة فكر الإنسان في تحقيق هذا الحلم، ولكن البداية الحقيقية كانت في عام 1836 عندما ابتكر العالم تشارلز باباج أول تصميم لآلة قابلة للبرمجة.

وخلال الأربعينيات من القرن الفائت ابتكر جون فون نيومان بنية حاسوب البرنامج المخزن والتي تتلخص فكرته في أن الاحتفاظ بالبرامج والبيانات التي يعالجها الحاسوب في ذاكرته. ومن ثم أرسى وارين مكولوتش ووالتر بيتس الأساس للشبكات العصبية، ومع ظهور أجهزة الحاسب الحديثة في الخمسينيات، أمكن للعلماء اختبار أفكارهم حول الذكاء الآلي، من خلال اختبار آلان تورينج الذي ركز على قدرة الحاسوب على خداع المحققين للاعتقاد بأن إجاباته على أسئلتهم صادرة عن إنسان.

أما مجال الذكاء الاصطناعي الحديث، فقد بدأ في عام 1956 خلال مؤتمر صيفي في كلية دارتموث، برعاية وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة. حضر المؤتمر 10 شخصيات بارزة في هذا المجال أمثال مارفن مينسكي وأوليفر سيلفريدج وجون مكارثي الذي يُنسب إليه الفضل في ابتكار مصطلح الذكاء الاصطناعي.

وكان من بين الحضور أيضًا عالم الحاسوب ألين نيويل، والخبير الاقتصادي وعالم النفس المعرفي هربرت أ. سايمون. وقد جرى آنذاك تقديم برنامج حاسب قادر على إثبات بعض النظريات الرياضية، يشار إليه باسم برنامج الذكاء الاصطناعي الأول، الأمر الذي جذب دعمًا حكوميًا وصناعيًا كبيرًا لما يقرب من 20 عامًا من البحث الممول جيدًا، ما أدى إلى تطورات كبيرة في الذكاء الاصطناعي.

وبعد فترة سكون نسبي حتى منتصف التسعينيات، دب النشاط مرة أخرى نتيجة لتقدم علوم البيانات التي مهدت الطريق للتطور الملحوظ في الذكاء الاصطناعي، إذ أدى الجمع بين البيانات الضخمة والطاقة الحسابية المتزايدة إلى إحداث اختراقات في البرمجة اللغوية العصبية ورؤية الحاسوب والروبوتات الفاخرة والتعلم الآلي والتعلم العميق. وفي عام 1997 ومع تسارع التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، هزم ديب بلو من شركة آي بي إم أستاذ الشطرنج الروسي غاري كاسباروف، ليصبح أول برنامج حاسوب يهزم بطل العالم في الشطرنج.

ومع قدوم عام 2000 أدت التطورات المتلاحقة إلى ظهور منتجات وخدمات شكلت الطريقة التي نعيش بها اليوم، ومنها على سبيل المثال إطلاق محرك بحث جوجل ثم أمازون. وبينما طورت نيتفليكس نظامها، قدم فيسبوك نظام التعرف على الوجه، وأطلقت مايكروسوفت نظام التعرف على الكلام لتحويله إلى نص، وتدفق التطور حتى عام 2020.

وخلال هذه الفترة شاهدنا إطلاق Siri و Alexa والسيارات ذاتية القيادة، وصولاً إلى GPT-3 ومولد الصور Dall-E وغيرها الكثير من رموز الذكاء الاصطناعي، التي كانت ثمار ذلك التعاون -وربما- التنافس العلمي والتقني بين الكبار في مجال تكنولوجيا المستقبل.

كيف تطوّر الذكاء الاصطناعي؟

مجالات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته

لا حصر لمجالات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، إذ يمكن استخدام هذه التكنولوجيا في العديد من القطاعات والصناعات المختلفة. ففي مجال الرعاية الصحية يمكن باستخدام الذكاء الاصطناعي تحسين النتائج وخفض التكاليف، والوصول إلى التشخيص الأفضل والأسرع، واقتراح العلاجات المناسبة والجرعات، والمساعدة في غرف العمليات، والرد على الأسئلة وتشكيل الفرضيات، إلى جانب استخدام مساعدين صحيين افتراضيين، وجدولة المواعيد والفوترة وإكمال العمليات الإدارية، واستشراف الأوبئة وفهمها ومكافحتها.

وفي مجال الأعمال، تدمج خوارزميات التعلم الآلي في الأنظمة الأساسية للتحليلات وإدارة علاقات الزبائن، للوصول لأفضل شكل لخدمة الزبائن، مع روبوتات الدردشة في مواقع الويب لتقديم خدمة فورية. وفي القانون يمكن غربلة الوثائق، مع المساعدة في أتمتة العمليات كثيفة العمالة وتوفير الوقت مع تحسين الخدمة، وتوقع النتائج واستخراج المعلومات.

كما جرى توظيف الذكاء الاصطناعي في البنوك بنجاح من خلال روبوتات المحادثة لتوعية الزبائن بالخدمات والعروض وللتعامل مع المعاملات التي لا تتطلب تدخلاً بشريًا، مع استخدام المساعدين الافتراضيين لتحسين وخفض تكاليف الامتثال للوائح المصرفية.

وتستخدم المؤسسات المصرفية الذكاء الاصطناعي لتحسين عملية اتخاذ القرار بشأن القروض، وتعيين حدود الائتمان وتحديد فرص الاستثمار، مع تحقيق الأمان للخدمات المصرفية فيما يتعلق بإدارة المخاطر وتوليد الإيرادات.

أما في مجال التعليم مثلاً، فيمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة الدرجات، ما يمنح المعلمين مزيدًا من الوقت لمهام أخرى. كما يمكن لهذا النظام تقييم الطلاب والتكيف مع احتياجاتهم، ومساعدتهم مع تقديم دعم إضافي لإبقائهم على المسار الصحيح. ويمكن تغيير كيفية التعلم أو حتى استبدال بعض المعلمين، والمساعدة في صياغة الأعمال ومواد التدريس وإشراك الطلاب بطرق جديدة.

يستخدم كذلك الذكاء الاصطناعي في تشفير البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات، مع أتمتة العديد من العمليات، بما في ذلك إدخال البيانات والكشف عن الاحتيال وخدمة الزبائن والصيانة الاستشرافية والأمن. كما يجري تطبيق تقنياته على جوانب متعددة من الأمن السيبراني، بما في ذلك اكتشاف الخلل وحل المشكلات وإجراء التحليلات وتحديد الأنشطة المشبوهة والتهديدات بشكل أسرع.

وكان الذكاء الاصطناعي سباقًا في مجال الصناعة، فقد دمجت الروبوتات في سير العمل، مع برمجتها لأداء مهام فردية ومنفصلة عن العاملين البشريين. وفي مجال النقل، بالإضافة إلى الدور الأساسي للذكاء الاصطناعي في تشغيل المركبات الذاتية القيادة، تُستخدم تقنياته في إدارة حركة المرور، واستشراف تأخر الرحلات الجوية، وجعل الشحن البحري أكثر أمانًا وكفاءة. وفي سلاسل التوريد يحل الذكاء الاصطناعي محل الأساليب التقليدية لتوقع الطلب والاضطرابات.

كذلك تستخدم الأعمال الترفيهية تقنيات الذكاء الاصطناعي للإعلان المستهدف، والتوصية بالمحتوى، واكتشاف الاحتيال، وإنشاء البرامج النصية، وصنع الأفلام، فيما تساعد الصحافة الآلية غرف الأخبار على تبسيط سير عمل الوسائط وهو ما يقلل الوقت والتكاليف والتعقيد، ويتيح أتمتة المهام الروتينية، مثل إدخال البيانات والتدقيق اللغوي، والبحث في الموضوعات والمساعدة في العناوين الرئيسة. وباختصار فإن القفزات التي حققها الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات تزيد من احتمالية امتداد تأثيره خلال السنوات القليلة المقبلة، وهو  ما أصبح أمرًا لا مفر منه على ما يبدو.