يظل التفرد من السمات الأساسية للعلامات التجارية الفاخرة. ففي الوقت الذي أثبت فيه الذكاء الاصطناعي والكائنات الآلية (الروبوتات) قدرة عالية على زيادة الأرباح ورفع معدلات الابتكار والإنتاج في كثير من المجالات، بدا الأمر مختلفًا في عالم صناعة الفخامة التي تعتمد على التجارب الحسية والمشاعر الإنسانية فيما تجيء بإبداعات يُرجى أن تتحوّل إلى إرث يظل حاضرًا في أذهان زبائن هذا القطاع مدى الحياة.

لهذا كان على اللاعبين البارزين في هذه الصناعة اتباع نهج مغاير للاستفادة من هذه التقنية وتسخيرها لصالحهم من دون المساومة على طابع الأصالة المميز لمنتجاتهم.

الزبائن الجدد

في السنوات الماضية، أدركت العلامات التجارية الفاخرة أن زبائنها يتغيّرون فتتبدل تبعًا لذلك عادات الشراء في سوق المنتجات الفاخرة. فمن المتوقع مثلاً أن تصل القيمة التي يحققها سوق السلع الفاخرة العالمية إلى 1.5 تريليون دولار بحلول عام 2025، وأن يكون نصيب جيل الألفية 50% من إجمالي الإنفاق على منتجات الرفاهية الشخصية، على ما أفاد تقرير لمجلة فوربس الأمريكية المتخصصة في مجال المال والأعمال.

استشرفت فوربس أيضًا أن يلحق الجيل زد Generation Z، المولود في الفترة ما بين عامي 1993 و2001، بجيل الألفية، وأن يكون له تأثير قوي على سرعة وعمق التغييرات التي سيشهدها سوق المنتجات الفاخرة، لأن أبناء هذا الجيل يتبنون منظومة مختلفة من القيم. وفي ظل هذا الواقع، كان من المهم أن تطور الدور الناشطة في صناعة المنتجات الفاخرة أدواتها لتلبي احتياجات جمهورها الجديد. 

مهمة استشرافية

أمام التغيرات المتلاحقة وتلبية لمساعي فهم الزبائن الجدد وتفضيلاتهم في العمق، خصصت علامات تجارية فاخرة مختلفة جزءًا من ميزانيتها السنوية لخدمات تحليل البيانات التي تتيح الحصول على معلومات مهمة حول الزبائن الحاليين والمحتملين لتحسين تجربتهم في التسوّق وزيادة حجم المبيعات.

تصل هذه الدور والشركات يوميًا إلى كثير من المعلومات، من أول ملف التعريف الخاص بكل زبون، والذي يتضمن الاسم والسن والمهنة والدخل، حتى سجلات الشراء الخاصة به. على سبيل المثال، عندما اهتمت دار الأزياء البريطانية بُربري بتحليل البيانات الضخمة لزبائنها، تمكنت من تحديد سوقها بدقة ومعرفة أهمية الدور الذي سيكون للزبائن الذين ينتمون إلى جيل الألفية في التأثير على المبيعات، وهو ما ترتب عليه زيادة بنسبة 14% على أساس سنوي في إيرادات الدار.

في مواكبة التطور

في عصر يشهد طفرة في التطورات التقنية، سعت أيضًا العلامات التجارية الفاخرة إلى الاستفادة من هذا الواقع بدمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والروبوت في أعمالها لخفض تكاليفها وتحسين كفاءتها الإنتاجية والحفاظ على زبائنها الحاليين وتوسيع قاعدة جمهورها.

كما استخدم عدد من الشركات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المتقدمة لتعرّف المنتجات المقلدة وحماية علاماتها التجارية، فيما لجأ البعض إلى الحلول التقنية لإدارة مخزون المنتجات وتحسين كفاءة المستودعات.

بموازاة تطبيق بعض العلامات التجارية الفخمة التقنيات المتطورة للتعلم الآلي للاستفادة من بيانات المستهلكين بطريقة آمنة مع حماية معلوماتهم الشخصية، جرى توظيف التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي في خدمة الجهود التسويقية لهذه العلامات التجارية عبر روبوتات المحادثة التي تبدأ محادثات ذكية وتجيب عن استفسارات الزبائن وتقدم لهم المساعدة.

في عام 2017، استعان فندق ماندارين أورينتال في لاس فيغاس (الذي حلّ محله لاحقًا فندق والدورف أستوريا) مثلاً بالكائن الآلي Pepper بوصفه "سفيرًا تقنيًا" للعلامة يقدّم معلومات للزائرين عن الفندق ويتولى ترفيههم بمزيج من القصص والأداء الراقص.

وفي أواخر شهر يوليو من العام الفائت، افتُتح مطعم Roger في سيليكون فالي، على بعد خطوات من المقر الرئيس لغوغل، مدرجًا في قائمة موظفيه اثنين من الكائنات الآلية يحملان اسم Servi ويشرفان على خدمة الضيوف (لكن من دون التفاعل معهم).

في لندن مثلاً، ابتكرت دار إنغلش كات English Cut للحياكة مفهوم MTM Code الذي يشمل مثلاً في مستواه الثالث لخدمات التعديل أخذ مقاسات الزبون داخل متجر الدار ثم إرسالها إلى محترف في اليابان لقص نماذج التفصيل بالليزر. تُستخدم بعد ذلك تقنية بالغة التطور لصياغة نموذج التفصيل وتعديله.

لكن على الرغم من تعدد استخدامات الذكاء الاصطناعي والكائنات الآلية في عالم صناعة الفخامة، إلا أن الطريق ليس مفروشًا بالورود على الدوام.

ساعة Magic Lotus Automaton

Niels Ackermann
في ساعة Magic Lotus Automaton من جاكيه درو، تُطلى كل بتلة من بتلات زهرة اللوتس يدويًا باستخدام تقنية إشعال طلاء المينا في الفرن.

سيف ذو حدّين

قد تؤدي المشاعر دورًا أساسيًا في رحلة شراء السلع الفاخرة، إذ تصوغ العلامات التجارية الفخمة تجارب حسية قوية تستثير المشاعر ويصبح من الصعب نسيانها، من أول العروض التي لا تقاوم لمطاعم الصفوة وصولًا إلى الروائح الزكية للعطور الراقية المتميزة. ولسوء الحظ يمكن أن يهدد الذكاء الاصطناعي والكائنات الآلية نقطة القوة هذه التي لطالما تمتعت بها المنتجات الفاخرة.

في صناعة السيارات أيضًا، تواجه العلامات التجارية تحديًا كبيرًا منذ بدء ظهور المركبات ذاتية القيادة، وعلى رأسها شركة بي إم دبليو الألمانية العريقة حيث تشكل هذه الخطوة طعنة في شعارها الذي تبنته لسنوات وهو متعة القيادة، لأن الأمر لن يكون له وجود ولا مغزى فور تحول السيارات الآلية لواقع ملموس. وإذا كان الأصل في حياكة بدلة حسب الطلب يكمن في التواصل الشخصي بين الحائك والزبون، فما هو مصير هذه التجربة في حال حلت الروبوتات محلّ الحائكين؟

فضلاً عن ذلك، يُعد مندوبو المبيعات جزءًا لا يمكن الاستغناء عنه في استراتيجيات تسويق العلامات التجارية الفاخرة لأنهم ببساطة سفراء لهذه المؤسسات، كما أنهم بالنسبة للزبائن السبيل الوحيدة للدخول في محادثة حقيقية مع علامتهم التجارية.

لكن في ظل التطور التقني، بدأت روبوتات المحادثة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي أداء دور مندوب المبيعات بتكلفة أرخص وبكفاءة أكبر، حيث يمكنها تسجيل بيانات الزبائن فوريًا، والإجابة عن أسئلتهم على مدار الساعة، واتخاذ قرارات آنية. بل إن روبوتات المحادثة ذات الذاكرة غير المحدودة تعد منافسًا حقيقيًا لمندوبي المبيعات.

يطرح أيضًا استخدام الكائنات الآلية والذكاء الاصطناعي في تجربة الزبائن التسويقية تحديًا عندما يتعلق الأمر بالثقة. ففي الوقت الذي يعد فيه المستهلكون في عصرنا الحالي أكثر استعدادًا لاحتضان التقنية، إلا أنهم يبدون تخوّفاً متزايدًا من جمع العلامات التجارية لبياناتهم الخاصة وتخزينها وبيعها.

وبالرغم من أن عملية جمع المعلومات تستهدف في غالب الأحيان الأغراض التسويقية للعلامات التجارية ومساعدتها على تصميم منتجات وخدمات تلبي الاحتياجات الخاصة بكل زبون، إلا أن المؤسسات التي تنتمي لصناعة الفخامة لن تتمكن من إتمام هذه المهمة بنجاح إلا إذا أفلحت في عدم تنفير زبائنها منها في أثناء عملية جمع كثير من المعلومات عنهم.

أما المعضلة الأهم، فتبقى الارتباط الوثيق بين المنتجات الفاخرة والحرفة اليدوية. فالإتقان الحرفي يبقى أساسًا في الخارطة الجينية لدور رسخت حضورها في هذا القطاع على مر عقود بل قرون، لا سيّما في مجالات مثل الحياكة حسب الطلب وصناعة المنتجات الجلدية، وصناعة الساعات الميكانيكية وصياغة الجواهر، وصولاً إلى عالم السيارات واليخوت حيث تتأنى أنامل الحرفيين في صياغة التفاصيل وزخرفتها يدويًا. في قطاع صناعة الساعات الميكانيكية مثلاً، كيف سيتسنّى لكائن آلي أن يستنسخ الحس الإبداعي لحرفي يزخرف ميناء الساعة بطلاء المينا مبتكرًا في كل مرة نموذجًا متفرّدًا لا يشبه غيره على ما يحدث مثلاً في محترفات الفنون التابعة لدار جاكيه درو؟  

لا شك في أن آلات الذكاء الصناعي ستتعلم بمرور الوقت القيام بالأنشطة التي يمكن للبشر التحكم بها غريزيًا. لكن بعيدًا عن الجدل المستمر حول إذا ما كان هذا التوجّه يهدد بزوال مهارات حرفية عريقة، يبقى السؤال: كيف يمكن للكائن الآلي أن يستنسخ أيضًا التجربة الحسية الشخصية التي يوظفها الحرفي في مسار إبداعه - على ما يفعل الحائكون مثلاً في محترف زينيا لحياكة البدلات بحسب الطلب - لتنبعث من بين أنامله حكاية شغف وإتقان تتوثق بوساطة فرشاة، أو إزميل، أو مقص وإبرة، حكاية يتلقّفها المستهلك ليختبر من خلالها معاني الرفاهية الحقيقية؟

محترف زينيا لحياكة البدلات بحسب الطلب

Zegna
في محترف زينيا لحياكة البدلات بحسب الطلب، تصوغ أنامل الحائك كل تفصيل بكثير من التأني والإتقان الحرفي.

الحلّ في التوازن

أدركت العلامات التجارية الفاخرة أنه لا ينبغي ولا يمكن للذكاء الاصطناعي والكائنات الآلية أن تحلّ محل الخبرة واللمسات البشرية المهمة في صناعة الفخامة، ما يحتّم إيجاد صيغة متوازنة للحصول على أفضل ما في العالمَيْن. لذا اختارت كبرى الدور والشركات الناشطة في قطاع المنتجات الفاخرة استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة سلسلة التوريد والتمويل والموارد البشرية وتطوير المنتجات، فيما أبقت على المهام المتعلقة بالنواحي الإبداعية والتجارب الحسية رهنًا بالعنصر البشري.

تُعد دار بُربري نموذجًا يحتذى به في هذا الإطار، إذ إنها أدركت مبكرًا أهمية الموازنة بين الذكاء الاصطناعي والكائنات الآلية من جهة والخبرة الإنسانية من جهة أخرى، فجمعت بيانات زبائنها بطريقة ذكية عبر إتاحة الفرصة أمامهم لمشاركة بياناتهم في مقابل الحصول على عدد من برامج الولاء والمكافآت.

ومن خلال تحليل قاعدة البيانات الضخمة وإدارتها باستخدام الذكاء الاصطناعي أصبح بإمكان فريق خدمة الزبائن البشري الموجود في متاجر بُربري تقديم توصيات جيدة لكل زبون بما يتوافق مع ذائقته واحتياجاته ويحقق للدار رضا المستهلك.

تبنّت أيضًا شركة كارما أوتوموتيف مقاربة خاصة لأفضل الممارسات في عالم الكائنات الآلية ترتكز إلى استخدامها بهدف تحقيق منفعة تعزز إنتاجية العنصر البشري وتحد من الجهد الملقى على عاتقه، لا سيّما في المسارات التصنيعية التي تنطوي على حركة متكررة. لكن الشركة امتنعت في المقابل عن استخدام أي كائن آلي في المراحل التي تقتضي تدخلاً بشريًا حرفيًا، مثل كسوة المقصورات الداخلية التي تُعد فنًا أكثر منه علمًا في مركباتها.