من متابعة أبيها فنيا، إلى استقلالها بألوانها وأفكارها وآفاقها،

امتد ذلك العمق الذي أوله متعة بصر، وآخره تجل في الروح.

 

ما بين تخصص نجلاء السليم الجامعي في الكيمياء، وتأكيد ذاتها الفنية المميزة في دراستها للفنون الجميلة في الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1414هـ، وما بين تأثير والدها الفنان الرائد محمد السليم، رحمه الله، الذي لقنها أبجديات الفن الأولى، وبين العمل التربوي لتدريس التربية الفنية- كانت تجربة نجلاء السليم تتبلور وتتشكل منذ بدايات حضورها للساحة الفنية في عام 1983، وحتى معرضها الشخصي الثالث «روح المدينة» الذي أقامته في جاليري نايلا بالرياض في 9 مايو 2017.

  

كان والدها مصدر إلهامها منذ سنوات عمرها الأولى. إنه رائد من رواد الفن التشكيلي السعودي رافقته في كل مراحل حياته. تشبعت بالفن معه وهو يدرس الفن من منابعه في فلورنسة، وعايشت ساعات يومه وهو يؤسس لمدرسته الفنية «الآفاقية» التي جاءت حصيلة تأملات عميقة لأفق الصحراء، وامتداد المجال البصري، وإيقاعات مستويات السطوح ما بين الرمال والجبال والسماء بطياتها وألوانها عند الغروب أو الشروق. دفعها تأثرها بوالدها لممارسة الرسم بحب شديد طورته عبر مشوارها الفني بأسلوبها وشخصيتها، إلى أن توفي والدها في عام 1997 خارج الوطن في إيطاليا، وشكَّل لها ذلك حزنًا عميقًا توقفت بسببه عن ممارسة الفن لما يقارب سبع سنوات، وعادت بعدها لترسم تمامًا بأسلوبه نفسه بعزيمة وإصرار، وكأنها تستحضر وجوده وريادته الفن السعودي من خلال هذا الأسلوب. وكانت في الوقت نفسه تضع خطواتها على طريق تحقيق ذاتها ورؤيتها الإبداعية التي لا يمكن أن تقاوم انبثاقها وخروجها للنور على الرغم من انتقاد بعضهم لها ووصفهم عملها بأنه نوع من التقليد. إلا أنها كانت ترى أنه تأثر طبيعي، وكانت تؤمن بأنها ستجد ذاتها الفنية الخاصة بعد حين، وهو ما تحقق لها بعد سنوات من تقديم تجاربها المتعددة داخل الوطن وخارجه.

 

مقاس اللوحة: 100×100سم. الخامة: ألوان إكريليك على قماش. مجموعة «روح المدينة».
مقاس اللوحة: 100×100سم.
الخامة: ألوان إكريليك على قماش.
مجموعة «روح المدينة».

 

لقد اتاح لنجلاء السليم تقاعدها المبكر عن المجال التربوي الفرصة لصفاء الذهن، وتكوين رؤى جديدة، والتفرغ التام لممارسة مزيد من التجارب في مرسمها الخاص الذي تستضيف فيه طالبات أقسام الفنون البصرية لمناقشتهن والأخذ بأيديهن. كما تقدم نجلاء إسهامات ثقافية من خلال المحاضرات الفنية وتحكيم المسابقات، وهذا النوع من العطاء والوفاء تعلمته وورثته من والدها أيضًا.

 

تمثل المشاركات الخارجية لنجلاء تفاعلاً مختلفًا عن تلك المشاركات الداخلية، فهي ترى أنها تحدد ما توصل إليه الفنان على المستوى العالمي، وعلى هذا فهي مختلفة في معطياتها ونتائجها عن تلك التي في داخل الوطن. قدمت نجلاء معرضها الشخصي الأول «الأكنة» خارجيًا في دبي عام 2012، والثاني «شجار» داخليًا في الدرعية عام 2015، يضاف إلى ذلك مشاركتها في أكثر من 40 معرضًا في كل من الكويت وقطر والأردن ولبنان والقاهرة والمغرب وفرنسا والصين. شاهد الجمهور في كل تلك الأماكن لوحاتها التي تفيض بعمق الانتماء لبيئتها النجدية بتفاصيلها التي تختمر في ذاكرة نجلاء وتعود للحضور مرة أخرى عبر فرشاتها التعبيرية التجريدية ومجموعاتها اللونية المنسجمة على سطح اللوحة وكأنها معزوفة ذات إيقاع متناغم.

 

مقاس اللوحة: 100×100سم. الخامة: ألوان إكريليك على قماش. مجموعة «روح المدينة».
مقاس اللوحة: 100×100سم.
الخامة: ألوان إكريليك على قماش.
مجموعة «روح المدينة».

 

استخدمت نجلاء المعالجات الرأسية للأشكال البشرية الأنثوية في معرضها «الأكنة» في محاولة للانعتاق عن تأثير والدها بعد مرحلة من النضج الفني لأسلوبها الخاص لمعالجة موضوع المرأة المكنونة في بيتها، والمتفرغة لزوجها وأولادها والتي تقع تحت ضغوط الحياة. تحاول الفنانة أن تجعل المرأة في بؤرة الضوء الأصفر المتوهج لتوجِّه أنظار الآخرين للاهتمام بها. ثم انتقلت في معرضها «شجار» لمعالجة عنصر الشجرة والجمع بين الرأسي والأفقي، إلا أنها عادت مرة أخرى للمعالجة الأفقية الصريحة للعناصر المعمارية في آخر محطاتها الفنية «روح المدينة» الذي استوحته من تساقط المدن العربية من حولها كحمص وحلب، بينما تبقى روح هذه المدن حية. من هنا جاءت فكرة هذا العنوان للمعرض. فقد عرضت فيه 25 لوحة بأحجام مترية كبيرة نفذتها بألوان الأكريليك، كشفت فيها نجلاء عن حضور العمق البحثي وانعتاقها من حدود الصحاري إلى كيان المدينة. من إيقاع الأحداث وتداخل البنيات وتلاحمها من حولها، تجد نجلاء كثيرًا من المعاني التي تلهمها وتثير مشاعرها: تارة تعتصر لوحاتها حزنًا، وتارة تتراقص فرحًا، يشعر المتأمل لها وهو يقف أمامها بأنها تهبط وتعلو، خصوصًا أن الفنانة اختارت مساحة كبيرة لتنفيذ اللوحات تجذبنا إلى داخلها وتستولي على أرواحنا لنعيش اللحظة فيها طبقات أفقية تضيق في وسط اللوحة وتتباعد في أطرافها وكأنها تتنفس.

 

جوهر المدينة يظهر في اهتمام نجلاء السليم وحرصها على من يسكنها من الكائنات الحية والجامدة.

إنها تعمل على أن تسهم في جعل العالم مكانا أفضل خاليا من التلوث والأمراض والفقر والجهل

 

إن عودة الفنانة للتكوينات الأفقية ليست تقليدًا لوالدها، بل هو صدقها في التعبير عن بيئتها النجدية التي عايشت صحاريها وتعمقت فيها. فالنخلة والمرأة والنباتات البرية عناصر تناولتها الفنانة كما تؤكد ذلك مجموعاتها اللونية، والتي جاءت متميزة في درجاتها الترابية والخضراء والبيضاء والرمادية لتعكس السكون والهدوء، وتعكس شخصيتها الأنثوية الرقيقة طبقتها على سطح اللوحات بتقنية السكين المرهفة دون تكتلات عنيفة لتعكس حالة الهدوء والانسجام التي تعيشها الفنانة في أثناء تنفيذ العمل. إنها تمارس التجريدية التعبيرية باختزال أكبر قدر من اللون، والتركيز على التدرجات لإحداث الإيقاع البصري بأسلوب معاصر متميز ذي هوية سعودية نسائية.

 

تحاول نجلاء في معرضها استنطاق المدينة الإسمنتية وإنعاش روحها لأنها تراها قادرة على إعادة التوازن لحياة الإنسان ليستمر في عمارة الأرض من خلال القيم الإنسانية. لذا منحت نجلاء لوحاتها في ذلك المعرض عناوين مثل «تسامح» و«سلام» وغيرهما.

 

إن الفن عند نجلاء إنما هو لغتها في التعبير عن ذاتها وسط المجتمع والحياة. فمن خلال إيقاع اللون وتداخل الأشكال المختزلة والمجردة تسقط ما في أعماقها من مشاعر وردود فعل تهديها للمتلقي الذي يتفاعل بدوره معها ويسقط ذاته بطريقة أخرى. إنها بذلك تكون قد نجحت في استكمال حلقة الفن المعاصر بطريقة واعية.

 
مقاس اللوحة: 100×100سم. الخامة: ألوان إكريليك على قماش. مجموعة «روح المدينة».
مقاس اللوحة: 100×100سم.
الخامة: ألوان إكريليك على قماش.
مجموعة «روح المدينة».

 

تقول نجلاء السليم في مقدمة كتيب معرضها الأخير: «لم أجد من يكتب عن روح المدينة من قبل. كثيرًا ما نجد كتبًا تحكي عدة اتجاهات بشكل خاص عن المدينة. هناك اتجاهات شتى: منها ما يركز على تاريخها، ومنها ما يسلط الضوء على مظاهر الترفيه فيها، ومنها من يحاول رصد ناطحات السحب التي تحجب آفاقها وغير ذلك كثير.

 

بينما روح المدينة أشد أهمية لأنك تكتشف أسرار المدينة وجماليات لا ترى بالعين وإنما يستشعرها المرء بوجدانه. إن جوهر المدينة يظهر في اهتمامها وحرصها على من يسكنها من الكائنات الحية والجامدة. إنها تعمل على أن تسهم في جعل العالم مكانًا أفضل خاليًا من التلوث والأمراض والفقر والجهل».