قبل أن تتقن المختبرات الحديثة أسرار التركيبات العطرية، كان جذر السوسن "الأوريس" Orris يؤدي دوره في الخفاء داخل وصفات الجمال والعلاج لدى الإغريق والرومان. مادة نادرة احتفظت برمزيتها عبر القرون قبل أن تعود اليوم إلى الواجهة بوصفها إحدى أرقى ركائز العطور الفاخرة.

على الجانب الآخر، يحتل البنفسج مكانة خاصة في تاريخ العطور؛ فقد عُرف برائحته البودرية الرقيقة التي أصبحت السمة المميّزة لعطور القرن التاسع عشر. وتشتهر منطقة الألب البحرية بزراعته، فيما تأتي أوراق البنفسج اليوم بشكل أساسي من مصر، لتغني لوحة العطّارين بروائحها العميقة.

الأوريس والبنفسج بين الفخامة والحداثة

في حديث عن الفارق بين رائحة الأوريس والبنفسج ودورهما في بنية العطر، يوضح أولاف لارسن، كبير صانعي العطور في شركة إورفرجرنسي أن جذور الاختلاف تبدأ من النبات نفسه ومن الجزء المستخدم في الاستخلاص، قائلاً: "البنفسج يمنح مادته العطرية من الأوراق، لذلك يأتي مستخلص أوراق البنفسج بلون أخضر ونفحة حادة تشبه الكلوروفيل. في المقابل، يُستخرج الأوريس من الجذور، ما يمنحه طابعًا أرضيًا جذريًا ومسحوقيًا واضحًا".

ورغم جمال أزهار السوسن والبنفسج، يشير لارسن إلى أن صانعي العطور يعتمدون على زبدة الأوريس المستخلصة من الجذور ومستخلص أوراق البنفسج، لتستقر هذه المكونات في قلب الهرم العطري بأدوار تتغيّر حسب الجرعة؛ لمسة خفيفة من البنفسج تضفي غنىً هادئًا وأبعادًا خضراء لطيفة، فيما الجرعات الأكبر تعزز حضور النفحة الخضراء. وينطبق الأمر نفسه على الأوريس، إذ تمنح الكميات الصغيرة نعومة كريمية مسحوقية، فيما تضفي الجرعات السخية ثقلاً وعمقًا ولمسة جذعية أو خشبية تتناغم مع الأخشاب الأخرى.

الأوريس والبنفسج بين الفخامة والحداثة

Tom Ford Beauty

وعند التطرّق إلى الأناقة الملكية للأوريس وتعقيد عملية استخراجه، يقدّم لارسن قراءة خاصة لهذا المكوّن الاستثنائي، موضحًا أنه واحد من أرفع العناصر في عالم العطور، ليس لندرته فحسب بل أيضًا لثقله الرمزي. وفي هذا يقول لارسن: "الأوريس دائمًا مرتبط بالأناقة والفخامة العالية لأنه من أغلى المواد في عالم العطور. إدراج مادة خام ثمينة مثل هذه يجلب فورًا شعورًا بالهيبة، مثل إضافة الكافيار إلى طبق فاخر". ثم يضيف موضحًا الخلفية التاريخية لاستخدامه قائلاً: "تقليديًا، ارتبطت النفحات الزهرية بالعطور النسائية، لذلك كان استخدام الأوريس بجرعات كبيرة يُصنَّف أنثويًا بامتياز، إلى أن قلبت ديور هذه المعادلة، عندما قدّمت الأوريس في قلب تركيبة رجالية في خطوة ثورية آنذاك".

ورغم ارتباط الأوريس تاريخيًا بالنفحات المسحوقية الكلاسيكية المستوحاة من مستحضرات التجميل القديمة، يكشف لارسن أن صناع العطور المعاصرين أعادوا تفسيره عبر مزجه مع مكوّنات أكثر جرأة وحداثة، لتنتقل صورته من طابع قديم الطراز إلى توقيع أنيق وحديث وراق ينسجم مع الذائقة المعاصرة، خصوصًا في الشرق الأوسط.

الأوريس والبنفسج بين الفخامة والحداثة

Givenchy Beauty

حوار عطري بين عمق الأوريس وانتعاش البنفسج

وفي ما يخص البنفسج، صاحب الجذور الأوروبية والرمزية الثقافية العميقة، يتوقف لارسن عند أثره في العطور الرجالية، مستشهدًا بعطور باتت جزءًا من ذاكرة عشّاق الروائح: "إرث البنفسج في العطور الرجالية لا يمكن تجاهله، إذ إن العديد من العطور الأيقونية مثل Fahrenheit اشتهرت بتوقيع البنفسج الأخضر الفريد". لكنه يشير إلى أن دور البنفسج تطوّر في التركيبات المعاصرة، قائلاً إن البنفسج غالبًا ما يتراجع اليوم خطوة إلى الخلف ليؤدي دورًا داعمًا، لا يقود المشهد بل يثريه ويعزّز حضور المكوّنات الأخرى. ومع زيادة نسبته في التركيبة يكتسب العطر بعدًا نقيًا ومنعشًا يوازن بين البساطة والرقي، لتظل نفحات البنفسج محتفظة بطابع معاصر يناسب التركيبات المصممة لأسواق الخليج التي تقدّر العطور النظيفة الأنيقة ذات اللمسة الخضراء الرفيعة.

وحين يجتمع الأوريس والبنفسج في تركيبة واحدة، تتجلى براعة صانع العطر في صياغة توازن معقّد بين العمق والانتعاش، من دون الانزلاق إلى طابع قديم أو تقليدي. في هذا يقول لارسن: "الأوريس يمتد إلى قاع التركيبة، مرسّخًا ثراءً كريميًا ومسحوقيًا مع عمق جذري وملمس شبه مخملي، فيما يرتفع البنفسج نحو الأعلى، ليكسو العطر بنضارة خضراء، وحلاوة دقيقة، ولمعان خفيف يضفي على الرائحة بعدًا مشرقًا". هذا التفاعل الطبيعي بين الأسفل والأعلى، وبين العمق والنضارة، يمنع المزيج من أن يبدو كلاسيكيًا أكثر من اللازم، ويحوّله إلى بنية عطرية عصرية ومتعددة الأبعاد، إذ يمنح الأوريس قاعدة متجذرة فاخرة، فيما يضيء البنفسج بنفحاته الخضراء الرشيقة سطح العطر بحيوية محسوبة.

حوار عطري بين عمق الأوريس وانتعاش البنفسج

Clive Christian

بين كلفة الاستخلاص وذائقة الشرق الأوسط

تقنيًا، لا يخفي لارسن أن العمل على الأوريس والبنفسج، سواء بصيغتهما الطبيعية أو الصناعية، يرتبط بتحديات مباشرة تتعلق بالميزانية المخصصة لصناعة العطر، مشبّهًا الأمر بتصميم قطعة أزياء راقية باستخدام أفخر أنواع الحرير أو الكشمير. وفي هذا السياق يوضح: "طبيعيًا، أفضل دائمًا استخدام أوريس طبيعي متقن وبالكمية المطلوبة، لما يمنحه من ثراء وأصالة لا يمكن تقليدها بالكامل".، ثم يضيف موضحًا أن واقع السوق لا يسمح دائمًا بهذه الرفاهية. عندها يلجأ إلى حلول تركيبية ذكية تمزج بين نسبة مدروسة من المكوّن الطبيعي وأفضل البدائل الصناعية المتقدمة للأوريس أو البنفسج، للحفاظ على الشخصية العطرية والهوية المطلوبة، مع الالتزام بالقيود المالية من دون المساس بجودة التجربة النهائية.

أما عن تأثير تقدير الشرق الأوسط للمكونات الفاخرة مثل العود والمسك في توظيف الأوريس والبنفسج داخل التركيبات الإقليمية، فيرى لارسن أن ذائقة المنطقة تنجذب تلقائيًا إلى الأعلى جودة والأكثر ندرة. في هذا الإطار يصف ثقافة العطر في الشرق الأوسط بأنها ثقافة تحتفي بالترف الحقيقي، قائلاً إن ذلك ينعكس مباشرة على اختيار المواد الخام. ويشير إلى أن الأوريس، بوصفه واحدًا من أغلى المواد في صناعة العطور العالمية، يتحول إلى أكثر من مجرد نفحة في الهرم العطري، إذ يصبح إشارة واضحة إلى قيمة العطر ومكانته.

بين كلفة الاستخلاص وذائقة الشرق الأوسط

Maison Francis Kurkdjian

إضاءات على عطور تحتفي بالأوريس والبنفسج

وفي سياق حضور هذين المكوّنين الفاخرين في صناعة العطور المعاصرة، تبرز أربعة إبداعات تؤكد كيف يمكن للأوريس والبنفسج أن يتحوّلا إلى بصمة عطرية متقنة تجمع بين العمق الكريمي والنفحات الخضراء المشرقة. يأتي عطر Givenchy Gentleman Society Eau de Parfum Extrême من جيفنشي بنسخة تركّز على ثراء السوسن، إذ تنسجم بودرته المخملية مع لمسة بنفسجية خفيفة تضيء تركيبة العطر بطابع حديث. أما عطر Tom Ford Noir Eau de Toilette من توم فورد، فيُعيد تفسير البنفسج بنفحة خضراء أنيقة تتقاطع مع نعومة السوسن، ليمنح توازنًا محسوبًا بين الدفء والانتعاش. ويكشف عطر Amyris Homme Extrait de Parfum من دار فرانسيس كوركديجيان عن معالجة أكثر سلاسة، يبرز فيها السوسن كنبضة زهرية – بودرية راقية تكتمل بلمسات بنفسجية تمنح العطر بعدًا مضيئًا. في المقابل، يحتفي عطر  Clive Christian No. 1 for Men من كلايف كريستيان بفخامة الأوريس في طبقات غنية متشابكة، يعززها البنفسج بنفحة خضراء شفافة ترتقي بثقل التركيبة إلى مستوى من الترف ينسجم مع هوية الدار.