قد تتوقف كثيراً للتساؤل عن أسعار بعض الأطعمة الأغلى حول العالم، وقد تتساءل: هل يبالغ مقدمو هذه الأطعمة ومنتجوها في تقييمهم لأسعارها، أم أنها حقًا تستحق تلك القيمة؟ هل تستحق ذلك لما فيها من صنعة ومجهود أم لما تنفرد به من ندرة؟ هل تتوفر هذه الأطعمة حولنا أم أنها تشبه "لبن العصفور"، تلك المادة الأسطورية المستحيلة التي تتردد بين الكلمات الدارجة ولكننا بالطبع لا ولن نراها نحن ولا غيرنا؟
إنها أسئلة جديرة بأن تُطرح، فيما إجاباتها متروكة للقارئ بعد أن يطالع السطور التالية حول خمسة من الأطعمة الأغلى حول العالم.
الكافيار الألماسي
يشتهر الكافيار عموماً بكونه طعاماً للأثرياء، ولكن ما لا يعرفه البعض هو أن ثمة أنواعاً مختلفة من الكافيار، تتدرج في أشكالها وألوانها وأسعارها وفخامتها لتتناسب مع مكانة الساعين نحو تجربة خاصة جداً من المذاق.
أما أشهر أنواع الكافيار، فهو بلا منازع ذلك المأخوذ من أسماك الحفش بيلوغا، وموطنها في البحر الأسود وقبله جنوب بحر قزوين، حيث الأسماك الأكثر تميزاً في المنطقة التي يبدو أنها أقل تلوثاً. ولكن هذه الفصيلة من الأسماك معرضة لخطر الانقراض بسبب الصيد الجائر والتغييرات المناخية والتلوث وأخيراً تأثيرات الحروب، ولذلك يمكن بيع القليل جداً من بيض هذه الأسماك بشكل قانوني.
وربما تكمن المشكلة الحقيقية في أن أسماك الحفش الأبيض انقرضت تقريباً من بيئتها الأصلية، وإذا وجدت فإنها تستغرق ما يصل إلى عقدين من الزمن حتى تبلغ مرحلة النضج، ومن ثم البدء في تكوين بيوضها أو الكافيار.
بل إن أنثى سمكة الحفش الأبيض لن تبدأ في إنتاج ذلك الكافيار الألماسي الأغلى سوى في عمر يراوح من ستين إلى مائة عام، وهنا يتضح جزء مهم من الصورة.
فعلى من يريد أن يحصل على هذا الكافيار أن ينتظر "احتمالية "وجود أنثى سمكة حفش أبيض عمرها من ستين إلى مائة عام، وإذا وجدت عليه أن يتأكد من أن بيضها مطابق لمواصفات الكافيار الألماسي، إذ إن السمكة ستسلم بيضها المميز مرة واحدة فقط خلال عمرها المديد.
ولعل اسم هذا النوع من الكافيار في اللغة الروسية وهو Almas يوضح ما ينبغي أن يكون عليه من مواصفات، إذ يعني حرفياً "ألماس"، بمعنى أنه كلما كان أكثر بياضاً ولمعة كان أعلى من حيث الجودة والسعر.
ووفقاً لموسوعة غينيس للأرقام القياسية فإن أغلى غذاء في العالم جرى تسجيله في الموسوعة حتى الآن كان لكافيار Almas من سمكة حفش أبيض بيلوغا إيرانية تبلغ من العمر نحو 100 عام، إذ إنه بيع بحوالي 34,500 دولار للكيلوغرام الواحد.
يحاول كافيار "الذهب الأبيض" Strottarga Bianco المنافسة ولكن بطريقة مختلفة، إذ يأتي هذا الكافيار من بطارخ سمكة نادرة من نوع سمك الحفش ألبينو، وهو متاح من خلال طلب خاص فحسب، وسيكلفك الكيلوغرام الواحد منه أكثر من 320,000 دولار حسب آخر سعر مُعلن، إذ ستحصل على بيض سمك يسري خلاله ذهب عيار 24 قيراطاً، أو كافيار مرشوش بالذهب عيار 22 قيراطاً حسب الطلب وحسب السعر.
كما يمكنك شراء الكافيار الأبيض الخالي من الذهب مقابل 28,400 دولار للكيلوغرام أيضاً حسب آخر سعر مُعلن، قبل تحريك أسعار الذهب حول العالم. وينتج هذا الكافيار حصريًا من قبل شركة عائلية تعمل على إضافة الذهب بطريقة خاصة إلى الكافيار قبل تجفيفه وهو ما يرفع سعره، فيما يستغرق حصاد المنتج من 8 إلى 10 سنوات لكل دفعة.
باختصار وبحسبة بسيطة، قد تكلفك خمس ملاعق فقط من هذا الكافيار سعرًا يوازي ثمن بعض السيارات الجديدة.
الكمأة البيضاء
في عام 2007، دُفع مبلغ قياسي بلغ 330 ألف دولار مقابل ثمرة واحدة من أكبر أنواع الكمأة البيضاء المكتشفة بإيطاليا. بلغ وزن الكمأة آنذاك 1.3 كيلوغرام، وأطلق عليها اسم Tuber Magnatum Pico.
والكمأة عبارة عن فطريات جوفية تنمو في الغابات الأوروبية المعتدلة، وبالتحديد في مناطق محددة في إيطاليا مثل بييمونتي وتوسكانا، وبعض المناطق القليلة في جنوب أوروبا.
وفيما يُعرف الكمأ الأسود بالألماس الأسود، يُعد الكمأ الأبيض هو الأغلى، وهو يتمايز بالنكهة المتفردة والرائحة المكثفة، كما أن العثور عليه يعد أكثر صعوبة مقارنة بأي نوع آخر، لأنه ينمو بين جذور أنواع معينة من الأشجار فحسب مثل أشجار البندق والبلوط والحور في منطقة محددة جداً من العالم، فيما يعتمد سعره بشكل رئيس على الظروف التي ينمو فيها، والمدة التي يستغرقها العثور عليه والمدة بين العثور عليه وبيعه، والعدد المحدود المتاح منه في كل موسم.
وحسب الخبراء فإن جزءاً كبيراً من تقلبات العثور على الكمأ الأبيض تعود إلى المناخ، ولذا فإن أي تغيرات مناخية تنعكس على حجم وجودة محصوله كل عام، ما يعني أن التغيرات المناخية التي نعيشها الآن قد تغير خريطة وجوده النادر من الأساس أو حتى قد تقضي عليه.
فضلاً عن ذلك، فإن سبب ارتفاع أسعار الكمأ باستمرار يعود بجزء كبير منه إلى كونه واحداً من المحاصيل الغذائية القليلة التي رفضت باستمرار أن يجري تدجينها بالزراعة، ولذلك يجب العثور عليه بدلاً من زراعته. يُضاف إلى ذلك أن ثمة أنشطة مشبوهة نشأت بشكل دائم حول تجارة الكمأة.
فغالباً ما يتم سرقته وبيعه، ويتعرض المزارعون في مناطق وجوده للمضايقة، كما أن أنجح كلاب صيد الكمأ معرضة لخطر السرقة أيضاً لاستغلالها في عمليات البحث عنه ولكن لصالح من سرقها.
كل ذلك يضاف إلى ندرة المعروض من الكمأ الأبيض، ومشكلات التصدير وتأثر سلاسل التوريد نتيجة الأزمات العالمية المستمرة على مدار الأعوام القليلة الماضية، وكلها أفقدت السوق القدرة على التنبؤ بحجم الحصاد، ومن ثم تسببت في ارتفاع الأسعار بشكل مستمر وغير متوقع.
لحوم واغيو
تأتي لحوم واغيو من اليابان، وكلمة واغيو تعني بقرة باللغة اليابانية. وعلى ما يقول الخبراء، إنها تُعد اللحوم البقرية الأكثر طراوة، إذ إنها تُعرف بدهنها اللذيذ ونكهتها الشديدة.
وفي العادة يكون مصدر لحوم واغيو الأكثر تميزاً إناث أبقار واغيو العذراء من سلالة ماتسوساكا على وجه التحديد. وحسب آخر الإحصاءات المتوفرة، فإن تربية البقرة الواحدة من هذا النوع "المرفه" تكلف نحو 400,000 دولار، ونتيجة لذلك تصبح وجبات لحوم واغيو باهظة الثمن.
وقد يُؤتى بلحوم واغيو من أربع سلالات مختلفة من الأبقار اليابانية، في مقدمتها أبقار ماتسوساكا ثم كوبي، وأوهمي وبونجو، وكلها تتدرّج في مذاقها وأسعارها، ولكنها تتشابه في تفجر الدهون بين ثناياها في أثناء عملية الطهي، ما يجعلها تنهار مثل قطعة من السمك الناعم في الفم.
أما ارتفاع أسعار هذه اللحوم، فيعود إلى عملية التربية التي تؤهل البقر لحمل علامة واغيو، إذ يجب تربية الأبقار وتغذيتها وفقاً لإرشادات صارمة، وتغذيتها بعلف خاص لضمان الحصول على دهنٍ رخاميٍ مميز.
ورغم ذلك، فقد حاول بعض المربين خارج اليابان التهجين بين أكثر من سلالة للوصول إلى شكل قريب من لحوم واغيو، في محاولة لنسب إنتاجهم إلى العلامة، التي سارعت بدورها لوضع إشارات خاصة على منتجاتها لتؤكد أن شريحة اللحم مصدرها أبقار واغيو النقية غير المهجنة.
وعلى ما بتنا تعلم، فإن مختلف سلاسل التوريد حول العالم تأثرت سلباً خلال الأعوام الماضية، نتيجة لجائحة كورونا والصراعات الإقليمية التي تضافرت مع التغيرات المناخية لتنعكس على توافر السلع.
كبد الإوز
يعتمد هذا الطبق على كبد الإوز، ومن ثم فإن ثمة حاجة لتكبير هذا الكبد بما يتوافق مع طموحات الطهاة وأحلامهم، ولكن كيف؟
يُقال إن الشيطان يكمن في التفاصيل، وفي هذه التفاصيل تُغذى الإوز قسرياً من خلال أنابيب تغذية لأسابيع عدة بهدف تسمينها حتى عشرة أضعاف حجمها الطبيعي، ما يجعل كبد الإوز يتضخم ويعطي نكهة خاصة زبدية.
يتضخم الكبد لدرجة أن الطيور تصبح غير قادرة على المشي أو حتى الوقوف، وتتكرر عملية التلقيم لأسابيع عدة حتى يكون الذبح في النهاية هو الحل الوحيد لتخليص الإوزة من عذابها.
إن كبد الإوز أو كما يسمى بالفرنسية Foie Gras أغلى الأطباق ثمناً في فرنسا، إذ يصل سعر الطبق الواحد إلى أكثر من 200 دولار، وفرنسا تُعد هي المنتج والمستهلك الأول في العالم لكبد الإوز، إذ تنتج نحو تسعة عشر ألف طن سنوياً (نحو 90% من الإنتاج العالمي)، بينما تستهلك أكثر من 21 ألف طن وتستورد ما يعادل نصف إنتاج باقي الدول المنتجة حسب إحصاءات عام 2006.
وبينما يظل كبد الإوز وطريقة إنتاجه من الموضوعات المثيرة للجدل، التي أجازتها فرنسا لأسباب ترتبط بالثقافة الفرنسية، تعدّه بعض الدول ممارسة غير خلقية أو مشكوكًا في أخلاقياتها ولذلك سنت القوانين ضدها وحظرتها، فيما سعت دول أخرى كإسبانيا لإيجاد بدائل مثل كبد الإوز الخلقي La Pateria de Sousa.
وحسب الخبراء فإن تاريخ التغذية القسرية يعود إلى 2500 عام قبل الميلاد، عندما علم المصريون القدماء أنه يمكن تسمين العديد من الطيور من خلال التلقيم من أجل حفظ سلاسل إمداد الغذاء، ولكنهم أبداً لم يقوموا بذلك من أجل الحصول على كبد الطيور فحسب، ولكن للتغذية بشكل عام، إذ إن كبد الإوز غير موجود إطلاقاً في الطعام المصري الحديث.
ورغم سن فرنسا لبعض القوانين المنظمة لهذه العملية باعتبارها البلد الأول في استخدام هذه التقنية، إلا أن هذه القوانين لا تخفف من رحلة عذاب الطيور على مدار الأسابيع، ولذلك تجاهد منظمات الدفاع عن حقوق الحيوانات لمكافحة وإلغاء هذه الطريقة التي تصفها بالوحشية.
ولكن يبدو أن هذه الدعوات لا تؤتي ثمارها مع ثقافة سائدة وذائقة خاصة قامت عليها صناعة انتشرت في أقاليم فرنسية بكاملها مثل إقليم الألزاس شمال شرقي فرنسا وإقليم لاندز في جنوبها الغربي، فيما يحتفظ طهاتها بأسرار أطباقهم لجذب المزيد من الذواقة، مع ضم المزيد من الطيور المعذبة لقوائمهم!
التونة زرقاء الزعانف
لسوء الحظ فإن التونة ذات الزعانف الزرقاء أصبحت من الأنواع المهددة بالانقراض، ولذلك قد نطالع بين الحين والآخر أسعارًا باهظة في عمليات بيعها، مثلاً أكثر من 5000 دولار للرطل (أقل من نصف كيلوغرام)، أو 1.8 مليون دولار لسمكة تزن نحو 272 كيلوغرامًا، وقبلها 3.1 مليون دولار مقابل 273 كيلوغرامًا، وغيرها من الأرقام القياسية نتيجة للندرة والعرض المحدود من هذه السمكة النادرة، بالإضافة إلى تكلفة التصدير المرتفعة.
ويشير الخبراء إلى أن أسماك التونة ذات الزعانف الزرقاء التي يمكن أن تعيش حتى 40 عاماً، مهددة بانقراض فصائلها الثلاث (الجنوبية والأطلسية، وفصيلة المحيط الهادئ) بسبب الصيد الجائر المتصاعد، وتغير الظروف المناخية والتلوث، على الرغم من محاولات تقنين عمليات الصيد واستحداث بدائل للصيد من فصائل أخرى، ولكن دون جدوى إذ تتصدر التونة ذات الزعانف الزرقاء قوائم المأكولات البحرية، كونها أشهى وأغلى المأكولات البحرية في العالم.
وثمة عدد من الأسباب لكون التونة زرقاء الزعانف الأغلى بين أقرانها. فحسب الخبراء، تعد التونة الزرقاء الزعانف الوحيدة التي تحتوي على دهن رخامي مكثف ومحتوى عال من الدهون، وتوازن دقيق بين النكهات مقارنة بالأنواع الأخرى من التونة، ما يفتح شهية عشاق التذوق للمطالبة بلحومها، الأمر الذي يجعلها في خطر دائم من ملاحقة ذائقة البشر، وصائدي الأسماك والأموال.