في حي جاكس بالدرعية، أسدل الستار أخيرًا على النسخة الثانية من معرض الكتب الفنية PaperBack الذي أُقيم بين السادس والثامن من شهر نوفمبر، مؤكدًا مكانته بوصفه منصة فاعلة تربط بين الفنانين ودور الطباعة المستقلة ودور النشر ومتاجر الكتب. فعلى مدار ثلاثة أيام، تحوّل المعرض إلى محور يجمع أحدث التجارب الفنية والابتكارات الطباعية التي تحمل بصمات ثقافية من مختلف أنحاء العالم.

يشكّل معرض الكتب الفنية مساحة تفاعلية تحتفي بثقافة الطباعة بوصفها فنًا متكاملاً يعبر عن تحوّل الفكرة إلى منتج ملموس يزاوج بين الإبداع البصري والهوية المادية للكتاب. وقد اجتمع تحت مظلة هذا الحدث نخبة الناشرين المستقلين والفنانين والمصممين، إلى جانب المهتمين بصناعة الكتب الحديثة، وكلهم طرحوا رؤى مبتكرة حول مفاهيم التصميم وطرق إنتاج المطبوعات المعاصرة.

معرض الكتب الفنية.. منصة للتواصل والإبداع الثقافي

فيما أتاح المعرض منصته للجمع بين الطباعة والفن والفكر، برزت أهميته أيضًا من زاوية أعمق تتعلق بدوره في المشهد الثقافي المحلي. وهو ما أوضحته سيبيل فاسكيز، مديرة البرنامج الثقافي في مؤسسة بينالي الدرعية، عند سؤالها عن أهمية إقامة معرض الكتب الفنية حاليًا في مدينة مثل الرياض وفي الدرعية على نحو خاص. وفي هذا قالت فاسكيز: " تكمن أهمية هذه الفعاليات في حقيقة مفادها أن صناعة النشر والكتب هي مرآة واضحة للمشهد الثقافي في أي منطقة. لقد تحول حي جاكس إلى وجهة ثقافية، وهو ما يجعل المعرض مرآة المجتمع المحلي وأنشطته، ومنبرًا يُتيح للأشخاص فرصة المطالعة والتفكير وجمع الكتب واستكشاف كل ما هو جديد في هذه الصناعة، وتبادل الأفكار ومدّ جسور التواصل بين الأشخاص الفاعلين في هذا المجال عبر المناطق المختلفة، والتفاعل مع القرّاء".

معرض الكتب الفنية.. منصة للتواصل والإبداع الثقافي

Diriyah Biennale Foundation

تجسد هذا الحراك الذي أشارت إليه فاسكيز بوضوح في النسخة الثانية من المعرض، التي جاءت أكثر نضجًا وتنظيمًا على المستويين الفني والتنظيمي. فقد شمل المعرض برنامجًا متنوعًا من الأنشطة والحوارات التي تناولت مراحل إنتاج الكتاب كافة، لتتحول التجربة من مجرد استعراض للمنتج النهائي إلى مساحة تُظهر العملية الإبداعية الكاملة خلف كل إصدار.

أما على مستوى المشاركة، فقد شهدت الدورة الثانية من معرض الكتب الفنية توسعًا ملحوظًا بارتفاع عدد دور النشر المشاركة، في مؤشر واضح على تنامي الحراك الإبداعي الذي بات المعرض منصة له. واتسع هذا الزخم أيضًا ليشمل طيفًا أوسع من التخصصات، ما أضفى على الحدث بعدًا أكثر ثراءً وتنوّعًا في المحتوى التحريري.  وفي هذا تقول فاسكيز: "لقد أصبح المعرض في نسخته الثانية ذا طابع أكثر احترافية وانتقائية مع ارتفاع عدد دور النشر المشارِكة من 25 في الدورة الأولى إلى 30 دارًا في هذه دورة هذا العام. وقد عكست المؤسسات المشارِكة تنوّعًا في التخصصات التحريرية، بدءًا من الكتب الفنية وصولاً إلى الإصدارات عن النظريات النقدية والمجلات التجريبية. هذا بالإضافة إلى توسيع برنامج الأنشطة العامة للتعريف بمختلف مراحل عملية النشر".

معرض الكتب الفنية.. منصة للتواصل والإبداع الثقافي

Diriyah Biennale Foundation

بُعد إنساني

وفي سياق توسيع دوائر هذا الحراك الثقافي، كشفت سيبيل فاسكيز عن البعد الإنساني الذي يقف خلف فلسفة المعرض، موضحةً أنّ المعرض يتوجّه لكل من يملك فضول الاكتشاف؛ للفنانين والمصممين والطلاب والكتّاب والقراء، بل لكل من يبحث عن الجمال ويرغب في التعرّف على ما يستجد في عالم النشر والطباعة. تقول فاسكيز: "إن المعرض لا يقدّم كتبًا فحسب، بل يفتح للزوّار نافذة لاكتساب شغف جديد وتعلّم مهارة مختلفة، وربما اقتناء كتاب لم يكن في حسبانهم"، موضحة أن "كلمة السر في هذا المعرض هي التواصل". ويمتدّ هذا الحضور الإنساني إلى رؤية فاسكيز طويلة المدى، إذ إنها تؤكد أنّ الفريق يعمل على ترسيخ المعرض بوصفه "حدثًا سنويًا عالميًا على أجندة الفعاليات الثقافية في السعودية".  

بُعد إنساني

Diriyah Biennale Foundation

على أن مهمة المعرض لا تتوقف عند حدود العرض والاقتناء. فجمع الكتب جزءًا أصيلاً من رسالته، على ما توضح فاسكيز، مضيفةً: "يشكل جمع  الكتب إحدى أسهل الطرق لاقتناء الفنون، وبعض كتب الفنانين تتحوّل مستقبلاً إلى مصادر أرشيفية ومعرفية". وحول دور المعرض في الارتقاء بثقافة الطباعة محليًا، تقول إن هذا المعرض يُعدّ من الفعاليات القليلة التي تتعامل مع النشر والطباعة برؤية معاصرة ونابضة بالحياة، وتضيف: "يتمثَّل هدفنا بتأسيس منصة للأصوات المستقلة. ولا يقتصر ذلك على استقطاب الجهات الدولية، بل إتاحة الفرصة أمام الناشرين في المملكة والمنطقة للوصول إلى العالم". وفي ما يتعلق بالمشهد المحلي، يتيح المعرض مساحة لبناء العلاقات وتبادل الأفكار وتجريب المفاهيم التحريرية وتعلّم مقاربات الاستدامة في عالم النشر المستقل. 

بُعد إنساني

Diriyah Biennale Foundation

ثلاثة أيام من الإبداع والتجريب

استهل معرض الكتب الفنية في دورته الثانية فعالياته يوم السادس من نوفمبر 2025 ببرنامج حافل جمع بين الإبداع البصري والتجريب الفني في أشكال متعددة من الطباعة والتصميم. كانت البداية مع ورشة تصميم الملصقات التي قدّمها استوديو سلاسل. ووسط أجواءٍ تحمل روح الاكتشاف الطفولي، أتاح مشروع كرييتف غيرلز كلوب Creative Girls Club ورشة صناعة المجلات الصغيرة للأطفال، ليصمّم الصغار دفاترهم ومجلاتهم الشخصية مستخدمين تقنيات بسيطة مثل القص والطي والتجليد. واختُتم اليوم الأول بورشة مخزن الشعر التي نظّمتها دار خُنفُس للنشر، متيحة تلاقيًا غير تقليدي بين الطهي والأدب.

ثلاثة أيام من الإبداع والتجريب

Diriyah Biennale Foundation

جاء اليوم الثاني من فعاليات المعرض ليواصل ترسيخ مفهوم الكتاب بوصفه وسيلة للتعبير الفني والتجريب الإبداعي. انطلقت الفعاليات بورشة مهارات صناعة الكتب التفاعلية التي منحتها دار ليبري فينتي كلاندستيني Libri Finti Clandestini، وتواصلت الأجواء مع جلسات التصميم الإيقاعي من تنظيم كان كان برس Kan Kan Press، التي جمعت بين الكلمة والموسيقى والتصميم في تجربة متعددة الطبقات.

ثلاثة أيام من الإبداع والتجريب

Diriyah Biennale Foundation

وفي مساحة أخرى من البرنامج، شهد اليوم الثاني إطلاق كتاب Thoughts for Food (أفكار للطعام)، وهو ارشيف حي للوصفات والنصوص والتأملات. وفي نهاية اليوم، نظم استوديو بريك لاب Break lab جلسة إطلاق فضاءات مكتوبة، التي تناولت العلاقة بين الفضاء والعمارة والسينما، موضحةً كيف يؤثر التصميم المعماري في بناء السردية السينمائية وفي تشكيل التجربة العاطفية للمكان.

وقد اختُتمت فعاليات المعرض في الثامن من نوفمبر 2025 ببرنامجٍ زاخر بالأنشطة التي جمعت بين الإبداع العائلي، والحرف اليدوية، والفكر المعماري الحديث. استُهل اليوم بورشة "ارسم، مزّق، ابتكر! مغامرة الكولاج" التي قدّمتها ديبورا غريس، تلتها ورشة "المدينة بين الصفحات" من تنظيم مكان برس، التي استكشفت العلاقة بين المدينة والذاكرة عبر الصور والسرد البصري.

ثلاثة أيام من الإبداع والتجريب

Diriyah Biennale Foundation

أما عشّاق الحرف اليدوية، فكانوا على موعد مع ورشة "صناعة الكتب: الكتيّبات، والمطويات، والتجليد الياباني" التي نظّمها مشروع كرييتف غيرلز كلوب والتي عرّفت المشاركين على ثلاث تقنيات تقليدية في تجليد الكتب تشمل الخياطة البسيطة، والطراز الياباني، والمطوية المتعرجة. وكانت المحطة الأخيرة في برنامج المعرض إطلاق مطبوعة "مستقبل الإسكان في الخليج" من دار سوالف كوليكتف Swalif Collective. وقد استعرضت جلسة الإطلاق نتائج ندوة بحثية امتدت لشهر كامل حول التحولات في أنماط السكن في دول الخليج.

ومع النجاح المتواصل الذي حققته النسخة الثانية، تتجه الأنظار اليوم إلى مستقبل معرض الكتب الفنية وما يمكن أن يضيفه إلى المشهد الثقافي في المملكة خلال السنوات المقبلة.