على مدار سنوات طويلة عُدت علامة بياجيه Piaget رمزًا للدقة والفخامة في عالم الساعات، ذلك العالم الذي انطلقت منه لتعبر آفاقًا متسعة، إذ طرقت خلال رحلتها أبواب الأناقة والرفاهية، فيما كانت تحلق بين الجواهر والأحجار الكريمة ببراعة متناهية، لتقدم إبداعات خالدة سطرتها بإخلاص في عقول عشاقها وقلوبهم.

فكيف كانت بداية هذه الدار الرائدة التي قارب عمرها أعتاب المائة والخمسين عامًا؟ وكيف استطاع مؤسسها جورج إدوارد بياجيه منح علامته مثل هذه الثقة التي لا تضاهى، والتي أصبحت بما تملكه من شغف بالرقة مقياسًا معتمدًا للدقة في أرقى صورها؟

قمم الأحلام

بدأت قصة العلامة على ارتفاع يتجاوز ألف متر، حيث قرية "لا كوت أو فيه" La Côte-aux-Fées الصغيرة التي تتربع عند قمم جبال جورا السويسرية، وهي المنطقة التي شهدت بداية المؤسس جورج إدوارد بياجيه، الذي نشأ في كنف أسرة احترفت الزراعة، واتخذت من محيط هذه الرقعة الساحرة مستقرًا لها مع بدايات القرن السابع عشر.

نشأ جورج مزارعًا، ولكن شغفه كان واضحًا تجاه صناعة الساعات منذ نعومة أظفاره، ولأنه عشق هذا المكان بمختلف تفاصيله، يبدو أنه قد أقسم على جعله منارة لهذه الصناعة، بما حمله من أحلام تماثل في ارتفاعها شموخ تلك الجبال من حوله.

وببلوغ التاسعة عشرة من عمره وبالتحديد عام 1874، كان جورج قد أنشأ أول ورشة عمل خاصة لصناعة الساعات في مزرعة العائلة، وهناك تحدى نفسه بابتكار آليات حركة ومكونات عالية الدقة.

كانت ظروف الشتاء القاسية تجبر المزارعين في مثل هذه المناطق على إجازات طويلة، وهي الظروف التي مكنت جورج بياجيه من أن يعكف في ورشته ليعمل بجد وإخلاص في سبيل التفوق على الذات.

وسرعان ما تطور الطريق الذي بدأه بمحاولة لصنع هدية مميزة لزوجته إيما، لتنطلق إبداعاته من هذه الورشة المنزوية في قلب مزرعته الصغيرة، عابرة تلك الجبال من حولها، فذاعت شهرته، واكتسب ما يقدمه من إتقان وجودة ثقة أشهر صانعي الساعات وأبرز العلامات آنذاك، والتي بدأت في التعامل معه ليوفر لها إنتاجه من المعايير الحركية المتقنة.

والحقيقة أن صناعة الساعات لم تكن لجورج بياجيه مجرد وظيفة شتوية يقوم بها لإعالة أسرته الكبيرة، إذ أنجب أربعة عشر ابنًا وابنة، سبعة من الذكور ومثلهم من الإناث، ولكنها جسدت شغفه الخاص بصناعة ساعات راقية لا تضاهى، وهو ما نجح فيه بجدارة.

وبمرور الوقت زاد الطلب على إنتاجه من أولئك الذين اعترفوا بتوقيعه كعلامة على الثقة فيما يقدم، فنمت ورشته، بينما استمر في تطوير إنتاجه بإتقان موازنة آلية الحركة مع الوصول بها إلى مستويات جديدة من الدقة والرقة.

بياجيه تقترب من عامها الخمسين بعد المئة

Piaget

تجاوز التوقعات

كانت عقيدة بياجيه تتلخص في أن يقدم دائمًا أفضل من اللازم، مع السعي لأكثر مما ينبغي لتجاوز التوقعات، لذا فقد اخترع وطور وقدم الكثير في عالم الساعات، وحقق قفزات هائلة في غضون سنوات قليلة.

وبحلول عام 1890 ولمواكبة حجم الطلب والنجاح الذي حققه، اضطر أخيرًا لبناء ورشة جديدة، والانتقال من ورشة المزرعة، ومن ثم التفرغ بشكل كامل لصناعة الساعات. وبمرور الوقت أصبحت صناعة الساعات تخصص أفراد العائلة الذين بذلوا جهدًا عائليًا رائعًا لتنمية حلمهم ومستقبلهم الواعد.

في عام 1911، اعتزل جورج الإدارة ليتولى الابن تيموثي إدارة أعمال بياجيه، التي أصبحت شركة Piaget الشهيرة بتصنيع آليات حركة فائقة الدقة والجودة لأفضل العلامات السويسرية، إلى أن قام الحفيدان جيرالد وفالنتين، مع والدهم تيموثي، بتسجيل علامة بياجيه التجارية عام 1943.

ومن هنا كانت البداية في تقديم ساعات كاملة ممهورة بتوقيع بياجيه على موانئها، تباع لمريديها حاملة علامة الدار، بتصاميم اهتمت بأدق التفاصيل لتنافس في الشكل وربما تتفوق في الأداء.

حققت ساعات بياجيه نجاحًا لافتًا، تطلب التوسع في الإنتاج، وهو ما تُرجم بخطوات عملية من خلال الانتقال إلى مصنع جديد عام 1945. أتمت دار بياجيه آنذاك افتتاح مصنعها في لا كوت أو فيه، والذي استمر ليحافظ على إرث بياجيه ومبادئ الأسرة، مع تقديم إنتاجها الخاص بالإضافة إلى أرقى وأدق معايير الساعات الحركية التي بيعت لعدد من صانعي الساعات والعلامات المرموقة في جنيف وباريس.

فقد بدأت العلامة تتوسع جغرافيًا مع زيادة الاعتراف الدولي بها، فجاءت الطلبات متدفقة بينما استمرت بياجيه في تطوير ما تقدمه من آليات حركة تستوطن ساعات دائمة التطور، فائقة الدقة والرقة والمتانة.

بياجيه تقترب من عامها الخمسين بعد المئة

Piaget

الاستثمار المتنوع

على مشارف عصر الإلكترونيات ضمت بياجيه شركة Baume & Mercier عام 1963، لإيجاد التنوع مستعينة بآلية الحركة Mosaba. وبينما كانت العلامة تستثمر في فروع كثيرة من أشكال الساعات وآليات الحركة فيها ومكوناتها، وبينما كانت تسهم في إثراء كل ما يتعلق بهذه الصناعة من أبحاث ودراسات، كان الجيل الرابع من العائلة ممثلاً في إيف ابن جيرالد تيموثي بياجيه يطور من أدواته العلمية بالدراسة في مجالات هندسة الساعات بجنيف وعلم الأحجار الكريمة بالولايات المتحدة الأمريكية.

وبحلول عام 1965 كانت تلك الأدوات قد اكتملت، فقررت الشركة زيادة الاستثمار في قسم ساعات الجواهر والساعات المرصعة، وضمت إليها شركات متخصصة في تصنيع علب وأحزمة وموانئ الساعات في جنيف، فاستحوذت عليها لتلبي متطلباتها التصنيعية، مع اتخاذ قرار باستخدام الذهب أو البلاتين فحسب في علب الساعات الخاصة بها، وبالتأكيد فقد حدثت بعض الاستثناءات في ما بعد.

كما شاركت بياجيه عام 1969 في تصنيع أول حركة كوارتز سويسرية، وواصلت الاستثمار في تقنية الكوارتز لتصنع ما تحتاج إليه منها، كما واصلت الاستثمار في التقنيات الأخرى.

وبحلول عام 1974 تولى إيف بعض المسؤولية إلى جانب والده وعمه، إلى أن آلت إليه المسؤولية كاملة عام 1980 بتقاعد والده. وخلال هذه الفترة بين التاريخين حققت العلامة نجاحات كبيرة ومتميزة، مع تقديم منتجات مبدعة وعصرية وأكثر جرأة، دون التخلي عن إرث العلامة العريق، كما طورت شراكات وعلاقات، وصنعت أحداثًا خاصة، وخلدت أسماء بإبداعاتها فاستحقت نجاحها اللافت.

واستمرت العلامة في مسار التطوير الذي لا يتوقف على مدار الأعوام التالية حتى جاء عام 1988، لتنضم إلى Vendôme Luxury Group التي شكلت نواة مجموعة ريشمون  والتي ضمت عددًا كبيرًا من الدور مثل كارتييه، ودانهل، وأوفيتشيني بانيراي، وآي دبليو شافهاوزن، وفان كليف أند آربلز، وإيه لانغيه أند صونه، وفاشرون كونستانتين.

بياجيه تقترب من عامها الخمسين بعد المئة

Piaget

روح العلامة

والحقيقة أن القوة الدافعة لروح جورج بياجيه لم تتوقف في أي محطة من محطات داره العريقة، التي حفرت اسمها بين قمم سويسرا وانطلقت منها للعالم، فقد ظلت روح المغامرة والرغبة في تحقيق مزيد من الإنجازات وعدم الاكتفاء بما تحقق مسيطرة، ولذلك فقد استثمرت الكثير من الوقت والجهد في البحث والتطوير، واستمرت في تقديم الساعات الثورية الأكثر نحافة ودقة ومتانة، في نماذجها وتقنياتها ومعاييرها الحركية وتصاميمها المتنوعة.

فلم يكن غريبًا أن تقدم العلامة مثل هذا الكم الضخم من آليات الحركة الجديدة خلال فترات زمنية متقاربة، بما في ذلك بعض أكثر التعقيدات في آليات التوربيون والكرونوغراف المعزز بوظيفة عرض المنطقة الزمنية الثانية، والتقويم الدائم، وكذلك ما سجلته من أرقام قياسية لأرق الحركات الأتوماتيكية في العالم، وكلها أمور تضافرت على مدار تاريخ Piaget فأكسبت العلامة مكانتها الخاصة في طليعة صانعي الساعات السويسرية الكبار.

بياجيه تقترب من عامها الخمسين بعد المئة

Piaget

كما حققت العلامة التميز الممهور بتوقيعها على الساعات الثمينة المصنوعة من الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة، والتي جسدت خبرة كبيرة تجمع بين التطور التقني والأناقة الجمالية، المستوحاة من التراث الغني لبياجيه، إذ زودت ساعات الجواهر بمفاهيم مبتكرة، تضيف مزيدًا من التألق إلى الإشراق الطبيعي للألماس، ومن ثم تحقق الأناقة المطلقة، وتقدمها بروح التفاني التي طبعا تاريخ الدار ومؤسسها.

سارت العلامة بخطى واثقة في عالم الجواهر الراقية، وتوسعت شيئًا فشيئًا منذ أن أطلقت مجموعتها الأولى بمعرض بياجيه عام 1959، وهي المجموعة التي عرضتها جنبًا إلى جنب مع ساعاتها الراقية لتجسد إبداعات الدار التي لا يحدها حدود. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت ورش العلامة في جنيف موطنًا أيضًا للصياغة والترصيع بالأحجار الكريمة، ما أتاح للدار إمكانيات لا مثيل لها من الإتقان، لإبراز سحر الجواهر الراقية المفعمة بالحيوية التي اعتمدتها الدار أسلوبًا لها.

وكما نجحت العلامة في إدخال أحجار الزينة إلى صناعة الساعات وفي إحداث ثورة في طريقة توظيف الألوان، فقد تفوقت في ترك بصمتها الخاصة في عالم الجواهر الذي أثرته بايتكارات تحولت إلى رمز يجسد الجرأة في الإبداع المتقن.