فيما يترسخ المشهد الفني العالمي في الخليج العربي، مع تدشين النسخة الافتتاحية من آرت بازل قطر والتوسّع المؤسسي اللافت في المملكة العربية السعودية، يُسجّل سوق الفن في الشرق الأوسط إيقاعًا صاعدًا ينذر بمرحلة جديدة من الازدهار الثقافي والاستثماري.

في مايو الماضي، دوّنت دار كريستيز إنجازًا استثنائيًا يُضاف إلى سجلها الحافل، مع تسجيلها في مزادها الإلكتروني للفن الحديث والمعاصر نسبة مبيعات 100% من الشرق الأوسط في دبي. 

تميّز المزاد بقسم خاص بالفنانين السعوديين، إذ تجاوزت غالبية الأعمال توقعاتها السعرية العليا، في دلالة واضحة على تنامي الاهتمام العالمي بالفن العربي المعاصر، وارتقاء الذائقة الإقليمية نحو دعم الإبداع المحلي برؤية استشرافية.

ويؤكّد سلطان سعود القاسمي، مؤسس مؤسسة بارجيل للفنون في الشارقة بالإمارات والتي تضم نحو 2000 عمل لفنانين عرب، لموقع آرت نيوز بيبر البريطاني، أن هذا التوسّع لم يعد محصورًا بالمنطقة. 

ويقول: "بالنظر إلى الأرقام القياسية التي حققها فنانون عرب أخيرًا في المزادات، والتفاعل مع قيّمي مجموعات كبرى حول العالم، يبدو أن الطلب على الفن العربي تجاوز حدود المنطقة ليصل إلى المجموعات الغربية والشرقية على حد سواء".

يضيف رضا المومنى، رئيس مجلس إدارة كريستيز للشرق الأوسط وإفريقيا: "نحن سعداء للغاية. فقد حققنا أداءً قويًا خلال العامين أو الأعوام الثلاثة الماضية، وكريستيز تحتفل بمرور 20 عامًا على وجودها في دولة الإمارات العربية المتحدة عبر سلسلة من المعارض والمزادات".

من بين هذه الأنشطة، معرض غير بيعي في مقر دار كريستيز الرئيس بحي سانت جيمس الراقي بلندن، خلال الصيف، يحتفي بأحد أهم الفنانين العرب في القرن العشرين، وهو مروان قصاب باشي، المعروف باسم مروان.

المعرض بعنوان "مروان: روح في المنفى" يضم أكثر من 150 عملًا فنيًا من مجموعات خاصة ومؤسسية مرموقة، بما في ذلك من مجموعات مؤسسة بارجيل للفنون، ومؤسسة رمزي وسعادة دلول في بيروت، وكلاهما من رعاة المعرض، ومجموعة بينو في باريس، ومتحف برلينيشه غاليري في برلين.

كريستيز تُكرّم الفنان السوري الراحل مروان قصاب باشي بمعرض غير بيعي في قلب لندن

Christie's

ويحتل المعرض صالات الدار كلها، فتتوزع لوحات الفنان السوري الراحل لتسرد رحلته مع الفن التشكيلي، وتصوّر عالماً عاش فيه مروان في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين.

ينجح المعرض في تقديم سيرة كاملة لأعمال الفنان من التشكيلية المبكرة إلى المناظر الطبيعية وسلسلة الوجوه التي تتحول على يد الفنان لتصبح مرآةً، وصولاً إلى سلسلة الدمى المتحركة. ومن ناحيته، يقول المومنى: "تطلّب الأمر جهدًا كبيرًا لتأمين هذه الأعمال، لكنني واثق تمامًا من أننا نجحنا في جمع بعض أعظم التحف الفنية التي أنجزها مروان على الإطلاق".

مسيرة الفنان الراحل انطلقت من سوريا حيث ولد عام 1934، ثم انتقل للحياة في ألمانيا في خمسينيات القرن الماضي، ما جعل أعماله مرتعاً لعالمين، سوري وألماني، تركا أثرهما في فنه، وفي حياته. 

تأثر في أسلوبه بالتعبيرية الألمانية وحركة Neue Wilde التي ينتمي إليها فنانون مثل جورج بازليتز وأنسلم كيفر، لكنه استمد موضوعاته من القضايا السياسية والاجتماعية في العالم العربي.

ويُعرف مروان بشكل خاص بسلسلته الشهيرة لمناظر الوجوه، وهي لوحات مرسومة بطبقات كثيفة تُجسّد في آنٍ واحد عمقًا عاطفيًا ومساحات تموجية تشبه المناظر الطبيعية.

ويعلّق القاسمي قائلاً: "يعد مروان من الفنانين الرواد الذين نجحوا في بناء جسور ثقافية بين الشرق والغرب"، مشيرًا إلى أن مؤسسته نظّمت معرضًا لأعمال مروان في دار ليمبرتس للمزادات في برلين عام 2023. يُذكر أن آخر معرض فردي للفنان في لندن كان في حجرات الموزاييك The Mosaic Rooms  عام 2015.

لماذا تُقيم دار مزادات معرضًا لا تُباع فيه أعمال؟ يجيب المومنى: "نحن لا نريد أن نكون مؤسسة تجارية فحسب تعمل في الشرق الأوسط وتبيع الفن من هناك، بل نطمح إلى أن نكون منصة فاعلة ومؤثرة في الحقل الثقافي". 

يُعد معرض مروان في الواقع ثالث معرض غير تجاري تنظّمه دار كريستيز للفن العربي في لندن خلال السنوات الثلاث الماضية. نُظم أول معرض في عام 2023 تحت عنوان "كوكبة"، وضمّ مختارات من أعمال فنانين عرب من مجموعة مؤسسة بارجيل للفنون، تلاه في صيف 2024 معرض فردي للفنان السعودي أحمد ماطر.

ومع كل معرض صيفي، تنظّم كريستيز دورة مكثفة لمدة ثلاثة أيام تهدف إلى تعريف المشاركين بالفن الحديث والمعاصر في الشرق الأوسط. ويشير رضا المومنى إلى أن هذه المعارض تُعد فرصة للقاء زبائن أوروبيين محتملين، فضلاً عن العديد من الزوّار القادمين من منطقة الخليج الذين يقصدون لندن خلال الموسم الصيفي.

ويشير المومنى إلى أن الشراكات المؤسسية التي نشأت من خلال هذه المعارض تُشكّل فائدة كبيرة لكريستيز. فنسخة من معرض أحمد ماطر انتقلت هذا العام إلى مؤسسة UCCA Edge في شنغهاي، ومن المتوقع أيضًا أن ينتقل معرض مروان إلى إحدى المؤسسات الفنية لاحقًا.

يعزو سلطان سعود القاسمي الاهتمام المتزايد بسوق الفن في الشرق الأوسط جزئيًا إلى "تزايد عدد الإصدارات، وتوفّر السجلات وعمليات التوثيق التي سلّطت الضوء على ممارسات هؤلاء الفنانين". 

ويُضيف رضا المومنى أن هذه العوامل أسهمت في إقامة المزيد من المعارض والفعاليات الدولية التي باتت تتضمّن فنانين من المنطقة، مشيرًا بشكل خاص إلى بينالي البندقية الأخير الذي نظّمه أدريانو بيدروسا، والذي ركّز على فنانين من الجنوب العالمي.

ويتوقّع المومنى أن يحظى الفنانون من الشرق الأوسط بحضور بارز في بينالي العام المقبل، الذي تُشرف عليه القيّمة الكاميرونية الراحلة كوويو كوو، والتي طلبت منه، خلال لقائهما في كيب تاون في فبراير 2024، أن يعرّفها على مؤسسات فنية في المنطقة.