في أواخر شهر يناير الفائت، تحولت الشرفة الخارجية لمجلس الميلس في فندق فورسيزونز أبو ظبي إلى واحة كل تفصيل فيها يرتحل بالحواس إلى عوالم مكسيكية أصيلة تجسّد أول ملامحها في مؤثرات تصميمية تقليدية انبعثت في المكان مهرجانًا من الألوان والأضواء والزخارف، وفي عروض ترفيهية مبهجة على وقع موسيقا المارياتشي. 

على أن ذروة الاحتفاء بتقاليد المكسيك الأصيلة في المطعم المؤقت، الذي لا ينبغي لكم أن تفوّتوا زيارته قبل أن يغلق أبوابه في الثامن عشر من شهر مارس المقبل، تستحضرها خصوصًا قائمة طعام مبتكرة صاغ عناصرها الطاهي التنفيذي في الفندق، كريستيان بوينروسترو، معيدًا إحياء المطبخ التقليدي في وطنه الأم في مزيج متقن من التوابل والمذاقات التي تستأثر بالحواس.

فبوينروسترو، الذي وُلد في كيريتارو بالمكسيك، ترعرع في كنف عائلة إسبانية أورثته الشغف بالطهي، فخطا أولى خطواته في هذا العالم من خلال والدته وجدّته قبل أن ينتقل إلى كوستا ريكا وفنزويلا، ثم إلى الأرجنتين حيث مضى يصقل مهاراته ويرسم معالم مسيرة مهنية وفلسفة إبداعية متفردة يختزلها لنا بقوله: "أنا طاهٍ من المكسيك، ولكني لست طاهيًا مكسيكيًا.

فالمذاقات العالمية كلها تفتنني وأجد متعة في دمجها بعناصر المطبخ المكسيكي الأصيل". 

في المطعم المكسيكي المؤقت، يوظّف بوينروسترو هذه الفلسفة الإبداعية وإرثه العائلي والوطني ليصوغ لضيوف الفندق وزوّار المدينة تجربة مؤنسة تحتفي بروح الحياة الجميلة أو La Buena Vida على ما يخبرنا.

الطاهي التنفيذي في الفندق كريستيان بوينروسترو

Four Seasons Hotel Abu Dhabi
الطاهي التنفيذي في الفندق كريستيان بوينروسترو


وبالرغم من أن ما نختبره من إبداعاته المكسيكية الأصيلة يعكس أسلوبه المميّز، الذي يُبقي على عنصر البساطة في الابتكار بموازاة التركيز على المزج بين مذاقات جريئة وحيوية، إلا أن ما يعلو بهذه التجربة هو ذاك الانغماس الماتع في عوالم المكسيك على صهوة حكايات من التاريخ والأدب والتراث يسردها بوينروسترو على مسامعنا ليوثّق أصول مكوّنات ومذاقات يُحسن الجمع بينها في أطباقه التي ترتسم لوحات تضج بالألوان.

وفيما يبوح بوينروسترو بأسراره، ويُرجعنا في وصفاته مرة إلى أزمنة غابرة، من حضارة المايا إلى غزو الإسبان لحضارة الأزتيك، ومرة إلى ذكريات طفولته في المطبخ مع والدته وجدّته، يعيد تشكيل إدراكنا للطعام المكسيكي ولمذاقات تقليدية ارتقى بها على نحو يليق بتجربة طعام فاخرة. 

لكل طبق هنا قصة وثيقة الارتباط بتاريخ المكسيك وتراث البلاد وتقاليدها، بداية من المقبلات التي تتربّع على عرشها نسخة بوينروسترو الخاصة من صلصة الغواكامولي التي أخذها الطاهي عن والدته، فأثرى مذاق الأفوكادو المهروس بطعم الليمون الأخضر المنكه بفلفل تشيلي والكثير من الكزبرة، هذه العشبة التي وجدت طريقها إلى المكسيك مع الغزو الإسباني في القرن السادس عشر. يحضر هذا الإرث أيضًا في سلطة الروبيان المطهو في عصير الليمون الأخضر الحار والمقدّم مع الخيار والبصل والكزبرة.

وعلى ما يليق بتجربة مكسيكية أيضًا، تتيح قائمة الطعام أربعة أصناف من شطائر التاكو المحشوة بلحم البط مع صلصة بيكو دي غالو (يتمايز هذا الصنف بالشطائر المعدة من الذرة السوداء)، أو شرائح لحم واغيو مع صلصة الأفوكادو، أو السمك المقلي بصلصة الفلفل الحار والمايونيز، أو الروبيان مع الأناناس المقلي وصلصة الهالابينو. 

قد تكون هذه الأصناف أكثر من كافية لاستكشاف طعم الأصالة المكسيكية، إلا أن ما يكرّس هذه التجربة الاستكشافية بامتياز هو ذاك المزيج من الثراء والبساطة الذي يغلب على الأطباق الرئيسة.

 شطائر التاكو المكسيكية

Four Seasons Hotel Abu Dhabi
شطائر التاكو المكسيكية


فمن فطائر الذرة المحشوة بالدجاج والجبن والقشدة الطازجة (Enchiladas Rojas O Verdes De Pollo)، أو الطبق المكوّن من صدر الدجاج (Pechuga De Pollo Cocinada Al Vacio Con Mole Verde) المطهو بأسلوب Sous Vide في كيس مفرغ من الهواء، والمقدم مع الأرز المكسيكي وصلصة الفلفل الأخضر الحار وبذور اليقطين، إلى طبق Pargo Glazeado Con Achiote “Tikin Xik” الذي يناغم بين سمك النهاش المنقوع في خليط البرتقال وفلفل أخيوتيه والمغلف بأوراق الموز، وصلصة الطماطم والأفوكادو، والصلصة البيضاء بالفلفل الحار، وصولاً إلى طبق Chile Poblano Relleno De Queso الذي يُعد من فلفل بوبلانو المحمّص والمحشو بجبن مونتيري جاك والمغلف قبل قليه بمخيض البيض، ليُقدم لاحقًا مع صلصة الطماطم اللاذعة محفزًا الذائقة بمذاقه المتفرّد وغير المتوقع - نحار في تحديد خيارنا المفضل. 

فيما نستسلم لهذا السحر الذي يستأثر بذائقتنا من خلال أصناف وفيرة تعكس الانضباط المتقن بقدر الجرأة في معادلة توليف المكوّنات وتقنيات الطهي وأسلوب التقديم، تستعيد ذاكرتنا سحرًا مماثلاً فاض من قبل عن قلم الكاتبة لاورا إسكيبيل في روايتها الشهيرة "كالماء للشوكولاته" Like Water For Chocolate.

ففي السياق الدرامي لقصة نساء عائلة دي لا غارزا، وسلسلة الأحداث التي تتخبط بالبطلة تيتا بين الواقعية والخيال، أفردت إسكيبيل مساحة كبيرة في روايتها للطعام، بداية من المقادير الدقيقة جدًا للوصفات التي تستهل بها كل فصل في الرواية وعلاقة تيتا بالمطبخ والطهو والطعام.

وفيما ترسم الروائية بخيالها وقلمها قصة حب تُطهى فيها العواطف وتُحضر وتُنضج كأنها وصفة طعام ناجحة، تكتب قائلة: "عندما يدور الحديث عن الطعام، وهو أمر بالغ الأهمية، لا يمكن إلا للحمقى أو المرضى ألا يولوه ما يستحقه من الاهتمام". وكالماء للشوكولاته في رواية إسكيبيل، تتجلى أيضًا وصفات بوينروسترو فسيسفساء متقنة من الطعم والشكل والرائحة.  

حلوى أصابع التشورو مع صلصة الشوكولاته

Four Seasons Hotel Abu Dhabi
حلوى أصابع التشورو مع صلصة الشوكولاته


على أنك تحتاج إلى الاستسلام لإغراء تلك الحلويات التي تُختتم بها التجربة في المطعم المكسيكي المؤقت لتدرك بحواسك كلها، فيما تتذوّق حلوى أصابع التشورو مع صلصة الشوكولاته، ما كانت تعنيه إسكيبيل عندما تأنت في وصف أدق تفاصيل خطوات إعداد الشوكولاته المخفوقة للحصول على الكثافة المطلوبة للقوام.

وبالرغم من أنكم قد تستحسنون أيضًا أصنافًا أخرى من الحلويات مثل المثلجات بنكهة ثمار القشطة مع التيبوكة المنكهة بالليمون الحامض ورغوة الأفوكادو، والكعكة الإسفنجية Tres Leches المعدّة من ثلاثة أنواع من الحليب، إلا أنكم ستكونون من ذوي الحظ إذا ما تسنت لكم الفرصة مثلنا لإمتاع ذائقتكم بحلوى الكريم كراميل.

فهذا الطبق غير المدرج على القائمة، والذي قدمّه لنا بوينروسترو هدية، يبوح بكثير عن طيب سرّ توارثه عن أجيال من النساء في عائلته.