يقف الذوّاقة من حول العالم موحدين في موقفهم: لا شيء يضاهي المذاق العصي على الاستنساخ لبضع شرائح من الكمأة البيضاء. ومع حلول موسم الكمأة، أنطلق في رحلة إلى ريف توسكانا في مهمة خاصة لاستكشاف أسرار التنقيب في البراري عن الفطر النادر والنفيس. 

فيما أنشغل عن العالم من حولي بتنفّس الهواء العابق برائحة المسك في محيط أشجار السنديان والصفصاف، يعيدني نباح ميلا الحماسي إلى أرض الواقع. تهزّ الكلبة المدرّبة ذيلها بقوة فيما تدور من حول بقعة طحالب قبل أن تبدأ الحفر في التراب.

يدرك عندئذ ماسيمو كوتشيارا، الذي يمثّل الجيل الثالث في عائلة تمتهن "صيد الكمأة" في توسكانا، والذي يدير نشاطه تحت اسم Truffle in Tuscany (الكمأة في توسكانا)، أن شريكته في هذه المهمة تحاول إرشاده إلى الكنز، فيتدخّل على الفور. يشرع كوتشيارا، متسلحًا بمجرفة صغيرة ذات مقبض خشبي، في إزاحة التراب في الموقع نفسه فيما ميلا تتأمل المشهد باهتمام. 

في قلب غابة سان مينياتو، التي تنبسط في موقع وسطي بين بيزا وفلورنسة، أراقب يدي كوتشيارا تغوص في الأرض. وإذا به يسألني: "أترينها"، فيما يشير إلى كتلة سوداء تكاد رؤيتها بالعين المجرّدة تبدو مستحيلة إذ تحتجب تحت التراب. لكني لا ألبث أن ألمح الكنز الخفي لأصبح بذلك، وبكل زهو، مالكة حبة كمأة سوداء ضخمة التُقطت طازجة من الأرض. 

إذا ما أخذنا في الحسبان أني أعيش في الشرق الأوسط، حيث الكمأة الأعلى جودة تساوي وزنها ذهبًا، فإن الفرح بالعثور على "ألماسة" من هذا الصنف يأخذ مني كل مأخذ، فلا أتنبّه إلى أن ميلا لا تزال في طور الإحماء.

ما هي إلا بضع دقائق، حتى تبدأ الكلبة رحلة القفز من زاوية إلى أخرى في الغابة، تشم التراب بحثًا عن حبات أخرى من الكمأة وكلها أمل أن يكافئها كوتشيارا على صيدها. وفيما أمضي في إثرها مع مدرّبها الذي يستمر في توجيهها بلغة إيطالية واضحة، لا يمر وقت طويل قبل أن تمتلئ جعبتي بست حبات من الكمأة.   

أكتشف في سياق هذه المغامرة أن بلدة سان مينياتو، التي ترجع إلى القرون الوسطى، تشكل واحدة من عواصم الكمأة في إيطاليا، حيث التربة الغنية بالمعادن تشكل أرضًا خصبة لاستمرار الموسم على مدار العام.

تتفرّد الكمأة البيضاء بمذاقها الأكثر حدة وثراء، وسعرها الأعلى، وهي تُعد أكثر ندرة من الكمأة السوداء.

Truffle in Tuscany

لكن إذا كانت الكمأة الصيفية السوداء أو Tuber Aestivum منتجًا وفيرًا نسبيًا في أشهر الدفء، فإن الكمأة البيضاء أو Tuber Magnatum Pico الأعلى تميزًا هي ما يجتذب الذوّاقة من مختلف أنحاء العالم إلى سان مينياتو. فقلة من المواقع في العالم فحسب تستطيع أن تزعم أنها موطن للكمأة البيضاء، التي غالبًا ما يُشار إليها باسم "الذهب الأبيض"، وسان مينياتو واحدة من هذه الوجهات.  

يستمر موسم الكمأة البيضاء من أواسط شهر أكتوبر إلى مطلع يناير. وفيما تكون هذه الحبات مدفونة في التراب عند مستويات أعمق مما هو عليه حال نظيراتها السوداء، تتمايز أيضًا بمذاقها الأكثر حدة وثراء، وسعرها الأعلى بكثير. بل إن ندرتها البالغة تجعلها من الخيرات الغذائية الأعلى قيمة في العالم، مع بلوغ أسعارها نحو 17 ألف درهم إماراتي لأقل من 500 غرام. ويزيد من ندرة الكمأة البيضاء تقلص مواطنها بسبب الظروف المناخية السيئة. 

تحتفي بلدة سان مينياتو بكونها موطنًا لهذا الكنز النفيس من خلال مهرجان الكمأة البيضاء الذي تقيمه في شهر نوفمبر من كل عام. تُنظم أنشطة المهرجان في عطلة نهاية الأسبوع على مر ثلاثة أسابيع خلال ذروة موسم صيد الكمأة البيضاء. واللافت هو أن هذا المهرجان الذي أبصر النور قبل نحو نصف قرن ما فتئ يستقطب أكثر من مائة ألف زائر.

كوتشيارا وكلبته ميلا في قلب غابة سان مينياتو.

Truffle in Tuscany

ويكرّس أيضًا علاقة البلدة الوثيقة بهذا الفطر النادر تمثال مشغول من الحديد المطرق يرتفع في وسطها تكريمًا لأرتورو غاليريني، الصائد الذي اكتشف أضخم حبة كمأة في العالم في هضاب سان مينياتو. كان ذلك في عام 1954، وقد بلغ وزن اكتشافه العظيم كيلوغرامين ونصف كيلو. 

يسرّني أن أحظى بمرافق مثالي في مغامرتي للبحث عن الكمأة في توسكانا. فكوتشيارا يتحدر من عائلة تناقلت إرث صيد الكمأة. بل إن جدّه لينو كان واحدًا من أوائل الصيادين في توسكانا، ووالده سلفاتوري شغل منصب رئيس اتحاد سان مينياتو لصيادي الكمأة طيلة 18 عامًا. فيما ننقب عن قطعة أخيرة من هذه الجواهر الصالحة للأكل، يقول لي ماسيمو: "بدأت أتدرّب على فنون صيد الكمأة وأنا في الثانية عشرة من العمر".

وإذ يستخرج من التراب حبة أخرى من الكمأة السوداء تفوح منها رائحة جوزية، يضعها بين يدي قائلاً: "تحققي من ملمسها بأصابعك. إذا كانت صلبة، سنحتفظ بها. أما إذا كانت ليّنة، فلا جدوى منها، وسنكتفي بإعادتها إلى الأرض".

كانت الحبة ذات ملمس إسفنجي، فأعادها كوتشيارا إلى الأرض، وغطاها بالتراب وأوراق الشجر المتساقطة وهو يقول موضحًا: "من الضروري أن نتحلى بممارسات مسؤولة في صيد الكمأة ونحافظ على البيئة". وفيما نواصل سيرنا، يخبرني أنه من المرجح أن تنمو حبة كمأة أخرى في الموقع نفسه العام المقبل، موضحًا أن هذا ما يجعل صيادي الكمأة يحفظون سر مواقع اكتشافاتهم. 

أودّع الغابة ممتنّة لصيدي العظيم والأعلى فخامة في عالم الطعام، فيما كوتشيارا يقدّم لي بعض التوصيات القيّمة عن أفضل طريقة لتخزينه. وفي هذا يقول: "لا ينبغي استخراج الكمأة من التراب إلا عندما تنضج وتصبح جاهزة للأكل. تظل الكمأة السوداء بعد ذلك طازجة لنحو 40 يومًا، لكن عمرها يقصر نحو 20 يومًا عند السفر. أما الكمأة البيضاء، فتبقى صالحة بعد استخراجها من الأرض لنحو 25 يومًا". 

في السنوات الأخيرة، بيعت حبة كمأة بيضاء تزن نحو 900 غرام مقابل 400 ألف درهم في مزاد القرن الحادي والعشرين العالمي للكمأة في بلدة ألبا الواقعة في منطقة بيدمونتي. وقد يكون من حسن حظ الذوّاقة في العالم أن الكلاب التي تمتهن التنقيب عن الكمأة في التراب لا تعرف ذلك. فالكلبة ميلا هنا لغرض محدد هو التجوّل في الغابة ومرافقة ماسيمو في مغامرته.