تُعد القصور التاريخية عنصرًا أساسيًا في تشكيل الهوية البصرية لأشهر الأعمال الدرامية، إذ تستمد منها العدسة سحر المكان وعمق الحكاية. ففي خلفية المشاهد التي تدور داخل أروقة بلاطات العائلات النبيلة أو بين جدران القصور الملكية، تقف مبانٍ حقيقية تحمل إرثًا معماريًا وثقافيًا يعود لقرون مضت.
بعضها لا يزال مأهولًا من قِبل العائلات المالكة، وبعضها تحوّل إلى مواقع مفتوحة أمام الزوّار، فيما حافظت جميعها على حضورها القوي في الأفلام التي تبحث عن مواقع تصوير تنبض بالأصالة.
في هذا التقرير، نسلّط الضوء على أبرز القصور التاريخية التي خلدتها الشاشة، والتي شكّلت خلفية واقعية لمسلسلات عالمية. من إنجلترا إلى اسكتلندا، وصولًا إلى الولايات المتحدة، نأخذكم في جولة بين معالم لا تزال شاهدة على عصور من الفخامة والأحداث التي استوحى منها صناع الدراما أفضل لحظاتهم.
Highclere Castle
نبدأ من إنجلترا، حيث تلتقي العراقة الملكية بالإرث الدرامي في واحد من أكثر المواقع تميّزًا على الشاشة الصغيرة. في مقاطعة هامبشاير الهادئة جنوب إنجلترا، تنتصب قلعة هايكليـر، أحد القصور البريطانية الأكثر شهرة، ليس بفضل هندسته المعمارية الفيكتورية فحسب، بل لكونه الوجه الحقيقي لمنزل عائلة كراولي في المسلسل البريطاني الشهير Downton Abbey، الذي أعاد القصر إلى الواجهة العالمية ومنحه مكانة أسطورية في ذاكرة المشاهدين.
يمتد القصر على مساحة شاسعة تُقدّر بألف فدان، ويضم أكثر من 300 غرفة موزعة على طوابق متعددة، تشمل صالات استقبال ملكية، وغرف نوم بطابع تاريخي، ومكتبات، وحدائق جرى تنسيقها بعناية فائقة.
تعود أصول القصر إلى القرن الثامن، لكنه اكتسب هيئته المعمارية الحالية في القرن التاسع عشر بفضل تصميم المهندس الشهير تشارلز باري الذي صمّم أيضًا مبنى البرلمان البريطاني.
قلعة هايكليـر ليست مجرّد موقع تصوير؛ بل هي مقر إقامة فعلي لعائلة كارنارفون، إذ لا يزال الكونت والكونتيسة الحاليان يعيشان فيه حتى اليوم، ويُديرانه بوصفه موقعًا سياحيًا مفتوحًا جزئيًا للجمهور.
وقد استقبل القصر عبر تاريخه الطويل عددًا من أفراد العائلة الملكية البريطانية، بينهم الملك تشارلز الثالث، ما يعكس مكانته ضمن النسيج الأرستقراطي البريطاني.
Historic Houses
Lyme Park
ومن قصر هايكليـر الذي أسر القلوب في Downton Abbey، ننتقل إلى موقع آخر لا يقل شهرة أو تأثيرًا في مخيلة الجمهور، خصوصًا عشّاق الأدب الإنجليزي الكلاسيكي.
بين التلال الخضراء والمروج المترامية في ريف تشيشير الإنجليزي، يقع متنزه لايم، وهو واحد من أكثر الصروح الريفية إثارة للخيال الأدبي والبصري في بريطانيا.
ليس لأنه شكّل الخلفية الأيقونية لمشهد قصر بمبرلي في النسخة الكلاسيكية من مسلسل Pride and Prejudice الذي أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي عام 1995، بل لأنه يحمل في طيّاته إرثًا معماريًا وثقافيًا يمتد لقرون.
ينتمي القصر إلى الطراز الإليزابيثي في أساسه، إذ بُني في القرن السادس عشر، غير أنّه خضع لتحولات معمارية ملحوظة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حين أُضيفت إليه لمسات من العمارتين الباروكية والكلاسيكية الجديدة، ما جعله تجسيدًا متقنًا لتحوّلات الذوق الإنجليزي عبر العصور.
وكان القصر المقر العائلي لعائلة لِيغ Legh، إحدى العائلات الأرستقراطية التي احتفظت بملكية القصر لأكثر من ستمائة عام، قبل أن تنتقل ملكيته في القرن العشرين إلى هيئة "ناشونال ترست" National Trust المعنية بحماية التراث البريطاني.
National Trust\Suave Air Photos
Lyndhurst Mansion
وبعيدًا عن الأراضي البريطانية، تطل علينا سواحل نهر هدسون بقصر يُجسّد ذروة الثراء الأمريكي، ويعكس تحوّلات المجتمع في العصر الذهبي.
قصر ليندهيرست، الواقع على ضفاف نهر هدسون شمال مدينة نيويورك، يُعد أحد أبرز معالم الهندسة المعمارية في القرن التاسع عشر، وقد اختاره المخرج البريطاني جوليان فيلوز ليكون أحد مواقع التصوير المحورية في مسلسل The Gilded Age.
بفضل نمطه المعماري القوطي المستعاد وتفاصيله الداخلية الغنية، شكّل القصر خلفية بصرية مثالية لتجسيد روح العصر الذهبي في نيويورك، ذلك الزمن الذي تداخلت فيه الأناقة الأرستقراطية مع صعود الصناعات الكبرى.
شُيّد القصر في عام 1838، واشتهر لاحقًا بوصفه مقرًا لقطب السكك الحديدية الشهير جاي غولد الذي أضاف إليه طابعًا شخصيًا من الفخامة الكلاسيكية. يتميّز القصر بأبراجه المدببة ونوافذه المقوّسة وأرضياته المصمّمة يدويًا، إلى جانب الحدائق المحيطة التي تشكّل مشهدًا بانوراميًا ساحرًا.
Lyndhurst Mansion
Castle Howard
أما في قلب ريف شمال يوركشاير، فتتربّع قلعة هوارد بوصفها رمزًا فنيًا ومعماريًا استثنائيًا وتقدّم مشهدًا بصريًا لا يُنسى في واحد من أنجح المسلسلات الرومانسية في العصر الحديث.
في عالم مسلسل Bridgerton المتخم بالبذخ والرومانسية، برزت قلعة هوارد كونها أحد المواقع التصويرية الأيقونية، إذ جُسّدت فيها ملامح قصر كليفدون Clevedon Hall، مقر إقامة دوق هاستينغز، الشخصية المحورية في الموسم الأول من السلسلة.
تنتمي القلعة إلى عائلة هوارد النبيلة منذ أكثر من 300 عام، وتُعد من أبرز الأمثلة على العمارة الباروكية الإنجليزية. بدأ تشييدها في أواخر القرن السابع عشر بتكليف من تشارلز هوارد، إيرل كارلايل الثالث، على يد المهندس المعماري الشهير جون فانبرا واستغرق بناؤها أكثر من 100 عام حتى اكتملت ملامحها.
تضم القلعة 145 غرفة، تتوزع على طوابق فخمة تحتضن لوحات أصلية، ومجموعات أثرية، وأثاثًا يعود إلى قرون مضت، إلى جانب قاعة مركزية بقبة ضخمة تُعد من أبرز معالمها الداخلية. أما الحدائق، فهي عالم قائم بحد ذاته، تمتد على مساحة شاسعة وتزدان بالبحيرات، والمعابد الكلاسيكية، والتماثيل، وكنيسة خاصة لا تزال تُستخدم إلى اليوم.
Grand Yorkshire
Wilton House
يحضر قصر ويلتون بوصفه محورًا أساسيًا في مشاهد البلاط الملكي، وموقعًا لا غنى عنه في أعمال تتناول حقبات تاريخية فارقة. يمتد تاريخ القصر العريق إلى القرن السادس عشر، ويُعد مقرًّا لعائلة بيرسي منذ أكثر من 400 عام، محتفظًا بطابع معماري يمزج بين الطرازين الإليزابيثي والباروكي، مع إضافات كلاسيكية أحدث شيدها المهندس إينغو جونز.
في قلب القصر، تُبرز الغرفة المزدوجة الكبرى Double Cube Room بتناسق أبعادها ورسوماتها الجدارية عبقرية التصميم الإنجليزي، ما يجعلها الخيار المثالي لتجسيد البلاط الملكي في العديد من الأعمال الشهيرة. فقد أدّت دور قاعات قصر بكنغهام في مسلسل The Crown، واستُخدمت خلفية لمشاهد من فيلم The King’s Speech، إذ نُقلت مشاعر التوتر الملكي في ديكور واقعي يليق بفخامة الحقبة.
لكن سحر ويلتون لا يقتصر على قاعاته الداخلية. فالحدائق المترامية التي تحتضنه بممراتها الحجرية، وجسورها، وتماثيلها الكلاسيكية تحوّلت إلى لوحات سينمائية حيّة في أعمال مثل Bridgerton وEmma وPride and Prejudice. تلك المساحات المفتوحة، التي تجمع بين التناسق الهندسي والطبيعة الخلّابة، منحت المشاهد خلفيات بصرية تعبق بالرقي والفخامة.
Historic Houses
Chatsworth House
وعند الحديث عن الترف الأرستقراطي والذوق الرفيع، لا يمكن تجاوز قصر تشاتسوورث، الذي جسّد قصر بمبرلي على نحوٍ لا يُنسى في واحدة من أنجح الاقتباسات السينمائية لروايات جين أوستن.
قصر تشاتسوورث، الواقع في قلب ديربيشاير، يمثّل ذروة المعمار النبيل الذي اختزل قرونًا من التقاليد والثراء. عُرف لعشاق السينما بوصفه قصر "بمبرلي" في النسخة الشهيرة من فيلم Pride and Prejudice عام 2005، إذ شكّل خلفية مثالية لشخصية السيد دارسي وجاذبية عالمه الطبقي المغلق.
ظل القصر مقرًا لعائلة دوق ديفونشير على مدى ستة عشر جيلًا، وهو يضم أكثر من 300 غرفة، من بينها صالونات كلاسيكية، ومكتبات أرشيفية، وغرف نوم فخمة تحتفظ بسحر القرون الماضية.
كما يحتضن القصر مجموعة فنية بارزة تشمل لوحات وتماثيل لفنانين كبار مثل رامبرانت وكاناليتو ولوسيان فرويد، ما يجعله متحفًا حيًا بامتياز.
أما الحدائق المحيطة، فهي قطعة فنية تمتد على مساحة 105 فدادين، وتتوزّع فيها شلالات صناعية، ومتاهات نباتية، وتماثيل حجرية منحوتة بعناية، إلى جانب المسارات المظللة والبرك العاكسة التي تُضفي طابعًا شعريًا على المكان.
وقد خضع القصر أخيرًا لأعمال ترميم واسعة بلغت كلفتها 40 مليون دولار، شملت ترميم الواجهات الحجرية وإعادة إحياء الزخارف الداخلية، بهدف الحفاظ على هذا الإرث التاريخي وتقديمه للأجيال المقبلة بمستوى يليق بعراقته.
Chatsworth House
Blenheim Palace
وإذا كانت القصور البريطانية رمزًا للهيبة، فإن قصر بلينهايم يُجسّد هذه المكانة بمختلف تفاصيله، من عظمته المعمارية إلى حضوره المتكرّر في أضخم الأعمال التلفزيونية.
بلينهايم، هو الصرح الوحيد في البلاد الذي يحمل لقب "قصر" رغم كونه مملوكًا لجهة غير العائلة المالكة، إذ مُنح لعائلة تشرشل عربون امتنان من التاج البريطاني للدوق الأول لمارلبورو عقب انتصاره في معركة بلينهايم عام 1704.
شكّل القصر لاحقًا مكان ولادة رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل، ولا يزال حتى اليوم المقر الرسمي لعائلة دوقات مارلبورو. أما من حيث البنية، فيتميّز بلينهايم بفخامته الباذخة، من الصالات الرخامية التي تزيّنها الجداريات الذهبية، إلى المكتبة ذات القبة الكبرى، والحدائق الفرنسية ذات المسارات الهندسية الدقيقة.
هذه الخلفية التاريخية والمعمارية جعلت من القصر موقعًا محببًا لصنّاع الدراما التاريخية. ففي سلسلة Queen Charlotte، أدّى دور قصر بكنغهام، مستعرضًا واجهاته الفخمة وسلالمه الداخلية الفاخرة. كما استعان به القائمون على مسلسل Bridgerton في مشاهد القصور الملكية التي تطلبت طابعًا مهيبًا يمتزج فيه الرقي مع العظمة الإمبراطورية.
Blenheim Palace
Hatfield House
أما في هيرتفوردشير، فيصعب تجاهل الحضور التاريخي لقصر هاتفيـلد، الذي جمع بين الذاكرة السياسية والملكية ليصبح محطة سينمائية محببة لصنّاع الدراما. أُنجز بناؤه عام 1611 بأمر من روبرت سيسيل، كبير مستشاري الملك جيمس الأول، فوق أنقاض القصر القديم الذي قضت فيه الملكة إليزابيث الأولى سنوات طفولتها، ليرث بذلك موقعًا مشبعًا بالرمزية السياسية والملكية.
القصر الذي لا يزال في حوزة عائلة سيسيل منذ أكثر من 400 عام، يتميّز بتفاصيل معمارية من طراز الجاكوبي، أبرزها واجهته المتناسقة ونوافذه المتماثلة وحدائقه المورقة التي تحتضن تماثيل كلاسيكية وأسرّة زهرية متناظرة.
جعل هذا المزيج من القصر مكانًا مثاليًا لتصوير مشاهد داخلية وخارجية لأعمال بارزة مثل The Crown وRebecca وفيلم The Favourite، إذ يعكس تنوّع الغرف واتساع القاعات وثراء الديكور الداخلي بيئة مثالية لتجسيد بلاط الملوك والنبلاء. ولا تقتصر جاذبية المكان على عدسات الكاميرا فحسب، بل يمتد أثره إلى الزوّار الذين يقصدونه لاكتشاف التاريخ البريطاني في أحد أكثر قصوره محافظة على هويته الأصلية.
Hatfield House
Inveraray Castle
تأخذنا العدسة أيضًا إلى أعالي اسكتلندا، حيث تنتصب قلعة إنفيراري وسط الطبيعة الخلابة، شاهدة على تاريخ عريق لا يزال ينبض بالحياة في الأعمال الدرامية المعاصرة. بُنيت القلعة في القرن الثامن عشر لتكون مقر إقامة دوقات أرغيل، ولا تزال حتى اليوم مملوكة لعائلة كامبل، إحدى أعرق العائلات النبيلة في البلاد.
تتميّز القلعة بقبابها الأربع الشهيرة وبرجها المركزي، وقد خضعت لعمليات ترميم دقيقة على مدى العقود للحفاظ على تفاصيلها الزخرفية من الداخل والخارج. تضم القلعة قاعات فسيحة مزينة بلوحات زيتية وسلاح أثري يعود إلى قرون مضت، وتحيط بها حدائق هندسية تُطل مباشرة على البحيرة، ما يعزّز من طابعها الرومانسي والملوكي في آنٍ معًا.
في عام 2012، برزت القلعة على الشاشة العالمية من خلال ظهورها في مسلسل Downton Abbey، إذ أدّت دور "قلعة دونيغل"، الوجهة التي زارها آل غرانثام لقضاء عطلتهم الصيفية.
هذا الظهور عزّز من شهرة إنفيراري، وجعلها مقصدًا رئيسًا لعشّاق المسلسل والباحثين عن تجربة ملكية حقيقية بطابع اسكتلندي أصيل. واليوم، تُفتح أبواب القلعة لاستقبال الزوار، الذين يمكنهم التعرّف عن كثب إلى إرث العائلة المالكة، والتجوّل بين أروقة التاريخ العريق.
Historic Houses
The Breakers
ومن سحر اسكتلندا ننتقل إلى بذخ الساحل الأمريكي، حيث يختصر قصر ذا بريكرز في رود آيلاند ملامح عصر الثراء الطاغي في نهايات القرن التاسع عشر. أُنجز بناء القصر لصالح كورنيليوس فاندربيلت الثاني، أحد أبرز ورثة إمبراطورية فاندربيلت، وقد استُوحي تصميمه من القصور الإيطالية في عصر النهضة.
Newport Mansions
يضم القصر ما يزيد على 70 غرفة، نُفّذت بزخارف غنية ومواد فاخرة، من بينها رخام مستورد من إيطاليا وإفريقيا، وأسقف مرصعة بورق الذهب، وسلالم من الرخام تحاكي الطراز الأوروبي الكلاسيكي. وتُعد قاعة الرقص الكبرى، ذات السقف المرتفع والتفاصيل الذهبية، من أبرز معالمه الداخلية وأكثرها جذبًا للزوار.
بفضل هذا البذخ المعماري، اختاره صُنّاع مسلسل The Gilded Age موقعًا لتصوير عدد من المشاهد المحورية، وعلى رأسها مشهد قاعة الرقص، ما ساهم في تسليط الضوء مجددًا على هذا المعلم التاريخي الذي يُجسّد مظاهر الثراء الأمريكي في نهايات القرن التاسع عشر.