لوحتان نادرتان من أعمال رسّام الطبيعة الصامتة الهولندي أمبروسيُس بوسخارت عادتا إلى الواجهة بعد أكثر من ثمانية عقود من الفقدان، إثر نهبهما على يد القوات النازية خلال الحرب العالمية الثانية. هذا الاكتشاف الاستثنائي، الذي أعلنت عنه مؤسسة رجال ونساء المَعالِم الثقافية Monuments Men and Women Foundation، يُعد خطوة بارزة في مسار استعادة التراث الفني المنهوب.
العملان الزيتيان، بتفاصيلهما الزهرية الغنية وأسلوبهما الدقيق، كانا جزءًا من المجموعة الفنية الباذخة التي جمعهما الزوجان شلوس، وهما من أبرز مقتني الفن الهولندي والفلمنكي في أوروبا خلال مطلع القرن العشرين. ومنذ اختفائهما عام 1943، ظلّت اللوحتان طيّ النسيان، إلى أن قادت جهود تتبّع دقيقة إلى استعادتهما، في لحظة تُعيد الاعتبار ليس إلى الأعمال الفنية فحسب، بل إلى التاريخ الإنساني الذي طُمست معالمه بسبب الحرب.
إرث فني منهوب يعود إلى الواجهة
بعد سقوط فرنسا في قبضة الاحتلال النازي عام 1940، أطلق النظام الألماني حملة منهجية لمصادرة المجموعات الفنية التي تملكها العائلات اليهودية. وكان منزل عائلة شلوس في باريس من بين ستة مواقع داهمتها القوات النازية في تلك الفترة، في محاولة للسيطرة على مجموعاتها الفنية الثرية.
غير أن أبناء الزوجين الراحلين، أدولف شلوس ولوسي هاس شلوس، كانوا قد سبقوا الهجمة بخطوة، إذ نقلوا معظم الأعمال إلى خزائن محصّنة داخل قلعة تقع في جنوب باريس، ضمن منطقة لم تكن خاضعة للاحتلال الألماني في تلك المرحلة، ما ساهم في تأخير مصادرتها لسنوات.
Monuments Men and Women Foundation
ومع توسّع نفوذ النازيين، نجحت قواتهم لاحقًا في وضع يدها على المجموعة، التي ضمّت أعمالاً نادرة من المدرسة الهولندية والفلمنكية، فجرى نقل 262 لوحة منها إلى مبنى فوررباو Führerbau في ميونيخ، وهو المقر نفسه الذي كان من المخطّط أن تُعرض فيه هذه الكنوز ضمن مشروع متحف لينتس، الذي حلم هتلر بتشييده ولم يرَ النور قط.
ومع اقتراب القوات الأمريكية من المدينة في أبريل 1945، اقتحم الجنود المبنى ونهبوا محتوياته، التي ضمّت نحو 1,500 عمل فني، لتدخل الأعمال في دوامة الفقدان والتشتيت.
ورغم أن متحف اللوفر أعاد لاحقًا 49 لوحة من مجموعة شلوس إلى ورثتها، إلا أن أكثر من 150 عملاً لا تزال مفقودة حتى اليوم، وفقًا لتقديرات دار كريستيز.
وفي التعليق على هذه الواقعة المُفجعة، قالت آنا بوتينيلي، رئيسة مؤسسة رجال ونساء المَعالِم الثقافية: "مئات الآلاف من القطع الثقافية التي نُهبت خلال الحرب العالمية الثانية لا تزال مفقودة حتى الآن، وبعضها موجود داخل الولايات المتحدة، مخبأة في العلّيات، أو معلّقة على الجدران، أو محفوظة داخل صناديق لم تُفتح منذ عقود".
Monuments Men and Women Foundation
اكتشاف غير متوقع
رغم الجهود المتواصلة لاستعادة هذه الكنوز، فإن مصير معظمها ما زال غامضًا. غير أن القصة لم تتوقف هنا، إذ شهدت الأسابيع الأخيرة تطورًا مفاجئًا أعاد الأمل في الكشف عن بعض هذه الأعمال المنهوبة.
فقد تلقّت مؤسسة رجال ونساء المَعالِم الثقافية، المعنية بتعقّب واستعادة الأعمال الفنية المنهوبة إبّان الحرب العالمية الثانية، بلاغًا غير متوقّع يُفيد بعرض لوحتين يُحتمل أن تكونا من أعمال أمبروسيُس بوسخارت في مزاد علني ينظمه مركز مزادات أبل تري Apple Tree Auction Center بمدينة نيويورك في ولاية أوهايو الأمريكية.
وبعد فحص دقيق للّوحتين، توصّلت المؤسسة إلى مطابقة شبه تامة بين العملين وصور أرشيفية محفوظة ضمن قاعدة بيانات مشروع الاسترداد الثقافي الرقمي اليهودي Jewish Digital Cultural Recovery Project. وقد وردت اللوحتان تحت عنوان Fleurs (زهور)، مع علامات تعرّف تحمل الرمزين S-16 وS-17 وهي الرموز ذاتها الموثّقة في السجلات.
القصة تأخذ منعطفًا أكثر إثارة عند الكشف عن مصدر اللوحتين، وهو خزنة مصرفية مهجورة في ولاية تكساس، تعود ملكيتها إلى شخص تُوفي من دون أن يُطالب ورثته بمحتوياتها خلال المهلة القانونية، ما أتاح تحويلها لاحقًا إلى المزاد. ورغم القيمة التاريخية والفنية الهائلة للعملين، والتي تُقدّر بنحو مليون دولار أمريكي لكل لوحة، إلا أن العروض عليهما في المزاد لم تتجاوز 3,250 دولارًا للأولى و225 دولارًا فقط للثانية، قبل أن يتم سحبهما من البيع.