دون سبب واضح يرافقك حزن يشوبه عدم اكتراث، يخالجه ضيق وانطفاء داخلي، ويخبو فضولك المعتاد، هي أعراض يمر بها كثيرون من حولك اليوم، إن لم يكن كل الوقت، ففي أحيان كثيرة منه، ولا يبدو لي وفق التشخيص العلمي أن لها اسمًا آخر سوى "اكتئاب".

العلم يصنف تسعة أنواع للاكتئاب، لكني هنا لن أتحدث عن الاكتئاب الانفعالي الناجم عن مسبب أو حدث قاسٍ كفقدان عزيز، وإنما أتحدث عن نوع يحدث بلا سابق إنذار، لا يوقفك عن الحركة، وإنما يجعل أشياءك بلا نكهة، وربما يلازمك مدى الحياة، وسأنطلق من سببه بلا مقدمات "مخالفة نظامك الداخلي".. فكيف يحدث ذلك؟

نظامك الداخلي أو فطرتك تشبه نظام التشغيل في الحاسوب، لو أحسنت استخدامه، كان أداؤه كما تريد، ولو أنك استخدمت برمجيات ضارة، وأسأت الاستخدام، ستتكرر رسالة Error.

نظامك الداخلي ذاك يمنحك الانسجام والاتساق الداخلي الذي ينعكس سلوكًا خارجيًا، فمثلاً الاستيقاظ في الصباح.. النوم في الليل.. المشي.. الشعور بالحرية.. التواصل الإنساني.. تأسيس عائلة.. كل تلك أمثلة على كنه ذلك النظام.

ويحدث أن تواظب على فعل أمر يخالف نظامك الداخلي، فيبدأ انسجامك الداخلي بالاهتزاز. وتاليًا ينشأ تناشز وصراع داخلي مصدره شعورك بفقدانك السيطرة، سمِّه إن شئت اضطرابًا لكنه غالبًا سيصبح اكتئابًا.

لاحظ معي استيقاظك باكرًا، ترتيب سريرك، تناول فطور صحي، تنفس هواء نظيف، ممارسة بعض الرياضة، وضع قائمة لما يجب فعله اليوم.

أمور بسيطة.. لكنها تشعرك بالراحة وربما السعادة تمنحك شعورًا خفيًا أن الأمور تحت السيطرة.. شعورًا بانسجام داخلي، لأنك مفطور على الاستيقاظ في النهار والنوم في الليل.. تمامًا كعشرات السلوكيات التي تشعر بمواءمتها لفطرتك ونظامك، فتساهم في انسجامك.

 عندما تسهر كل يوم حتى وقت متأخر، تلعب الورق، تخالف نظامك الداخلي، وهناك جرس داخلي يقرع مرارًا، يقول لك يكفي، قم جسدك متعب.. أهلك بانتظارك.. لكنك تصر على مخالفة نظامك الداخلي. يتكرر ذلك، تقضي نهارك جالسًا، أو تقود سيارة، لا تمشي، لا تمارس تمارين.. تتسع الفجوة بين نظامك وسلوكك فيملأ الاضطراب ذلك الفراغ.

جُبل الإنسان على أن يأكل ليعيش، أما نزعة الاستهلاك المتصاعدة اليوم فجعلتنا نعيش لنأكل.. اختلال في نظامنا الداخلي.. الاكتئاب في هذا النوع تحديدًا هو عقوبة يفرضها النظام عندما تخالفه، ولعل ذلك أحد أسباب تسميته بداء العصر.

تخالف نظامك لتحصل على بعض اللذة من سلوك هنا وسلوك هناك.. وينطفئ بداخلك نور هنا ونور هناك.

قد لا تملك خيارات أحيانًا، لكن نظامك للأسف لا يأبه لظروفك، يفهم أنك تخالف ما رُكبت عليه.. لا يفهم أنك جزء من منظومة يحكمها نظام اقتصادي معقد تدور عجلته في  أحيان كثيرة على أنقاضك.

في عام 1957 وضع العالم ليون فسينجر نظرية أطلق عليها اسم التنافر الإدراكي.. خلاصتها أن الشعور بالتنافر يتولد فينا عندما تتعارض معتقداتنا مع ما نفعله.. فأنت مثلاً تؤمن بأن طريق التدخين خطير، لكنك لا تتوقف، وفي كل مرة تدخن تتألم. يقول فسينجر إن هناك حالة من التوتر أو الإجهاد العقلي أو عدم الراحة يعانيها الفرد الذي يحمل اثنين أو أكثر من المعتقدات أو الأفكار أو القيم المتناقضة في الوقت نفسه، أو يقوم بسلوك يتعارض مع معتقداته وأفكاره وقيمه.

وصف فسينجر سعينا للتوازن والانسجام كرغبة الجسم في تناول الطعام عند الشعور بالجوع... تخيل أن تجوع فلا تأكل! سيعتل بدنك. قس على ذلك، فإن اختل توازنك الداخلي ولم تتمكن من عدله.. ستكتئب.

إذن الركود الذي تعيشه نفسك مصدره اختلال في الاتساق الإدراكي لديك، وهو ما يشير إليه أيضًا هايدر فريتز في نظريته "التوازن". فعنده  دافع الاتساق هو الرغبة في الحفاظ على القيم والمعتقدات بلا تناقض مع مرور الوقت.

أما الطريق لكي تحد من حالة اضطرابك وتوترك فيفضي بك إلى مفترق طرق:

الأول أن تغير معتقدك، بمعنى أن تقتنع بأن النوم في النهار والسهر في الليل هو الصحيح وهذا لا يقبله منطق.

الثاني أن تغير السلوك ببساطة وتنام بانتظام لتصحو بانتظام، ومن هناك تبدأ بلملمة شتات نفسك وتنفيس اضطرابها.