بهيئة ساكنة وملامح تتجاوز الزمن، عادت جاكلين روك، رفيقة بيكاسو وأكثر نسائه حضورًا في أعماله، إلى الواجهة، ليس بوصفها امرأة فحسب، بل لتكون الأيقونة التي جسّدها في إحدى لوحاته الأكثر جرأةً وصدقًا. ففي مزاد نظمته دار سوذبيز في لندن، بيعت لوحة Nu assis dans un fauteuil (أنثى جالسة على كرسي بذراعين) مقابل 9.05 مليون دولار، وذلك مساء 24 يونيو الماضي، لتُضاف إلى قائمة الأعمال المتأخرة التي ترسّخ موقع جاكلين بوصفها الهاجس البصري الأكثر عمقًا وتأثيرًا في سنوات بيكاسو الأخيرة.
اللوحة الفنية، المنفّذة بزيت وطلاء ريبولين على القماش، بمقاس 65 × 54 سنتيمترًا، تنتمي إلى سلسلة من الأعمال التي أنجزها بيكاسو في منزله نوتردام دو في Notre-Dame-de-Vie في موجان بجنوب فرنسا، وهو المنزل الذي اقتناه ليكون هدية لجاكلين عقب زواجهما عام 1961. تمثّل هذه المرحلة ما يُعرف فنيًا "بعصر جاكلين"، إذ لم يخلُ عمل من حضورها الذي من الاندماج التام بالفن.
العمل ينبض بالحياة عبر ألوانه الصارخة:
الأحمر، والبرتقالي، والزهري، والفيروزي، وضربات الفرشاة الواسعة التي تشكّل التكوين بعفوية واضحة. لم تكن جاكلين يومًا "موديلاً" بالمعنى التقليدي، لكنها كانت الملهمة والمادة الخام التي قاد بها بيكاسو مغامراته التصويرية المتأخرة، في انسجام داخلي بين الجسد الأنثوي والرغبة التعبيرية.
وفي هذا تقول الناقدة ماري-لور بيرناداك: "ما يرسمه بيكاسو ليس نموذجًا للمرأة، بل المرأة بوصفها النموذج، الحبيبة بوصفها اللوحة. لذلك، فإن الانفصال عنده بين العاطفة والعمل مستحيل تمامًا".
تأملات في الشكل والذاكرة
تُمثّل هذه اللوحة (أنثى جالسة على كرسي بذراعين) مرحلة تحوّل في لغة بيكاسو البصرية خلال الستينيات، إذ انتقل من تصوير العلاقة الكلاسيكية بين الفنان وموضوعه إلى التركيز التأملي على الشكل الأنثوي بوصفه مدخلاً لاستكشاف داخلي بالغ التعقيد.
وخلال تلك السنوات، أخذت أعماله تتخلّى عن حضور الرسّام وتُفسح المجال أمام هيئة واحدة تتكرّر بزوايا ووضعيات متغيّرة، تتكئ حينًا، وتتّخذ هيئة جانبية حينًا آخر، قبل أن تستقر هنا في وضعٍ أمامي صارم، يوحي بالسكينة والانضباط، ويستدعي حضورًا أسطوريًا أقرب إلى تماثيل الآلهة القديمة.
في هذا العمل، يظهر الشكل الأنثوي محاطًا بخطوط هندسية دقيقة تُثبّت الكتلة البصرية داخل الإطار، وتمنحها طابعًا نَحتيًا يعزّز من قوتها التعبيرية.
أما الألوان النابضة بالحيوية وضربات الفرشاة الإيقاعية، فتضفي على المشهد توترًا خفيًا بين السكون الظاهري والاضطراب الداخلي، وهو توتر طالما طبع أعمال بيكاسو المتأخرة بطاقة مشحونة يصعب اختزالها في وصف تقني واحد.
وقد وصف الناقد جون ريتشاردسون هذه المرحلة من إنتاج بيكاسو بأنها "الأكثر حرية وغريزية وتعبيرًا في مسيرته"، وهو توصيف ينطبق على هذه اللوحة تحديدًا، إذ تتحوّل الهيئة النسائية إلى مركز ثقل يجمع بين التجربة الحميمة والتكوين الرمزي، في مزيج لا يفصل بين الفن والحياة، أو بين الرؤية والانفعال.