"عش اللحظة".. عبارة يحثُّكَ شخص من خلالها على أن تتفاعل مع لحظة ما حدَّ التماهي معها، تتجاوز كل ما حولك من مشتتات لتنسجم معها، يحدث ذلك في جلسة مع مقرب، في زيارة لمكان محبب، في أي وقت يستحق منك تركيزك لتتذوق اللحظة وتتحسس طعمها، لكن السؤال: هل يبدو "عيْشُ اللحظة" كما عرفناه آنفًا أمرًا يسيرًا؟!

في عام 1998 أطلقت مديرة تنفيذية في مايكروسوفت اسمها ليندا ستون مصطلح "الانتباه الجزئي المستمر". هذا المصطلح حاز اهتمامًا بحثيًا واسعًا في الغرب، وهو يشير إلى حالة غياب تركيزنا عن اللحظة، ومنح اهتمام سطحي لعشرات الأشياء من حولك في أثناء قيامك بشيء واحد، في محاولة للانتباه إلى كل شيء وعدم تفويت أي شيء.

ذلك قطعًا لا يبدو سلوكًا جديدًا يسلكه الإنسان، فالمشتّتات وليدة كل زمان، لكن هناك ما ضاعفها أضعافًا في أيامنا هذه "الموبايل..التطبيقات.. الإشعارات...".

كنت أجلس مرة مع صديق نراقب غروب الشمس في مكان استوائي ساحر.. وكل بضع دقائق كان يتلقّى إشعارًا على جواله.. سألته: ما مصدر هذه الإشعارات؟ فقال: تطبيق إخباري.. سألته وما الخبر الذي أثار اهتمامك؟ قال: لا شيء.. قلت في نفسي متعجبًا لماذا نسمح للَّاشيء أن يقطع تركيزنا في لحظة نادرة كهذه كلّفتنا كثيرًا؟!

أغلى شيء يفتقده إنسان هذا الزمان هو التركيز والانتباه.. فحياتنا أصبحت شاشة صغيرة، وتطبيقات كثيرة، وكل تطبيق يريد أن يسرق ما أمكنه من انتباهك.. عشرات الإشعارات تقاطع لحظاتك كل يوم، وهي في معظمها لا تحتاج إلى رد سريع منك، لكننا نعتقد ضرورة الرد الفوري على كل إشعار. نظرًا لأننا نعيش عالمًا يتحرك بسرعة، نعتقد أن كل شيء فيه يجب أن يعمل بسرعة مماثلة.

لاحظ معي وأنت تقرأ كتابك المفضل كيف تتفحص جوالك بشكل متكرر مع أنك متأكد غالبًا أن لا جديد فيه؟! يتكرر الأمر في جلستك مع صديقك المفضل.. فيلمك المفضل.. زيارتك لمكانك المفضل.. تأملك وعبادتك.

أذكر أنني عايشت أجمل ثلاث ساعات أقرأ كتابًا في رحلة بين مدينتين ليلاً وانتهى شحن جوالي، قرأت حقًا مستمتعًا بتركيز.. فكم نحن بحاجة إلى ذلك في حياتنا المليئة بالمشتتات لنقف قليلاً مع ذاتنا ونتذوق لحظاتنا.. نحتاج إلى بناء مساحات للراحة، لحظات لالتقاط الأنفاس.

الانتباه الجزئي المستمر الذي تعززه تنبيهات أجهزتنا الذكية يُسبب إفراطًا في التحفيز وقلة في الإنجاز.. ففي كل مرة يدفعك حافز لتفحص جوالك انتظارًا لتفاعل أحدهم معك، تلقِّي إعجاب أو طلب صداقة.. فلا تجد.. فيخيب أملك يوميًا عشرات الخيبات الصغيرة جدًا، صغيرة حقًا لكنها تساهم في توترك ولو جزئيًا.

العلم يقول إنَّ هناك أمراضًا مرتبطة بالاهتمام والتوتر تؤدي لإطلاق سلسلة من هرمونات التوتر مثل الكورتيزول؛ ونتيجة لذلك فإن الهرمونات التي تساعدنا على الشعور بالهدوء والسعادة مثل الدوبامين والسيراتونين يتراجع إفرازها.. وفرة الكورتيزول في أجسامنا هي السبب في حاجتنا إلى الأدوية لمساعدتنا على النوم.

لذلك نحتاج إلى أن نخصص بعض وقت للفراغ التكنولوجي، نخصص جزءًا من يومنا بعيدًا عن الجوال، وإشعاراته.
ولتعلم أنك لن تحيط بكل شيء.. وحدها اللحظة تستحق تركيزك، فلا تسمح لإشعار عابر أن يقاطعها؛ فالبهجة تصنعها تفاصيل لا نلتقطها لأنها بحاجة إلى تركيز يسرقه منك انتباهك الجزئي المستمر.