عمل الفنان في مجال التصميم والزينة الداخلية جعله يدرك أهمية الابتعاد

عن النمطية في الأشكال والخامات وضرورة التجديد والبعد عن المألوف.

 

 يقول دافنشي: «إنه لخير لك أن تدرس القديم لتستوعبمنه منهجا من أن تقفز طفرة إلى التجديد»

تمثل هذه المقولة بكل تأكيد منهج الفنان العراقي فائق العبودي في الفن، ومسيرته الفنية باتجاه التميز والتجريب المستمر، حيث تمثل اللوحة عنده جسرًا جماليًا يربط التراث بالحداثة، والقديم بالحديث، فلوحاته التي يستلهمها من تاريخ بلاد ما بين النهرين، ومن اللغات القديمة العريقة التي كانت في تلك الرقعة من الأرض، تحمل رموز الخط المسماري التي كانت متداولة في جنوب بلاد ما بين النهرين خلال الألفية الثانية قبل الميلاد. وهو بذلك يقيم علاقة جمالية بين الماضي والحاضر، علاقة لا يستطيع أي من الناس إنشاءها، فهي تعتمد على موهبة الفنان وفطرته وذائقته الفنية وثقل الذاكرة الجمعية الموروثة له من حيث كونه عراقيًا.

إلا أن هذا الاقتباس الجمالي والحسي من اللغات التي لم تعد متداولة الآن، لم يلغِ حقيقة حداثة أعمال العبودي، وتفرده في المزج الساحر بين الغرب والشرق، وبين القديم والحديث في تمائمه اللونية والضوئية.

 

ألوان أكريلك على الخشب، 60x60 سم

ألوان أكريلك على الخشب،
60x60 سم

 

يمكن فهم التجربة الفنية لدى الفنان باستقراء سيرته الإبداعية، حيث بدأ أعماله الفنية بالحروفيات. فهو يجمع بين الفن التشكيلي، وفن الخط العربي، حيث يبدو أن هناك على مستوى اللاوعي عند العبودي الافتتان البصري باللغة المكتوبة، سواء كانت العربية أو المسمارية، فهو كفنان يدرك قيمة جمال الحروفيات، ولعل بيكاسو لم يبالغ حين قال: «إن أعظم ما أردت تحقيقه وجدت أن الخط العربي قد سبقني إليه منذ زمن».

 

ألواح أثرية

في تطور تجربة الفنان الإبداعية مر عمله بالمدرسة الواقعية. فقد احتلت الشناشيل أو «الحارات البغدادية القديمة»، حيزًا زمنيًا في مسيرته، وعلى الرغم من أن موضوع الشناشيل هو موضوع عمل عليه كثير من الفنانين العراقيين، إلا أن العبودي وجد لنفسه تقنية تميز شناشيله عن أعمال بقية الفنانين، باستخدام الألوان الترابية، وبتقنية خاصة تشبه الغرافيك في تلك اللوحات. لكنه بعد تلك المرحلة من رسم الشناشيل بدأ باختزال اللون والشكل، كما يقول الفنان عن تجربته، وبدأ بعملية التجريب في تركيب اللون، وتغيير الخامة المشتغل عليها حتى وصلت أعماله إلى ما يحاكي الرقيمات الأثرية دون أن يقلدها، فيذكّرك بالألواح الأثرية وأنت مدرك تمامًا طبيعة خصوصية أعماله الفنية. إنه يتعمد الاقتراب من تلك التكوينات القديمة بطريقة المعالجة، فالمنمنمات، والأسلوب، وحبكة اللون، والحركة، وطبقات الألوان المستخدمة، ويحرص على إعطاء لوحاته عتقًا وقدمًا تنسجم بشكل جميل مع الرموز التي يحصل عليها من المصادر التاريخية، ومن الذاكرة بما جمعته خلال سنوات من المشاهدة والتجريب والدراسة والخبرة، فتبدو كما لو أنها ألواح أثرية أخرجت للتو من حفريات التنقيب. لكن تنوعها اللوني يجعلها حداثية على نحو يثير الدهشة من جمالية تلك الثنائية «القديم والحديث».

لا يخفى على المشاهد للوحات العبودي بطبيعة الحال، مقدار الأسئلة التي تطرحها لوحاته بتكويناتها اللونية المدهشة. فما الفن إن لم يجبرنا على طرح الأسئلة وإعادة صياغة ثوابتنا التي نظنها غير قابلة للتزعزع؟!

  

ألوان أكريلك على القماش، 70x50 سم.
ألوان أكريلك على القماش،
70x50 سم.
 

" اللوحة جسر جمالي يربط التراث بالحداثة، والقديم بالحديث،

وتستلهم تاريخ بلاد ما بين النهرين وتحمل رموز الخط المسماري

التي كانت متداولة خلال الألفية الثانية قبل الميلاد "

 

عن الفكرة والولادة

تولد الفكرة لدى العبودي، كما يصرح بنفسه، صغيرة من خلال حالة خاصة أشبه بالمخاض، تملؤه بالمشاعر والأحاسيس المتضاربة، فيجهز خامته، ويبدأ في رحلة التأمل، متخيلاً الدهشة الجديدة التي عليه أن يختلقها على صدر اللوحة الفارغة التي تنتظره. وعلى هذا الأساس يبدأ بالعمل. وقد تتطور تلك الفكرة في أثناء العمل. وقد تتلاشى في مرحلة ما ليحل غيرها محلها. وكأن الفكرة هي التي تحركه، تجعله يكمل، ويلغي، يمحو ويعيد، من خلال لعب تلك الفكرة بأحاسيس الفنان، كما لو كانت سيمفونية تتصاعد بهدوء، كما أنها، تلك الفكرة، قد تتوالد خلال سير العمل، فيصبح لديه أفكار للوحات أخرى قادمة، تجبره على الاعتزال والعمل لأيام أو أسابيع دون توقف.

 

فسيفساء الشكل واللون

تتميز لوحات الفنان فائق العبودي بكونها عدة طبقات لونية، متراكبة بعضها فوق بعض بشكل ملموس، تغطي إحداها الأخرى، قد تصل تلك الطبقات حسب الفنان إلى عشر طبقات أحيانًا، كل طبقة أو جزء فيها هو لوحة صغيرة إن أنت حاولت تأطيرها في خيالك وعزلها عن بقية الأجزاء اللونية.

إلا أن هذا الجزء الذي يمكن أن يكون لوحة بمفرده هو جزء من لوحة كبيرة في الوقت نفسه، وكأن ذلك تحدٍّ لوني صارخ. فالجزء يمكن أن يصبح كلاً متجانسًا مكتملاً بمفرده، دون أن يكون منفصلاً عن الكل عندما تنظر إليه على أنه جزء من هذا الكل. وهنا يكمن التحدي. فإنتاج جزء فني مستقل بذاته، ثم جعله قطعة في فسيفساء كاملة بكل ذلك التناغم والتناسب أمر ليس بهين، يلزمه الخبرة والموهبة والإحساس والتوحد في كينونة اللوحة حتى لحظة توقيعها، وإطلاقها عملاً فنيًا متكاملاً. كل ذلك يسبب قلقًا كبيرًا للفنان، منذ بداية مشروعه الفني المتمثل في اللوحة في كل مرة، حتى توقيعها وولادتها بشكلها النهائي.

 

ألوان أكريلك على القماش،
120x55 سم.

 

" احتلت الشناشيل حيزا زمنيا في مسيرة العبودي

وابتكر لنفسه تقنية تميز شناشيله عن أعمال بقية الفنانين

باستخدام الألوان الترابية وبتقنية خاصة تشبه الغرافيك "

 

بين التنافر والحفر

يقول الفنان الهولندي فان كوخ في رسالة لأحد أصدقائه: «إنك تعلم إنه إذا كان ثمة شيء جدير بالتقدير فما أنا بصدد إنتاجه، وهو ليس وليد المصادفة، إنما هو ثمرة لقصد حقيقي».

إن المتابع لأعمال الفنان العبودي، بدءًا من رسم الأزقة القديمة، حتى مرحلة التجريد والاختزال، سيدهشه مقدار التجريب الذي تتعرض إليه لوحاته، والتغيير الذي يعتريها، على الرغم من أنها تمتلك تلك السلسلة الخفية التي تربطها معًا، وتجعل تمييزها كأعمال له واضحًا كما لو أن هناك توقيعًا خفيًا تدركه بحواسك منذ اللحظة الأولى.

فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن غالبية أعماله تتميز بالطبقيات، وكونها سطوحًا متباينة، متنافرة بأبعادها أحيانًا، إلا أن السطوح ذاتها تخضع لعمليات مختلفة تجعلها تسير في تطور مستمر، وتجعل من التغيير فكرة يراها الملاحظ لتلك الأعمال. فتغير الخامات، واستخدام فن الغرافيك مع الألوان الأساسية والدافئة، واستخدام الخطوط النافرة التي تعاكس في المشهد البصري تقنية الغرافيك المحفورة باتجاه القاع، والتغيير في حاملة الألوان، يجعل من اللوحات سلسلة لا متناهية من أعمال التجريب الفنية التي تقدم إليك حاضرًا منكهًا بماض سحيق، أو ماضيًا ملونًا بألوان الحاضر. وهذا يمنح اللوحة بعدًا ثالثًا خارجيًا أو داخليًا، نحو العمق أو نحو السطح. وفي كل الحالات تبقى بنية اللوحة متماسكة سواء في اللون، أو في العناصر، أو في الرموز والأشكال الطاغية على العمل. وتبقى الرسالة الجمالية بكل أبعادها حاضرة بقوة في كل تجريباته وتغييراته.

لعل عمل الفنان في مجالي التصميم والزينة الداخلية، جعله يدرك أهمية الابتعاد عن النمطية في الأشكال والخامات، وأهمية التجديد والغرابة والبعد عن المألوف. فليست كل أعماله ذات حواف مستقيمة، بل إن منها ما قد تعرض للكي، والحرق، والقص، واللصق، وغيرها من العمليات الفيزيائية أو الكيميائية، لتصبح حوافَّ غير مستقيمة، أو عشوائية، أو قديمة، أو متآكلة، أو دائرية وغير منتظمة.

 

ألوان حارة

يتبنى الفنان الألوان الحارة أكثر من غيرها، ربما جاء ذلك من جذوره العراقية، التي تحمله إرثًا ومخزونًا ثقافيًا يطوعه من خلال أعماله. لكنه على الرغم من ذلك يبقى متنوعًا في حاملة الألوان التي يستخدمها، خصوصًا أنه يغير من تركيبة ألوانه كيميائيًا ليطوعها تمامًا لموضوع لوحته. هذا التدخل الكيميائي في تركيبة الألوان جاء أيضًا كما هي تقنياته وأشكاله وطبقاته ورموزه، نتيجة أعمال البحث والتجربة المستمرة خلال سياق العمل.

 

ألوان أكريلك على الخشب،
55x55 سم.
 

" يحتاج العبودي إلى مغادرة لوحته،

والعودة إليها لاحقا في اليوم التالي،

لكي يستطيع أن يتخذ القرار بتوقيعها، أو إكمال العمل عليها " 

 

توقيع لوحة

يحتاج العبودي إلى مغادرة لوحته، والعودة إليها لاحقًا في اليوم التالي، لكي يستطيع أن يتخذ القرار بتوقيعها، أو إكمال العمل عليها. يستطيع عند العودة لاحقًا اتخاذ القرار فورًا بإكمال اللوحة أو توقيعها، وقرار إنهاء اللوحة يعد معضلة صعبة تواجه كل فنان حقيقي، لأن اللوحة ليست لونًا، وضوءًا، وخطوطًا، وأشكالاً فحسب. بل هي عند أغلب الفنانين علاقة متبادلة لا تقف عند حدود اللون والضوء والشكل، إنما تذهب بعيدًا إلى أعماق الروح والمشاعر. وهو يعلق على ذلك بقوله: «عندما تكتمل اللوحة أشعر بها تهمس لي: «اكتفيت».

في النهاية، إن تجربة الفنان فائق العبودي تجربة تستحق الوقوف عندها، فضلاً عن احترامها. وبحسب ما كتبت الناقدة السويسرية لورانس فولكنر سيبوز عن الفنان: «إذا كان فولتير قد رأى أن الكتابة هي صوت الكلام، فإن العبودي برسمه لحروف الكتابة القديمة أعطاها حقها في الصوت والكلام».