شهدت قضية اللوحة التي تعود إلى الحقبة الباروكية، والتي استولى عليها النازيون في هولندا خلال أربعينيات القرن الماضي، تطورًا جديدًا أزاح الستار عن تاريخها وهوية مبدعها الحقيقي، بعد أن عُثر عليها أخيرًا في أحد المنازل بمدينة مار ديل بلاتا الأرجنتينية.
فبعد أسابيع من تداول خبر اكتشافها، ونسبها في بادئ الأمر إلى الرسام الإيطالي الباروكي جوزيبي غيسلاندي، المعروف باسم فرا غالغاريو، أحد أبرز الفنانين في القرن الثامن عشر.
قلبات تحليلات فنية جديدة الأمور رأسًا على عقب، مؤكدة أن العمل ليس من إبداع غيسلاندي، بل من توقيع أحد معاصريه المرموقين، الرسام الإيطالي الشمالي جياكومو تشيروتي، الشهير بلقب إل بيتوكيتو.
وفي تصريح لصحيفة كلارين الأرجنتينية، أوضح باولو بلباني، أمين أكاديمية كارارا في بيرغامو، التي تضم أكبر مجموعة من أعمال غيسلاندي في العالم، أن لوحة "بورتريه سيدة" Portrait of a Lady تحمل بصمات تشيروتي الواضحة في التكوين والإضاءة ومعالجة الملامح، مؤكداً أن التحليل المقارن بين أسلوبي الفنانين يثبت بجلاء أن العمل ينتمي إلى رؤية تشيروتي الواقعية المرهفة، التي تميزت بعُمق إنساني وحس تعبيري.
وأضاف بلباني أن نسبة اللوحة إلى تشيروتي ليست اكتشافًا حديثًا تمامًا، إذ سبق لمؤرخ الفن الإيطالي روبرتو لونغي أن حسم هذا الجدل في عام 1927، حين نسب اللوحة إلى تشيروتي، وهو الرأي الذي دعمته لاحقًا الباحثة مينا غريغوري في دراسة موسّعة نُشرت عام 1984. وتُقدّر قيمة اللوحة اليوم بما لا يقل عن 350 ألف دولار، لتكتسب بذلك بُعدًا فنيًا وتاريخيًا يتجاوز قيمتها المادية.
وكان يُعتقد سابقًا أن الـلوحة تُصوّر الكونتيسة كولِّيوني، إحدى سيدات الطبقة الأرستقراطية الإيطالية، غير أن بلباني أعرب عن شكوكه حيال هذه الفرضية، مشيرًا إلى أن ملامح السيدة في اللوحة لا تتطابق مع الصور المعروفة للكونتيسة، ما يفتح الباب أمام احتمالات جديدة حول هوية الشخصية التي خلدها تشيروتي بفرشاته.
أما من الناحية التاريخية، فقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، كانت اللوحة ضمن مقتنيات جاك غودستيكَر، تاجر الفن الهولندي الشهير المقيم في أمستردام. إلا أن الغزو النازي أجبره على بيع مجموعته الفنية لمسؤولين في النظام.
Arthur Brand
ومنذ ذلك الحين توارت اللوحة عن الأنظار، وكانت آخر مرة شوهدت فيها عام 1946 في سويسرا بحوزة المموّل النازي البارز فريدريش كادغين، الذي استقر لاحقًا في الأرجنتين، لتبدأ رحلة غموض امتدت لما يقارب ثمانية عقود.
المصادفة وحدها أعادت العمل إلى دائرة الضوء، حين نشرت صحيفة Algemeen Dagblad الهولندية تقريرًا كشف أن اللوحة ظهرت بشكل غير متوقع في إعلان عقاري لأحد المنازل في مدينة مار ديل بلاتا الساحلية، ليتبيّن لاحقًا أن المنزل مملوك لإحدى بنات كادغين، وتُدعى باتريشيا.
أعقب ذلك تحرّك سريع من السلطات الأرجنتينية التي داهمت العقار مرتين قبل أن تعثر على اللوحة المفقودة، وسط متابعة إعلامية مكثّفة وتحقيقات قانونية مستمرة.
وبحسب صحيفة Diario La Capital de Mar del Plata، وجهت المحكمة الأرجنتينية اتهامات إلى باتريشيا كادغين تشمل الإخفاء وعرقلة سير العدالة، فيما لا تزال السلطات تدرس الوضع القانوني للوحة.
في المقابل، يسعى ورثة جاك غودستيكَر إلى استعادتها عبر القضاء في نيويورك، في خطوة قد تعيد فتح ملفات عديدة من قضايا استرداد الأعمال الفنية المنهوبة خلال الحرب.
وفي انتظار الحسم القانوني، أعلنت الجهات الرسمية في الأرجنتين نيتها عرض اللوحة مؤقتًا في متحف الهولوكوست في بوينوس آيرس، بوصفها شاهدًا على مرحلة قاتمة من التاريخ، وقطعة فنية تحمل في طياتها مزيجًا نادرًا من الجمال والذاكرة والعدالة المؤجلة.
بهذا الاكتشاف، لا تُستعاد لوحة فنية مفقودة فحسب، بل تُستعاد معها قصة قرنٍ من التحولات، من قاعات النبلاء الإيطاليين إلى أقبية الاحتلال النازي، ومن المنافي الأوروبية إلى شواطئ الأرجنتين، لتذكّر العالم بأن للفن ذاكرة لا تُمحى، مهما طال عليها الزمن.