توفي ليوناردو ديل فيكيو عن عمر يناهز 87 عامًا في قصره بمدينة ميلانو الإيطالية، بعد أن أمضى رحلة طويلة تمكن خلالها من تحويل صناعة النظارات لتصبح أحد أهم صيحات الموضة. وكانت النظارات من قبل تُعد مجرد أداة طبية مملة يشعر الناس بالخجل لارتدائها.

وبالرغم من عدم شهرة شركته Luxottica، إلا أنها تُصنع النظارات لكثير من العلامات التجارية الفاخرة، لدرجة جعلت كثيرين يطلقون عليها لقب "أمازون صناعة النظارات".

تصنع Luxottica النظارات لحساب راي بان وأرماني وبولغري، بالإضافة إلى شانيل وبروك براذرز. كما أنها تعمل على بيع هذه النظارات عبر سلاسل المبيعات الخاصة بالشركة مثل Pearle Vision وLenscrafters و Sunglass Hat.

حياة قاسية منذ نعومة أظافره

حققت شركات ليوناردو ديل فيكيو نجاحًا باهرًا جعلته أحد أغنى أغنياء إيطاليا والعالم، إذ وضعته مجلة فوربس ضمن قائمتها لأغنى الشخصيات في العالم، كما أنه يعد ثاني أغنى شخص في إيطاليا.

لكن ديل فكيو لم يولد في أسرة غنية بل كان يعاني الفقر الذي جعل والدته ترسله إلى دار أيتام. آنذاك، كان العالم أجمع يعاني تبعات الحرب العالمية الثانية، ووالده كان قد توفّي قبل أن يولد في عام 1935 في ميلانو الإيطالية.

ولم تعد والدته التي كانت تعمل في أحد المصانع قادرة على توفير الدعم المادي اللازم لأسرتها، لذلك قررت أن ترسل أصغر أطفالها وهو الطفل الرابع ليوناردو ديل فيكيو إلى دار الأيتام قبل أن يكمل عامه السابع. وكان ليوناردو من الأطفال المشاكسين للغاية، وربما كان هذا من الأسباب التي دفعت والدته لإرساله للدار.

وعندما أكمل ديل فيكيو ربيعه الرابع عشر، قرر أن يبدأ في العمل ليكسب قوت يومه، فبدأ حياته عاملًا في إحدى الورش المختصة بتصنيع الأدوات المعدنية وتشكيلها.

ولكنه لم يكن أحد المختصين بتشكيل المعادن، بل كان "صبي" الورشة، إذ كان يقوم بمختلف الأعمال البسيطة التي لا تحتاج إلى خبرة، مثل جلب المواد الخام أو خدمة الفنيين داخل الورشة. وقال ديل فيكيو إنهم لم يكونوا ينادونه باسمه، بل كانوا يكتفون بالنداء على "الصبي".

وبالرغم من أن العالم لم يكن في أفضل حالته، إلا أن عزيمة ديل فيكيو لم تكن لتنكسر بسهولة. بدأ في دراسة الهندسة الصناعية إلى جانب عمله في الورشة بعمر 19 عامًا ليشتعل شغفه بالنظارات وكل ما يتعلق بها من عدسات وإطارات، ويبدأ في مطاردة حلمه وتكوين البذرة الأولى لشركته.

انتقل ديل فيكيو إلى مدينة أغوردو الصغيرة التي تقع شمال البندقية من أجل أن يبدأ شركته. ولم يكن اختيار هذه المدينة عشوائيًا، إذ كانت الحكومة تمنح قطعة من الأرض لأي شخص يؤسس عمله فيها، كما أنها كانت تقع بقرب الشركات المهتمة بصناعة النظارات والعدسات.

بدأت إمبراطورية ديل فيكيو على ضفاف نهر مدينة أغوردو إلى جانب منزله الصغير الذي كان يضم أسرته. كان ديل فيكيو يبدأ يومه في الساعة الثالثة فجرًا ويستمر في العمل حتى ينتهي اليوم ليعود إلى منزله من أجل بدء هذه الدورة مجددًا، إذ كان يمتلك طموحًا لا يهدأ.

وذكر ديل فيكيو هذا الطموح في أكثر من مناسبة، إذ تحدث سابقًا مع مجلة فوربس قائلًا: "لو كنت بدأت حياتي بائعًا للفواكه في الشارع، لأصبحت شغوفًا بالفواكه"، لذلك فإن نجاح ديل فيكيو كان أمرًا محتومًا.

وفي حديث لإحدى الصحف قال ديل فيكيو: "إذا سمحت لنفسك بأن ترتاح أو لانتباهك بأن يتشتت بسبب أمجادك السابقة، فإن أحدهم سيأتي مستحوذًا على أعمالك. لقد رأيت هذا يحدث مع الكثير من رجال الأعمال الذين بدأوا معي. عندها يصبح من الصعب أن تلحق بهم".

تزوج ديل فيكيو ثلاث مرات. تقول ماريسا ابنته البكر: "لم يكن يعانقنا أو يقبلنا، لقد كنا نخشاه كثيرًا"، وهو ما يتفق مع أسلوب حياة ديل فيكيو الذي يهتم أولاً وأخيرًا بالعمل.

ًًWikimeida

ابتكارات طموحة وآفاق توسعية

تمكن ديل فيكيو من تحقيق نجاحه الباهر والوصول إلى قائمة أثرياء العالم بفضل ابتكارين ضمن مسيرته الطويلة من النجاح. وبالرغم من أن هذه الإبتكارات تبدو بسيطة للغاية ومعروفة، إلا أن إتقان ديل فيكيو لها مكنه من النجاح.

كان ديل فيكيو مصممًا على إتقان دورة تصنيع وبيع النظارات وإغلاقها بالكامل عليه، ويعني هذا العمل على تصنيع إطارات النظارات ثم تحويلها إلى المنتج النهائي، وأخيرًا تسويقها عبر سلسلة واسعة من المنافذ التجارية حول العالم. كما تمكن من الارتقاء بالنظارات من حيث كونها ضرورة للبعض إلى مرتبة الكماليات التي تمثّل أحد أهم جوانب الأناقة وصيحات الموضة.

بدأت هذه الرحلة مع أرماني في عام 1988، وخلال العقدين التاليين تمكن ديل فيكيو من توقيع صفقات حصرية مع رالف لورين وشانيل وغيرهما من دور الأزياء الشهيرة حول العالم حتى يتمكن من رفع ثمن النظارات ليصل لأكثر من 1000 دولار في ذلك الوقت.

ولم يتوقف نجاح ديل فيكيو وشركته Luxottica عند صناعة النظارات والتعاون مع دور الأزياء الفاخرة، إذ حول أنظاره في عام 1990 إلى الأسواق العالمية والبورصة، ونجح في ذلك العام في إدراج شركته في بورصة نيويورك، وذلك في خطوة غير مسبوقة عالميًا لشركة بحجم شركته.

بل إنه لم يكتفِ بذلك، إذ تمكن أيضًا من شراء مؤسسة شو Shoe، التي تقدر قيمتها السوقية تُقدر بخمسة أضعاف قيمة Luxottica، في واقعة تعد الأولى من نوعها، إذ كانت هذه المرة الأولى التي تستحوذ فيها شركة إيطالية على تجمع شركات أمريكي.

اشترى ديل فيكيو الشركة مقابل 1.4 مليار دولار، ليبيعها بعد ذلك مباشرةً ويبقي على فرع واحد منها وهو Lenscrafters المتخصص في صناعة النظارات وإطاراتها من أجل أن يمتلك منفذًا لبيع النظارات لحسابه في الولايات المتحدة.

وبالرغم من أن Luxottica كانت تهتم حصرًا بتطوير إطارات النظارات الفاخرة وبيعها مع دور الأزياء المرموقة، إلا أن هذا لم يمنعها من التوسع إلى الأسواق النامية وتصميم نظارات بأسعار اقتصادية، بل تقديم هذه النظارات ضمن المبادرات الخيرية حول العالم.

وعندما قرر المنافسون أن يحاولوا اللحاق بركب ديل فيكيو، كان قد وصل إلى مكانة من الصعب منافستها وأصبح يمتلك الحقوق الحصرية لأكثر من 80٪ من دور الأزياء العالمية، ومعها القدرة على تحديد الأسعار والتحكم في صناعة النظارات حول العالم.

قرر ديل فيكيو التقاعد واعتزال التجارة بحلول عام 2004، إذ كان قد بلغ من العمر 70 عامًا، فترك الشركة تحت إدارة أندريا غويرا. ولكن لم يطل عهد غويرا إذ قرر ديل فيكيو أن يعود لإدارة شركته بنفسه.

شركة Luxottica

Luxottica

صفقة عملاقة وحلم يتحقق

مرت الشركة بفترة مضطربة كثيرًا بعد أن عاد ديل فيكيو، وهو ما دفع كثير من المحللين والمهتمين بالأسواق المالية للتساؤل حول قدرة ديل فيكيو والشركة بشكل عام على التعافي من هذه الأزمات المتتالية.

ولكن من رحم المعاناة يولد النجاح. ففي عام 2017، تمكن ديل فيكيو، الذي كان يبلغ من العمر وقتها 81 عامًا، من الاندماج مع شركة Essilor الفرنسية التي تصنع أكثر من نصف النظارات الطبية حول العالم، كما عُين رئيسًا تنفيذيًا للشركة بنسبة 32٪ من الأسهم. وقد وصف ديل فيكيو هذه الخطوة بحلم العمر الذي تحقق متأخرًا.

وبالرغم من أن المؤسسة الجديدة لن تحتكر عالم صناعة النظارات، إلا أنه وخلال 7 قرون من صناعة النظارات لم تكن هناك مؤسسة بهذا الحجم بحسب ما وصفتها جريدة الغارديان. لذلك كان منافسو ديل فيكيو الصغار يشعرون بالخطر الكبير من هذا الحلم.

ولم يتوقف طموح ديل فيكيو عند هذا الحد، إذ حاول في عام 2019 توسيع شبكة منافذ الشركة لتصل إلى أكثر من 16 ألف منفذ حول العالم عبر الاستحواذ على نسبة كبيرة من أسهم شركة GrandVision. ولكن هذه الصفقة لم تتم.

توفي ديل فيكيو في عام 2022 وهو  في السابعة والثمانين من العمر، مخلفًا  ثروة تصل إلى 27 مليار دولار. واليوم يتساءل العالم أجمع عن مصير ثروته العملاقة وشركاته المتنوعة وذلك بسبب وضع عائلته المعقد. كما أنه لم يترك لأحدهم إدارة الشركة بشكل كامل، لذلك لن يستطيع أحد أن يملأ مكانه.