أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن "طيّاري البراري" هو صور أفرادٍ شجعان يُحلّقون بطائرات من طراز "دي هافيلاند بيفر" de Havilland Beaver إلى تضاريس ألاسكا النائية والوعرة. 

خلال القرن العشرين، برز العديد من الأسماء الباسِلة في هذا الميدان، أمثال دون شيلدون وكارل بِن إيلسون. فقد كانت براعتهم الشديدة في تقدير المسافات بديلاً عن الخرائط المعدومة. 

ومنذ عام 2012، شَرع برانْت سميث في التحليق إلى براري ألاسكا التي تُعرّف عادةً بأنها منطقة بلا مسالك معبّدة. وفي هذا يقول: "يكتنف الغموض طيّاري البراري". على أن سميث يخصّ بهذا اللقب أسلافه الذين خاضوا غمار المجهول، مضيفًا: "ثمة مبالغةٌ في تداول هذا اللقب، ولذلك أتفادى التسمّي به، لأنني أرى نفسي مجرد شخص يهوى هذه التجربة". 

لكن، بموجب التعريفات المُتداولة بين العارِفين بالميدان، فإن سميث ينتمي إلى طياري البراري، بِحُكم عمله السابق طيارًا في جنوب شرق ألاسكا. فقد تولّى في البداية نقْل بضائع شركة خاصة، ثم نقْل السياح إلى نزل معزول في المنطقة. 

ويقول عن تلك السنوات الثلاث من حياته: "ساعات التحليق التي سجلتها في هذه الفترة أطول من أي فترة أخرى في مسيرتي المهنية، وقد خبرتُ فيها تقلّبات الطقس، والأنهار الجليدية، والحيتان القاتلة، والدببة. لقد كانت التجربة الأغلى والأشد تفردًا في مسيرتي". يُشير سميث كذلك إلى أن بعض الرحلات التي خاضها آنذاك كانت "الأصعب والأخطر" في حياته، لكنها كانت الأكثر منفعة، ويقول: "إن تلك التجارب العصيبة هي التي تُعلّمك كيف تكون طيارًا أفضل".

تضمّ الولاية التاسعة والأربعون نحو 8,734 طائرة مسجّلة و8,000 طيار نشِط، والرقم الأخير، بالقياس إلى عدد سكان ألاسكا، أعلى بستة أضعاف من المتوسط ​​الوطني. ولا يمكن تصنيف هؤلاء الطيارين في قوالب نمطية، لأنهم ينحدرون من خلفيات متنوعة أشد التنوع. 

في عام 1996، باشرت جيمي باترسون سايمز تحليقها في منطقة بيثيل القصيّة، التي تُقارب مساحتها ولاية فرجينيا، متيحةً بذلك السبيل لبلوغ 58 قرية معزولة. وفي هذا تقول: "كانت مدرجات الهبوط كلها ترابية أو حصويّة. 

أما الطقس، فكان شديد القساوة. لم تكن إلكترونيات الطيران الحديثة قد ابتُكرت بعد، ولذلك لقي العديد من الطيارين مصرعهم، ومنهم بارعون". على مر السنوات، تناهى إلى علمها مصرع 28 طيارًا من زملائها.

بعد عام من المخاطرة بحياتها هناك، انتقلت إلى أنكوريج، حيث ظلّت تُحلّق حول جبل دينالي خلال الصيْفين التاليين، ثم أوقفت مسيرتها الاحترافية في الطيران لتكوين أسرة. في عام 2014، أسست باترسون سايمز أكاديمية تدريب على الطيران، نالت شهرة واسعة، ثم عادت خلال الصيْفين الفائتيْن إلى التحليق حول جنوب شرق ألاسكا، وهي حاليًا بصدد التدرّب للعودة ثانية إلى البراري، هذه المرة لمكافحة حرائق الغابات. 

وعن الطيران إلى البراري، تقول باترسون سايمز إن الفرق بين التحليق اليوم والتحليق قبل 30 عامًا يشبه الفرق بين "الليل والنهار"، وتشير إلى أن "قيادة الطائرات آنذاك كانت يدوية بالكامل وبلا نظام لتحديد المواقع العالمي، ولذلك كان على الطيارين تذكّر مواقع التضاريس بدقة". وتروي باترسون سايمز كيف كانت تُحلق بالطائرة شتاءً في درجات حرارة تصل إلى 32 درجة تحت الصفر، وكيف كانت تضطر إلى الاعتماد على المقاييس التناظرية التقليدية.

على ما هو عليه حال سميث، لا تُوافق باترسون سايمز على استخدام لقب "طيار البراري"، وفي هذا تقول: "يتمتع العديد من الطيارين بموهبة وخبرة أكبر مني بكثير، إذ إن الشطر الأكبر من خبرتي مكتسبٌ من التدريب". 

تشير أيضًا إلى أن إلكترونيات الطيران الحديثة والطائرات المأمونة المتمايزة بقدر أعلى من القوة والأداء، أسهمت كلها في تأمين الرحلات الجوية. لكن هذا الارتقاء لم يطل مهارات الطيارين جميعًا. وفي هذا تقول موضحةً: "إن انحسار القدرة على التحليق من دون الاعتماد على أنظمة الملاحة يبعث على القلق، خصوصًا أن هذا التوجه منتشر بإفراط بين الطيارين".

أما الفنانة ميغ سميث، التي كانت تُحلق في السابق بطائرة من طراز تايلوركرافت Taylorcraft، فإنها تحلّق حاليًا بطائرة Piper PA-12 معدّلة و"شبيهة بطائرة نقل كبيرة" إلى الأنهار الجليدية في جبال تشوغاتش وقريبًا من جبل دينالي. 

وفي هذا تقول: "أحب التحليق فوق منحدرات التزلج على الثلج. فأنا متزلجة شغوفة بالمناطق الجبلية النائية، ولذلك أجد متعة عظيمة في الجمع بين الهوايَتين". لقد سبق لها التحليق إلى قاعدة بركانٍ لتيسير صيد حيوان الكاريبو، كما سبق لها ركوب طائرة عائمة إلى بحيرة جبلية للجدف بزوارق الكاياك. 

مع ذلك، تظل طائرة Piper الوقودَ لإبداع سميث، التي تقدّم أعمالها في المعارض الفنية في مختلف أنحاء الولاية. وتختم قائلة: "إن الرحلات الاستكشافية صوب المناطق القصيّة بعثت في نفسي شعورًا بالرهبة أردتُ استنساخه في لوحاتي، ولم أكن أدرك أن شغفي بالطيران سيبلغ هذا المبلغ كله".

تستلهم الطيّارة والفنانة ميغ سميث مشاهد لوحاتها الطبيعة من التحليق فوق الأنهار الجليدية بطائرة Piper PA-12.

تستلهم الطيّارة والفنانة ميغ سميث مشاهد لوحاتها الطبيعة من التحليق فوق الأنهار الجليدية بطائرة Piper PA-12.  

آفاق بكر

إن السفر إلى المناطق العذراء النائية لا يتحقق إلا بوساطة طائرات البراري، سواء تعلق الأمر بالتحليق بين قمم الجبال الوعرة، أو الطيران جيئة وذهابًا بين الجزر البعيدة، أو ارتياد الملاذات الفاخرة المغيّبة عن الخرائط. على أن انعزال هذه المناطق من الأسباب التي تجعلها وجهات بكرًا لا ينبغي تفويت زيارتها. إليكم أربع وجهات يُفضّل ارتيادها بوساطة طائرات البراري.

ألاسكا

يقع نزل "ريدجوود وايلدرنس لودج" Ridgewood Wilderness Lodge في خليج هاليبوت جنوب وسط ألاسكا، ويمكن الوصول إليه باستخدام طائرة عائمة تابعة لشركة "نورث ويند أفييشن" Northwind Aviation. 

يقصد الزبائن هذا النزل لأسباب عدة، منها الحياة البرية الوافرة وصيد سمك السلمون والمشي لمسافات طويلة والجدف بزوارق الكاياك. 

بعيدًا عنه، يقع نزل "شيلدون شاليه" Sheldon Chalet الذي لا يمكن بلوغه إلا بطائرة مروحية تُرسل منه، وذلك لأنه يقع على نتوء صخري في مدرج دون شيلدون بمتنزّه دينالي الوطني. إنه النزل الوحيد على امتداد أميال، وتُتيح هيئته السداسية مطالعة العجائب الجبلية المحيطة به، فضلاً عن الشفق القطبي الآسر. 

نزل Sheldon Chalet الذي لا يمكن بلوغه إلا بطائرة مروحية.

Ridgewood Wilderness Lodge

نزل Sheldon Chalet الذي لا يمكن بلوغه إلا بطائرة مروحية.

أستراليا

منذ عام 1977 وشركة "إير أدفنتشر" Air Adventure تُقدم رحلات مخصصة لزبائنها على متن طائرة Pilatus PC-12 لزيارة الملاذات النائية في شتى أرجاء أستراليا. 

تمتد بعض هذه الرحلات لخمسة أيام، ويشمل برنامجها زيارة المعلم الساحلي المعروف باسم الحواريين الاثني عشر، والإقامة في نزل "ساذرن أوشن لودج" Southern Ocean Lodge بجزيرة كانغارو، ثم جولةً إلى المناطق النائية لزيارة صخرة أولورو وتناول وجبة غداءٍ فاخرة على غير المتوقع في فندق "بريري" Prairie المُرمّم في قرية باراتشيلنا التي يبلغ تعداد سكانها شخصين. لا تتوقف أستراليا عن إدهاش زائريها بما تشتمل عليه من مناطق خلابة، سواء منها الصحراوية أو الاستوائية أو شبه الاستوائية.

نزل Southern Ocean Lodge بجزيرة كانغارو.

Air Adventure

نزل Southern Ocean Lodge بجزيرة كانغارو.

الجزيرة الجنوبية في نيوزيلندا

يتذكّر كل من شاهد سلسلة أفلام "سيد الخواتم" جزيرة نيوزيلندا الجنوبية وجمالها الأخّاذ والمتغير. للوصول إلى الأنزال المنتشرة بالجزيرة، لا بد من استخدام الطائرات المروحية أو الطائرات الصغيرة، مثل تلك التابعة لشركة "بيلوروس إير" Pelorus Air. 

عند بلوغ هذا النزل، يستطيع الضيوف لعب الغولف، أو استكشاف القمم الجبلية والأنهار الجليدية والوديان العميقة، على طريقة فرودو وسام. من الفنادق الفاخرة الصغيرة في الجزيرة فندق "بلانكيت باي" Blanket Bay، وفندق "ميناريت ستايشن" Minaret Station، وفندق فيوردلاند لودج" Fiordland Lodge، وكلها تُقدّم مأكولات متمايزة تقترن بإطلالات مدهشة على الجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا.

إقامة متمايزة يعد بها فندق Minaret Station.

Minaret Station Alpine Lodge

إقامة متمايزة يعد بها فندق Minaret Station.

شمال تنزانيا

يستطيع هواة المناطق النائية الاستمتاع بتجربتيْ سفاري فاخرتين في تنزانيا، بتسهيلٍ من شركة "سفاري إير لينك" Safari Air Link المتخصصة في رحلات البراري. يُطلّ نزل "سينغيتا ساساكوا لودج" Singita Sasakwa Lodge المُصمم على طراز القصور الإدواردية على محمية "سينغيتا غروميتي" التي تغطي مساحة 350,000 فدان بجوار متنزّه سيرينغيتي الوطني. 

الإطلالة من نزل Singita Sasakwa Lodge على محمية سينغيتا غروميتي.

Karin Schermbrucker

الإطلالة من نزل Singita Sasakwa Lodge على محمية سينغيتا غروميتي.

تتمايز الأكواخ الأنيقة بشرفات تطل مباشرة على السافانا، كأن المشاهد خارجة من فيلم "الأسد الملك". أما نزل "موِيبا لودج" Mwiba Lodge المُكوّن من عشرة أجنحة، فإنه يُحاذي مضيقًا صخريًا على نهر أَروغوسينياي، حيث نبع المياه العذبة الذي يجتذب الفيَلة ووحيد القرن والجاموس. يشتمل كلا النُزلين على ناد صحي يعزز أثر البيئة المحيطة على النفس.