في عودةٍ تؤكد حضورها المتنامي على خريطة الثقافية العالمية، تحتفي دار سوذبيز بمزادها الثاني في المملكة العربية السعودية، بعد الحدث الأول الذي دشّن مسيرتها في الرياض مطلع هذا العام. تحمل النسخة الجديدة عنوان Origins (أصول)، في إشارة رمزية إلى العودة للجذور التي انطلقت منها الفنون، وتحوّلت عبرها الإبداعات إلى ذاكرة مشتركة للإنسانية.
ما يزيد الترقّب لهذا الحدث أنّه سيُقام مجددًا في الدرعية، المهد الأول للمملكة وموطن أحد مواقع اليونسكو للتراث العالمي، لتجتمع فيها روح المكان مع روعة الفن في مشهدٍ واحد. في هذا المزاد الفريد، المقرر في 31 يناير 2026، ستلتقي أكثر من 70 قطعة فنية لفنانين سعوديين وشرق أوسطيين مرموقين إلى جانب أعمال لأسماء عالمية شهيرة، كثيرٌ منها يظهر للمرة الأولى في سوق المزاد.
ومن هنا، ننطلق في جولة نستعرض فيها أبرز الأعمال التي ستتألق في المزاد، حين تمتزج الرؤية الفنية بالحكايات التي صنعت مجد كل قطعة.
لوحة Copper لسامية حلبي
على مدى مسيرتها الفنية الممتدة لعقود، رسّخت الفنانة الفلسطينية الأمريكية سامية حلبي مكانتها بوصفها أحد أبرز روّاد الفن التجريدي في العالم العربي والعالمي على حد سواء، إذ اقتنت أعمالها مؤسسات فنية مرموقة حول العالم. وفي المزاد المقبل، تُعرض لوحتها Copper (النحاس)، التي تُجسّد جوهر أسلوبها القائم على التكوينات الهندسية المتحركة وحوار الضوء مع اللون، بقيمة تقديرية تراوح بين 120 ألف دولار و180 ألف دولار أمريكي.
Sotheby’s
يعكس هذا العمل ذروة تطور سامية الفني الذي برز منتصف الستينيات مع انتقالها من التمثيل الواقعي إلى التجريد الخالص، واستكشافها للخط القطري بوصفه عنصرًا ديناميكيًا يعبّر عن تفاعل الحركة والضوء. استحضرت الفنانة من خلاله ذكريات الطفولة في يافا وبيروت، حيث الأفق المفتوح بين البحر والسماء، ما منح لوحاتها إحساسًا بالامتداد واللانهائية، عزّزته بملمس معدني يعكس الضوء وكأنه جزء من اللوحة نفسها.
عمل نادر للفنان أحمد مرسي
في زاوية أخرى من المزاد، تُعرض لوحة للفنان المصري أحمد مرسي بعنوان Deux Pêcheurs (صيّادان)، وهي من الأعمال النادرة لفنان لا يطل كثيرًا في أسواق المزادات، إذ لم تُعرض أعماله سوى خمس مرات سابقًا. تصور اللوحة مشهدًا بسيطًا على الشاطئ يضم صيادَين وصندوقًا ممتلئًا بالأسماك، لكنها تتجاوز الواقعية لتلامس شاعرية الطقس اليومي للحياة الساحلية. البحر، الذي يتكرر حضوره في عمل مرسي، يتحول هنا إلى عنصر تعبيري يوحي بالسكينة والاستمرارية، فيما تُقدّر قيمة العمل بين 120 ألف دولار و180 ألف دولار أمريكي.
Sotheby’s
عمل صافيا بن زقر في المزاد
في ركنٍ هادئ من المزاد المقبل، تقف لوحة تُشبه نافذة مفتوحة على الزمن، عملٌ يكشف كيف استطاعت صافيا بن زقر أن تجعل من التراث السعودي لغة معاصرة للنظر. لوحة Coffee Shop in Madina Road (مقهى في طريق المدينة) التي رسمتها الفنانة السعودية عام 1968 لا تُعرض بوصفها قطعة فنية نادرة فحسب، وإنما لتجسيد روح المملكة في لحظة تحولها الأولى نحو الحداثة، حين كانت المقاهي الشعبية والطرقات القديمة فضاءاتٍ تروي قصص الناس وتفاصيل الحياة اليومية.
Sotheby’s
اللوحة قادمة من المجموعة الخاصة بالسفير الإسباني الأسبق لدى المملكة ألبرتو ميستاس غارسيا وزوجته ميرسيدس سواريز دي تانجيل غوزمان، وتُقدّر قيمتها بين 150 ألف دولار و200 ألف دولار أمريكي، لكن قيمتها الحقيقية تكمن في ما تجسده: ذاكرة بصرية لكل ما شكّل ملامح الحياة السعودية في ستينيات القرن الماضي.
وُلدت بن زقر في جدة، ونذرت تجربتها لتتبع الموروث المحلي والعادات الشعبية عبر الريشة واللون، فحافظت على قصة بلدٍ بأكمله من خلال لوحاتها. في هذا العمل تحديدًا، تظهر البساطة اليومية مثل جمالٍ راقٍ، يحمل الدفء الإنساني نفسه الذي كرّسها رمزًا للفن السعودي الحديث.
لوحة محمد السليم غير المعنونة
لا ينفصل إرث الفنان الراحل محمد السليم عن الصحراء التي شكّلت ذاكرته البصرية ومصدر إلهامه الدائم. فقد كانت الرمال والسماء عنده أكثر من مشهد طبيعي؛ كانت فلسفة كاملة في اللون والامتداد. وفي لوحته التي لا تحمل عنوانًا، وتعود إلى عام 1989، يستعرض السليم نموذجًا أصيلاً لأسلوبه الفني المعروف باسم Horizonism، وهي رؤية تشكيلية طوّرها ليعبّر من خلالها عن العلاقة البصرية بين الإنسان والطبيعة في البيئة الصحراوية.
Sotheby’s
يستمد هذا الأسلوب لغته من الأفق المتدرّج الذي يربط الصحراء بالسماء، ومن حركة الرمال وإيقاع الضوء في شدة شمس الرياض. من خلال مزجه بين التجريد والاختزال اللوني، استطاع السليم أن يصوغ هوية فنية محلية الطابع وعالمية التعبير.
اللوحة التي تُقدَّر قيمتها بين 150 ألف دولار و200 ألف دولار أمريكي هي إحدى العلامات المضيئة في تاريخ الفن السعودي المعاصر. فقد اختزلت الصمت البصري للصحراء في خطوط تضجّ بالحركة والإشراق.
سلسلة محمد علي بإبداع وارهول
من المشهد العربي إلى الأسماء التي صنعت تحولات كبرى في الفن العالمي، يحضر اسم آندي وارهول، أحد أبرز رموز الثقافة البصرية الحديثة، وهو فنان لا يقل تأثيرًا عن موضوعاته نفسها. في المزاد المقبل، تُعرض سلسلة من أعماله التي تمثل ذروة مرحلته في السبعينيات، حين قرر أن يضع الرياضيين إلى جوار النجوم السينمائيين في صورته الشاملة عن رموز العصر.
Sotheby’s
عام 1977، كلّفه المصرفي الأمريكي ريتشارد وايزمان بإنجاز مجموعة من الصور لأشهر الرياضيين حول العالم، فحوّل وارهول هذا المشروع إلى حوار فني جريء بين الفن والرياضة والشهرة. ومن قلب تلك المجموعة برزت المطبوعات الحريرية الأربع التي تُجسّد شخصية محمد علي، والتي أصبحت لاحقًا من أعمال وارهول الأكثر شهرة على الإطلاق.
لم يتعامل وارهول مع محمد علي بوصفه بطلاً رياضيًا فحسب، بل كرمز ثقافي يمثل الطاقة والاعتداد والروح الشعبية الأمريكية في آنٍ واحد. بألوانه الصارخة وضرباته الحادة، التقط الفنان الإيقاع الخفي بين الصراع والحضور، مانحًا علي صورة تتجاوز الواقع نحو الأسطورة. تُطرح هذه المجموعة في المزاد بقيمة تقديرية تراوح بين 300 ألف دولار و500 ألف دولار أمريكي، لتبقى شهادة بصرية على لقاء غير متوقع بين عبقري البوب آرت وأسطورة الملاكمة.
محمود صبري يجسّد لحظة الاحتجاج
في مساحةٍ تمتزج فيها الدراما بالتعبير الإنساني، يطلّ عمل الفنان العراقي محمود صبري بعنوان Demonstration (احتجاج جماعي) بوصفه أحد الأعمال الأكثر قوة وتأثيرًا في المزاد القادم. أُنجزت اللوحة عام 1968، وهي تشكل محطة مفصلية في مسيرة الفنان الذي عُرف بقدرته على تحويل الواقعية الاجتماعية إلى شهادة إنسانية تتجاوز حدود المكان والسياسة.
Sotheby’s
تَستحضر اللوحة مشهدًا عميقًا لخمس نساء يقفن في حالة حداد تتناوب فيها مشاعر الصمت والغضب والانكسار، في مقابل خلفية تحمل ظلال مسيرة بشرية تعكس الاحتجاج الجمعي والوجدان الشعبي. في هذا المشهد، تتحول المرأة إلى رمزٍ للثبات والصبر، فيما يخلق اللون إلى جانب الضوء إيقاعًا بصريًا يوازن بين الألم والكرامة.
تعود جذور هذا التعبير الفني إلى فترة إقامة صبري في موسكو تحت إشراف الفنان الروسي ألكسندر داينيكا، حينما تأثر بأسس الواقعية الرمزية، لكنه أعاد توظيفها بروحٍ عربية تُنصت للإنسان أكثر مما تصرخ بالحدث. تُعرض لوحة "احتجاج جماعي" في المزاد بقيمة تقديرية تراوح بين 400 ألف دولار و500 ألف دولار أمريكي، وتُعدّ من أبرز أعمال صبري التي تجسّد نضجه الفني ورؤيته العميقة للإنسان.
تمثال مرآوي من آنيش كابور
يأتي إلى ساحة المزاد المقبل أحد الأعمال الأشد تفرّدًا في المشهد المعاصر: تمثال ضخم للفنان البريطاني الهندي آنيش كابور، الاسم الذي تحوّل إلى مرادفٍ لابتكار الرؤية المادية للفراغ. العمل المنفّذ عام 2005 يجسّد جوهر سلسلة كابور الشهيرة التي جعلت من المرآة المقعّرة علامة فارقة في النحت الحديث، بل لغة تشكيلية متفرّدة قائمة على التفاعل بين المشاهد والانعكاس.
Sotheby’s
يراوح تقدير القطعة بين 600 ألف دولار و800 ألف دولار أمريكي، وتُعرض بوصفها نموذجًا على قدرة كابور على تحويل المادة إلى تجربة إدراكية حيّة. ففيما يبدو السطح المنحني البسيط في البداية ساكنًا، ينقلب الانطباع تمامًا عند اقتراب المشاهد منه، إذ تنعكس صورته داخل عمقٍ بصري مشوَّه ومعلّق في الهواء. هنا يصبح اللون الوردي المكثّف عنصرًا يثير الإحساس بعدم الثبات البصري، فيجعل الإدراك نفسه ممارسة فنية.
أعمال روي ليشتنشتاين
من عالم النحت إلى ألوان البوب آرت الجريئة، يعرض المزاد سبعة أعمال من توقيع الفنان الأمريكي روي ليشتنشتاين، مأخوذة من مجموعته الشخصية ومجموعة زوجته دوروثي. وتأتي هذه الأعمال ضمن سلسلة مبيعات بدأت في نيويورك عام 2024 وحققت أكثر من 120 مليون دولار، متجاوزة التوقعات السابقة كلها.
Sotheby’s
تتصدر المجموعة لوحة Interior with Ajax Study (مشهد داخلي مع أياكس) المنفذة عام 1997، والمقدّر سعرها بين 600 ألف دولار و800 ألف دولار أمريكي، وقد نفّذها الفنان بأسلوبه المميز الذي يمزج بين الرسم والطباعة على الورق المقطّع، ضمن تكليف فني من مصمم الأزياء الشهير جياني فيرساتشي. في هذا العمل، يُعيد ليشتنشتاين قراءة البطل الإغريقي الأسطوري آياكس ضمن مشهد داخلي معاصر، ليصهر الميثولوجيا الكلاسيكية في قالب بصري يزاوج بين السخرية والدقة التقنية التي عُرف بها.
طاقة الصحراء من إبداع دوبوفيه
يحضر الفنان الفرنسي جان دوبوفيه في المزاد بلوحته اللافتة Le soleil les décolore (الشمس تُبهت ألوانهم)، عمل يُعرض للمرة الأولى ويُقدَّر سعره ما بين 800 ألف دولار و1.2 مليون دولار أمريكي. تمثل هذه اللوحة مرحلة محورية في مسيرة دوبوفيه الفنية، إذ جاءت بعد رحلته إلى الصحراء عام 1947، التي شكّلت نقطة تحوّل في رؤيته للعالم والفن على حد سواء.
Sotheby’s
في هذا العمل، يستحضر دوبوفيه تجربة الضوء القاسي والطاقة الخام للصحراء، لكن من منظورٍ غربيّ يُحاول فهم تلك الجغرافيا اللامتناهية لا بمحاكاتها بل بتحويلها إلى مادة حسّية. استخدم الفنان طبقاتٍ سميكة من الطلاء وأسطحًا خشنة متآكلة، لتبدو اللوحة كأنها نُحتت أكثر مما رُسمت، فتكشف تفاعل الإنسان الأولي مع الطبيعة من دون وسائط.
Paysage.. القطعة الأعلى قيمة في المزاد
في ذروة المشهد الفني للمزاد، تتألّق لوحة Paysage (منظر طبيعي) للفنان الإسباني بابلو بيكاسو بوصفها الجوهرة الأثمن بين المعروضات، بقيمةٍ تقديرية تصل إلى 3 ملايين دولار أمريكي. عملٌ وُلد في مايو عام 1965، في سنوات بيكاسو الأخيرة التي تحرّر فيها بالكامل من قيود المدرسة والأسلوب، ليترك لريشته حرية الانفعال الخالص والتجريب بلا حدود.
Sotheby’s
يستقي العمل ملامحه من قرية موجان في منطقة ماسيف دي ليسترل بجنوب فرنسا، حيث عاش بيكاسو مع زوجته جاكلين روك في عزلةٍ غمرت حياته بهدوء التأمل ونضج الرؤية. على سطح اللوحة تتراقص الألوان الجريئة وخطوط الفرشاة العريضة كأنها تنبض بإيقاع داخليّ يوازن بين الطبيعة والذاكرة، بين صفاء العالم الخارجي واضطراب العالم الداخلي للفنان.
لكن ما يرفع لوحة Paysage إلى مصاف الأعمال التاريخية هو ذاك الحوار المتأخر مع بول سيزان، وكأن بيكاسو يقدّم تحيّةً للفنان الذي أعاد رسم الطبيعة الفرنسية قبله، ليعيد هو بدوره رسم جوهرها من بُعدٍ إنسانيّ وفلسفيّ أعمق.
