في قلب العاصمة الفرنسية، تطلق باريس واحدة من أوسع حملات التحديث الثقافي في تاريخها الحديث. فمن القصر الكبير Grand Palais الذي أعيد افتتاحه بعد مشروع ترميم استمر أربع سنوات، إلى متحف اللوفر، وأوبرا غارنييه، ومركز بومبيدو، تدخل المؤسسات الثقافية في سباق متواصل لتجديد بناها التحتية وتوسيع مساحاتها، إذ تخوض مدينة النور مشروعاً عملاقاً للحفاظ على مكانتها بوصفها عاصمة للثقافة العالمية. 

وبين السقالات والزجاج اللامع والأروقة التي تتجدد، تكمن معادلة دقيقة: كيف تصون باريس تراثها الأسطوري وتظل، في الوقت نفسه، على مستوى تطلعات جمهور عالمي متعطش للفن والجمال؟

إغلاق مؤقت لمركز بومبيدو مع انطلاقة جديدة

مع إعادة فتح القصر الكبير بعد ترميم دقيق استغرق أربع سنوات وقادته شركة شاتيون للهندسة المعمارية Chatillon Architectes بتكلفة قاربت 545 مليون دولار، يتولّى البناء دورًا جديدًا بوصفه مسرحًا مؤقتًا لمعرض بومبيدو خلال فترة إغلاقه الطويلة، في شراكة مؤسسية تعكس رؤية جديدة للتعاون بين أيقونات باريس الثقافية.

ومن أبرز التغييرات إغلاق مركز بومبيدو، ثالث أكثر متاحف باريس زيارة، وبيت الفن الحديث والمعاصر، لمدة خمس سنوات حتى عام 2030. هذا المبنى الذي لم يتجاوز عمره نصف قرن، من تصميم رينزو بيانو وريتشارد روجرز، أغلق أبوابه لعملية تحديث كبرى بتكلفة 383 مليون دولار، بتمويل إضافي قدره 60 مليون دولار من السعودية ضمن شراكة ثقافية.

تتضمن خطة التحديث إزالة الأسبستوس من السقف والواجهة، ومعالجة التآكل في الهيكل المعدني، وتجديد أنظمة التهوية والطاقة، وتحسين إمكانية الوصول لذوي الاحتياجات الخاصة، إلى جانب إعادة تصميم القاعات لتواكب متطلبات العرض المعاصر.

وخلال فترة الإغلاق، وفيما يستضيف القصر الكبير معظم برامج المركز مؤقتاً، سيفتقد الزوار تجربة التصميم المميز للمتحف بأنابيبه ومجاريه الملوّنة والسلالم الكهربائية والمناطق التفاعلية للأطفال وإطلالاته البانورامية على أفق المدينة.

كما يُطلق المركز برنامج Constellation لتوزيع معارضه عبر شراكات داخل فرنسا وخارجها ليعرض مجموعاته في نُسخ متنقلة من المعارض، ويفتح الباب أمام مؤسسات محلية لتعزيز حضورها الفني. 

وقد انتقلت مكتبته العامة (BPI) مؤقتاً إلى مبنى لوميير في الدائرة الثانية عشرة، فيما تواصل بعض أقسامه مثل Ircam نشاطها في موقعها التاريخي ضمن خطة تنشيط الحي.

من القصر الكبير إلى اللوفر.. باريس تُعيد صياغة هويتها عبر أيقوناتها الثقافية

Pexels

إعادة هيكلة القصر الكبير

تجاوز المجمّع الذي يبلغ عمره 125 عامًا كونه مجرد نصب تاريخي ليصبح معلمًا معمارياً حيّاً يتفاعل مع الأحداث المعاصرة،  بما في ذلك عروض أزياء شانيل وأعمالاً فنية رائدة. 

وقد أعيد افتتاح قاعة المعارض بالكامل في يونيو الماضي مع زيادة بنسبة 50% في مساحة المعارض المتاحة للجمهور، بالإضافة إلى مقهى في الطابق النصفي ومطعم على ارتفاع 18 متراً صممه المعماري الفرنسي جوزيف ديران. 

تجديد القصر لم يقتصر على استعادة الأبعاد التاريخية، بل شمل إدخال أحدث أنظمة التكييف والإضاءة والتعليق الفني، مع إعادة فتح مساحات لم تُستخدم منذ عام 1937. 

كما أُعيد تصميم “المحور المركزي” الذي يربط ساحة جان بيران بنهر السين ليصبح فضاء عاماً نابضاً بالحياة. أضيف أيضاً أكثر من 40 مصعدًا و30 درجًا لتسهيل حركة الزوار، وتعزيز معايير السلامة والقدرة على استيعاب جمهور أوسع، كما جرى تحسين شبكات الخدمات والبنى التحتية لصيانة الأعمال الفنية وفقًا لأعلى المواصفات. 

شُيّد القصر الكبير خلال ثلاث سنوات فقط من أجل المعرض العالمي عام 1900، وكان المقصود أن يجسد قوة فرنسا المعمارية والثقافية. ويستمر هذا الإرث اليوم دليلاً على أن باريس تُظهر قوتها الناعمة ليس عبر الموضة والفن فحسب، بل أيضاً عبر المباني التي تحتضنها.

توسعات داخل متحف اللوفر

في الجانب الآخر من النهر، يواجه اللوفر تحديات مزدوجة: الحفاظ على روائع فنية مهددة بالتآكل، وفي الوقت نفسه استيعاب أعداد ضخمة من الزوار، مع ما يقارب تسعة ملايين زائر سنوياً، بينهم 25 ألفاً يومياً لمشاهدة لوحة الموناليزا. 

ولذلك، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن مشروع تجديد واسع النطاق سيستمر حتى عام 2031 تحت مسمى Louvre New Renaissance (نهضة اللوفر الجديدة).

يتضمن المشروع استحداث مدخل جديد يطل على مجرى السين، وإنشاء مساحة مخصصة للعرض الحصري للوحة الموناليزا مع منفذ فريد، بهدف تخفيف الزحام حولها. 

كما ستُضاف غرف عرض تحت الأرض، وسيجري تحديث أنظمة تكييف وترميمها، وكذلك تحسين التجربة العامة للزوار من حيث الخدمات والتنقل داخل المتحف. وسيعتمد تمويل المشروع بشكل كبير على موارد المتحف نفسه، من مبيعات التذاكر، والرعاية، وعائد فرعه في أبوظبي.

من القصر الكبير إلى اللوفر.. باريس تُعيد صياغة هويتها عبر أيقوناتها الثقافية

Pexels

تحديث البنية التحتية لأوبرا غارنييه

هذا وتجري ترقيات تقنية وإنشائية للمقر الأساسي لدار الأوبرا والباليه في باريس، وتستمر حتى عام 2029، ما سيعطّل العروض لعامين على الأقل. أما أوبرا الباستيل، فستغلق أبوابها بين عامي 2030 و2032 لأعمال ترميم خاصة بها، بتكلفة تصل إلى 525 مليون دولار.

تطوير تدريجي لمتحف أورسيه

وعلى الضفة الأخرى من السين، يستعد متحف أورسيه، مقر روائع الانطباعيين، لمشروع تجديد يمتد حتى عام 2027، ويشمل إعادة تصميم المدخل، وإنشاء قاعة للتصوير الفوتوغرافي المعاصر، وإضافة شرفة في الطابق الخامس، مع استمرار فتح أبوابه للجمهور طيلة فترة الأعمال.

عودة مؤسسة كارتييه إلى قلب باريس

في أكتوبر، ستفتتح مؤسسة كارتييه للفن المعاصر مقرًا جديدًا من تصميم جان نوفيل في ساحة القصر الملكي، في موقع اللوفر دي أنتيكير سابقًا. المقر الجديد يعكس رؤية متعددة التخصصات للفن المعاصر ويضيف بعدًا جديدًا إلى المشهد الثقافي الباريسي.

باريس بين التحديث والإرث

مع اقتراب عام 2030، تتحول باريس إلى ورشة ثقافية مفتوحة. هذه المشاريع لا تعني الحفاظ على مبانٍ تاريخية فحسب، بل إعادة تعريف العلاقة بين المدينة وموروثها الفني. 

ففي الوقت الذي تُنقل فيه أعمال كبرى إلى فضاءات جديدة أكثر رحابة، يجد الزوار أنفسهم مدعوين لاكتشاف مؤسسات أخرى مثل متحف الفن الحديث، وقصر طوكيو، ومتحف رودان، أو المجموعات الخاصة مثل مجموعة بينو في بورصة التجارة.

في المحصلة، يبرز الطابع الحقيقي لباريس: مدينة قادرة على تجديد بنيتها من دون أن تفقد هويتها، وعلى إعادة صياغة أساطيرها الثقافية بما يتناسب مع متطلبات عصر جديد وجمهور عالمي متعاظم.